أخبار - 2021.08.24

مؤتمر قربة: حقائق تحفظها الذاكرة

مؤتمر قربة: حقائق تحفظها الذاكرة

بقلم الأستاذ عادل كعنيش - للحديث عن مؤتمر الاتحاد العام لطلبة  تونس الذي انعقد بقربة في أوت 1971 يتعين الرجوع الى جملة من الحقائق التي برزت على الساحة الطلابية منذ مؤتمر المهدية لسنة 1969 خاصة وإن البعض منا كانوا شهود عيان لأنهم أنتخبوا بالهيئة الإدارية للاتحاد في مؤتمري المهدية 1969 و مؤتمر قربة 1971.

فقد انعقد هذا المؤتمر في ظل تحولات عميقة حدثت على الساحتين الطلابية والسياسية ويمكن تلخيص هذه التحولات في خمسة نقاط:

- أولا: إن مؤتمر المهدية الذي انعقد في سنة 1969  قد عرف تغييرا هاما على مستوى تركيبة الطلاب فلأول مرة يصبح عددا الطلبة التونسيين المزاولين لدراستهم بتونس اكبر من عدد الطلبة اللذين يدرسون بالخارج فبرز من خلال المؤتمر اهتمام متزايد بالجامعة التونسية وبرامجها وطريقة التدريس داخلها ونظام الرسوب فيها وكل ما يتعلق بسير نشاطها وهو معطى هام لان أغلبية الطلبة في السابق كانوا يدرسون بالخارج فلم يكن للمنظمة النقابية اي دور في تقديم اقتراحات حول ما يتعلق بنظام الدروس وطريقة الرسوب وبالتالي فقد أصبح للمنظمة الطلابية دور نقابي هام بعد أن كان ثانويا في الماضي.

ولبلورة هذا الدور برزت من خلال المؤتمر نزعة استقلالية حتى يتسنى لممثلي الاتحاد الاضطلاع بدورهم الجديد الذي قد يفرض عليهم الاختلاف مع الإدارة.

- ثانيا: إن الجامعة التونسية عرفت أحداثا لم تألفها من قبل خاصة انطلاقا من مارس 1968 حيث حصلت مظاهرات ومشادات كبيرة بين قوات الأمن والجموع الطلابية أدت إلى تعجيل الإدارة بغلق الجامعة في مارس 1968 قبل موعد عطلة الربيع بأيام كما ان المحاكمات التي نظمت بتونس في صائفة 1968 شملت العديد من الأساتذة الجامعيين والطلبة وهو معطى هام أدى إلى تسييس كبير داخل الجامعة لم يكن مألوفا من قبل فانضافت محاكمة اليساريين والبعثيين سنة 1968 إلى محاكمة بن جنات التي حصلت سنة 1967 عقب الأحداث التي عرفتها الجامعة بمناسبة حرب جوان 1967 لتزيد في تسييس الجامعة.

- ثالثا: إن اشتداد الحرب التي كانت تخوضها  أمريكا بالفيتنام ومؤازرتها المطلقة لإسرائيل خلف موجة من الغضب و الإدانة للولايات المتحدة الأمريكية فكان الطلاب في كل أنحاء العالم معارضين لحرب الفيتنام ومنددين بها وقد انعكس هذا الموقف على الطلبة التونسيين الذين كانوا حاقدين على السياسة الأمريكية وكانوا يغتنمون فرصة زيارة أي مسؤول أمريكي سامي للبلاد لتنظيم مظاهرات صاخبة وقد عرفت الجامعة اضطرابات كبرى خاصة أثناء زيارة هامفري وروجرس إلى تونس وهو أمر كانت لا تقبله السلطة السياسية وخاصة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي كان حريصا على إن تكون علاقات تونس مع الولايات المتحدة الامريكية متميزة لاسيما وان هذه الأخيرة كانت تقدم إلى تونس معونات غذائية وغيرها.

- رابعا: ان الجموع الطلابية وان كانت متحمسة للتوجه الاشتراكي الذي ثبت في البلاد انطلاقا من مؤتمر الحزب الذي انعقد ببنزرت سنة 1964 والذي اقر استبدال تسمية الحزب بالحزب الاشتراكي الدستوري عوضا عن الحزب الحر الدستوري  فان هنالك أخطاء كبيرة ارتكبت أثناء تعميم نظام التعاضد فقد أصبح الوضع الاقتصادي اشد تعقيدا وظهر تململ كبير في أوساط الفلاحين والطبقات الكادحة ومما زاد الأمر تفاقما أزمة الجفاف التي عرفتها البلاد قبل سنة1969 فكانت هنالك حيرة لدى الطلاب خاصة و أنهم يشاهدون تناقضا على المستوى السياسي فالدولة كانت مندفعة إلى حد كبير في تعميم التعاضد من جهة وكانت لا تخفي امتعاضها من الحركات الاشتراكية في العالم فبدا التوجه السياسي مضطربا إلى حد كبير وقد اغتنم بعض الأفراد التململ الشعبي الذي بدا يبرز في أكثر من مكان لتوجيه نقد جرئ للتجربة الاشتراكية في تونس محذرين من المخاطر التي أصبحت تهدد استقرار البلاد وسلامتها.

- خامسا: إلى جانب هذه المتغيرات فان الصراع العربي الإسرائيلي وهزيمة جوان 1967 قد خلقت حالة من الإحباط لدى العديد من الطلبة والمثقفين ولكن تطورت الأحداث بعد هذه الهزيمة وكان لمنظمة التحرير الفلسطينية والجيش الأردني أداء مشرف في معركة الكرامة التي دارت ضد إسرائيل في الأردن سنة 1968 وظهرت في مصر حرب الاستنزاف وهي مواجهة يومية كانت قائمة بين الجيش المصري والقوات العربية الموجودة إلى جانبه من جهة والجيش الصهيوني من جهة أخرى فتحسن أداء الجيوش العربية و بدأت وطأة الإحباط تخف على المواطن في العالم العربي وبرزت قناعة لدى الجميع مفادها أن إسرائيل لم تنجح في حربها سنة 1967 إلا نتيجة تواطؤ حصل بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة أنظمة عربية كانت معادية لعبد الناصر وبالتالي فان  إمكانية النصر تبقى واردة إذا حصل تضامن عربي فعلي و إذا تخلت الأنظمة اليمينية العربية عن عدائها الكبير للأنظمة التقدمية في العالم العربي فبدا هذا الوعي يدب في الجامعية خاصة مع التحاق عدد كبير من الطلبة الذين كانوا يدرسون بشعبة "أ" فكان تكوينهم العروبي أكثر تجذرا في غالب الأحيان واثروا بفضل حركتيهم على ملء فراغ كبير في الجامعة حيث كانت المعارضة قبل وصولهم تقتصر على الحركات اليسارية سواء من الشيوعيين أو من أقصى اليسار فتواجد داخل مدارج الكليات عدد كبير من الطلبة ولئن لا يصح القول في حقهم بأنهم من القوميين العرب لعدم وجود تنظيم بتونس يحمل هذه التسمية إلا أنهم  طلاب تونسيون لهم ميولات عربية وهو عنصر هام سيكون له تأثير كبير على مجريات الأحداث داخل  الاتحاد العام لطلبة تونس.

في خضم هذه  الملابسات بدأت أشغال مؤتمر المهدية في صائفة 1969 وكان من الواضح أن اغلب الموتمرين يرغبون في تحرير المنظمة من الوصاية التي كانت تفرض عليها من طرف الحزب الاشتراكي الدستوري وهو ما جعل المناقشات داخل لجان المؤتمر ثرية وساخنة إلى أن تمكن غالبية الحاضرين من تكريس هذه الاستقلالية في لوائح المؤتمر وهو امر لم تتوصل إليه آنذاك المنظمة العمالية التي كانت على وفاق مع الحزب خاصة وانه كان يرأسها المناضل المرحوم الحبيب عاشور الذي كان ينتمي في نفس الوقت إلى الديوان السياسي للحزب.

حاولت السلطة السيطرة على الوضع إبان المؤتمر وتقدمت بمرشح لها وهو رجب الحاجي ولكن المؤتمرين صوتوا لفائدة هيئة إدارية تضم عناصر طلابية جديدة  متشبعة بالنفس الاستقلالي للمنظمة فانتخبت لاحقا عيسى البكوش الذي استقطب الأنظار وخلق إجماعا حوله نتيجة خطابه الواقعي والمتفتح والذي كان يهدف إلى ترسيخ استقلالية الاتحاد بدون أية قطيعة مع السلطة.

ولكن الأحداث التي جدت بعد مؤتمر المهدية زادت الوضعية تأزما وهذه الأحداث هي:

1- وقفة التأمل التي دخلت فيها البلاد بعد أن ابعد احمد بن صالح عن وزارات التخطيط والاقتصاد ثم المحاكمة التي استهدف إليها مع بعض العناصر الأخرى القريبة منه فاعتبر انه المسؤول الوحيد عن تجربة التعاضد والحال أن هذه الحركة قد حظيت في البداية بتأييد واسع سواء على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبي وقد خلقت هذه المحاكمة والظروف التي تمت فيها موجة من الاستياء لدى عديد الدستوريين وبطبيعة الحال فإنها أثرت سلبا على المناخ العام للبلاد وظهرت بين الحزبيين باتحاد الطلبة كتلة من الدستوريين الغاضبين وهو ما أدى الى حالة من الاحتقان داخل المنظمة الطلابية وداخل الجامعة.

2- ان المرض الذي برر به الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة مغادرته للبلاد والبقاء في الخارج مدة طويلة للتداوي جعل بعض الوجوه السياسية التي أصبحت فيما بعد تنتمي إلى التوجه الليبرالي تطالب القيام بتقييم شامل حتى لا تنحصر المسؤولية في احمد بن صالح وكانت ترى أن هنالك إنحراف حصل في سياسة البلاد وذلك بالإقدام على تجربة التعاضد التي هي تجربة لا تتماشى والواقع الاجتماعي للبلاد.

هذا الانحراف ناتج بالأساس عن ضعف الهياكل السياسية في البلاد وبالتالي أصبح هؤلاء الجماعة ينادون بإقرار إصلاح سياسي واقتصادي شامل و إجراء تحوير للدستور حتى يتدرج النظام السياسي من نظام رئاسي بحت إلى نظام برلماني تكون فيه الحكومة مسؤولة مسؤولية مباشرة أمام مجلس النواب الذي كان يسمى مجلس الأمة وقد لقيت اقتراحات هذه الجماعة صدى كبيرا بالبلاد مما جعل الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة يبدي في خطاب يوم 8 جوان 1970 استجابة لهذه المطالب ويعلن عن نيته في إجراء إصلاحات دستورية هامة وتكونت لجان في كل الجهات لتقديم اقتراحات عملية حول الدستور الجديد لكن مع مرور الأيام وقع التراجع في هذا الخيار ولم تتضمن الإصلاحات الدستورية إلا أشياء بسيطة للغاية وذلك بإنشاء خطة وزير أول لأنه لم تكون هذه الخطة موجودة من قبل بل كانت هناك خطة كتابة الدولة للرئاسة التي اضطلع بها سنوات عديدة المرحوم الباهي الادغم واستبدلت تسمية كتاب الدولة بالوزراء لأسباب بروتوكولية بحتة.

فشلت إذا كل المحاولات لتنقيح الدستور وبقيت الدراسات المطولة التي أعدتها أكثر من جهة بما فيها المنظمة الطلابية حبرا على  ورق فخلق ذلك موجة من الاستياء لدى بعض الوجوه السياسية البارزة وفي مقدمتها احمد المستيري الذي أصبح منذ ذلك الوقت يتكلم باسم التيار الليبرالي وقد انعكس هذا الاستياء على الطلبة الدستوريين الذين اخذ الكثير منهم مسافة من إدارة الحزب و اصبحوا مساندين للتيار الليبرالي الجديد الذي بات جزءا من المعادلة السياسية في البلاد
في خضم هذه الأحداث كان عيسى البكوش يقود الاتحاد العام لطلبة تونس بنوع من الصعوبة لان الاشكال لم يعد قائما بين المعارضة والدستوريين بل ان الخلافات قد تكاثرت وتعددت بين الدستوريين أنفسهم الذين أصبحوا على فئات ثلاث:

فئة موالية لادارة الحزب
فئة الاشتراكيين الغاضبين
فئة الليبراليين

ولم يكن هناك من حل أمام الكتابة العامة للاتحاد إلا التقيد بلوائح المؤتمر والوقوف الى جانب الطلبة في كل قضاياهم فتبنى الاتحاد موضوع تعريب التعليم الذي أصبح من المطالب الهامة ونظم أسبوع التعريب في بداية 1970 وحضرت فعالياته خلال اليوم الأول جموع غفيرة و ألقى محمد مزالي مداخلة في ذلك اليوم لكن أسبوع التعريب أوقف في اليوم التالي بتعليمات من السلط العليا.

تبنى الاتحاد القضية الفلسطينية وسعى للتعريف بها داخل الأوساط الطلابية التي كانت لا تعرف عنها الكثير باعتبار ان اليسار التونسي الذي وجدت داخله عناصر لائكية مسلمة كان يحاول في البداية تهميش هذه القضية ونظمت العديد من الأسابيع بدور الثقافة بالتعاون مع بعض الطلاب الفلسطينيين الذين توافدوا منذ ذلك التاريخ على البلاد بناء على التعاون بين المنظمتين الطلابيتين التونسية والفلسطينية.

نظم الاتحاد إضرابات عامة بكل الكليات والمعاهد في فيفري 1970 بمناسبة زيارة روجرس وزير خارجية الولايات المتحدة الامريكية إلى تونس ودعا إلى تجمع كبير ببورصة الشغل بالعاصمة وقد أوقف عقب هذه الأحداث بعض العناصر من الهيئة الإدارية والمكاتب الفيدرالية فكان الاتحاد متضامنا معهم التضامن الكامل وقام بدوره في الإفراج عنهم بكل سرعة.

أعطي للصحافة الطلابية والمسرح الجامعي بعدا تقدميا و أصبحت جريدة الطالب وفرقة المسرح الجامعي آليات تعكس الثراء الفكري الذي كان موجودا داخل الجامعة التونسية ويمكن القول أن هذه الفترة كانت فترة انتعاشة بالنسبة للمنظمة الطلابية.

لم يحصل ذلك من طرف السيد عيسى البكوش بمفرده بل كان ثمرة مجهود جماعي قامت به هياكل الاتحاد التي عرف عيسى البكوش كيف ينشطها في جو ديمقراطي بحت. لكن علاقة السلطة بالمنظمة لم تكن على أحسن حال فالإدارة القديمة للحزب لم تكن تنظر بعين من الرضا لهذه السياسة خاصة وان المنظمة أصبحت تشغل نفسها ا كثر من اللزوم بقضايا سياسية داخلية وأصبحت الهيئة الإدارية للاتحاد مسرحا للصراعات بين الدستوريين أنفسهم وقد تعمق الخلاف بعد إزاحة المرحوم الباهي الادغم من الوزارة الأولى في فترة اكتسب فيها هذا الأخير بعدا دوليا عندما ترأس اللجنة العليا للمصالحة بين الفلسطينيين والنظام الأردني إبان أحداث أيلول الأسود (سبتمبر) 1970 والتي مات على إثرها الزعيم جمال عبد الناصر فباتت هنالك تجاذبات كبيرة بين أعضاء الهيئة الإدارية للاتحاد بمختلف انتماءاتهم الفئوية والذين كانت غالبيتهم تقبل في النهاية تاييد الخيارات التي يتخذها الرئيس بورقيبة وترفض أن تنساق أكثر من اللزوم في الصراعات الداخلية التي كثيرا ما تغيب فيها المصلحة العليا للوطن.

في خضم هذا الصراع اجتمعت الهيئة الإدارية للاتحاد في افريل 1971 وكانت نية جانب كبير من أعضائها إدخال تغيير على راس المنظمة ولما تأكد الكاتب العام للمنظمة من هذا التوجه قدم استقالته ليقع انتخاب محمد الصغير داود الذي تولى الإشراف على تحضير مؤتمر قربة كما غادر المكتب التنفيذي تضامنا مع عيسى البكوش كل من عياض النيفر واحمد بلطيف.

حصلت الانتخابات لنواب المؤتمر وكانت الغالبية من الدستوريين ولكنهم كانوا بطبيعة الحال منقسمين لثلاث كتل:

الموالون لإدارة الحزب

الاشتراكيون

الليبراليون

والى جانب الدستوريين كان هناك عدد قليل من الشيوعيين يمثلون طلبة كلية العلوم واليساريين ويمثلون كلية الآداب وأصحاب الميولات القومية  ولم يكن هنالك تواجد لأي تيار إسلامي.

فماذا حصل في مؤتمر قربة وهل صحيح ان هذا المؤتمر لم يتمم أشغاله ؟ وان الهيئة الإدارية التي انبثقت عنه كانت غير شرعية؟

ان المشكل الكبير الذي عرفه مؤتمر قربة هو مشكل الانقسام العميق الذي دب في صفوف الدستوريين فكان هنالك شق منهم يرى أن استقلالية المنظمة تفرض ان يكون هنالك خط احمر لا يمكن تجاوزه حتى يبقى الاتحاد على علاقة مقبولة مع ا لسلطة فيكون مسموعا لديها وبمقدوره أن يدافع على مصالح الطلبة لكن هنالك من يرى ان الاتحاد العام لطلبة تونس يعبر عن ضمير الطلبة الذين هم في طليعة القوى المنادية بالديمقراطية.

وبالرغم من التنافر التقليدي بين الاشتراكيين والليبراليين فان مؤتمر قربة شهد تقاربا بين هذين الاتجاهين وذلك لإعادة ترشيح عيسى البكوش فهم يرون انه أزيح عن الاتحاد في ظروف غير مقبولة وهذا الموقف لم تكن تقبله إدارة الحزب التي كانت ترغب في ترويض هذه المنظمة وذلك بتزكية مرشح قريب منها ألا وهو الأخ الحبيب الشغال.

لم تكن المعارضة في المؤتمر مهتمة كثيرا بموضوع الأمانة العامة للاتحاد لعدة أسباب:

أ‌- لان اليساريين وكعادتهم جاءوا للمؤتمر للدفاع عن مواقف معينة وهم لا يرغبون في تحمل أية مسؤولية بمركزية الاتحاد ويعتبرون أن الخلافات بين الحزبيين هي خلافات لا تعنيهم لأنهم يعارضون الحزب بصفة مطلقة بكل تياراته وحساسياته.

ب‌-  الشيوعيون وقد كانوا قلة وكانوا يرغبون في الدخول إلى الهيئة الإدارية بدون أن تكون لهم أية أفضلية بين عيسى البكوش و الحبيب الشغال لأنه بالنسبة إليهم كلا الطرفين هما من رحم الحزب وهم غير معنيون إطلاقا بالصراعات الداخلية في الحزب.

ت‌- أصحاب الميولات القومية الذين اعتادوا على الاختلافات مع الحزبيين ولكنهم وجدوا أنفسهم في حيرة كبرى نظرا لحدوث انقلاب عسكري في السودان قبل انطلاق المؤتمر بأيام قلائل وقد دبر هذا الانقلاب أبوبكر عوض الله الذي يعرف بانتمائه للشيوعيين و  لما كان في طريق العودة من لندن إلى السودان اختطفت طائرته من طرف القوات الجوية الليبية إثناء مرورها عبر الإقليم الجوي الليبي وسلم فيما بعد لجعفر النميري الذي أعيد إلى السلطة بعد أن أذن الرئيس أنور السادات بإرجاع القوات السودانية التي كانت مرابطة على الضفة الغربية لقناة السويس وقد اعدم القائد الانقلابي فانطلقت حملة كبرى من التشويه بين الشيوعيين والقوميين في أكثر من بلد من البلدان العربية وكان الشيوعيون التونسيون يحرصون على ان يصدر مؤتمر الطلبة لائحة للتنديد بالممارسات التي أقدم عليها الرئيسان القدافي والسادات لإرجاع جعفر النميري للسلطة فوجد  القوميون أو ما يحرص عادل كمون وهو مناضل كبير بالاتحاد على تسميتهم بأصحاب الميولات القومية في الدستوريين خير مناصر للتصدي لمثل هذه اللائحة وإجهاض هذه المحاولة فحصل تقارب كبير ولأول مرة بين الدستوريين الموالين لإدارة الحزب وأصحاب الميولات القومية الحاضرين في المؤتمر وهذا التقارب أدى إلى ارتفاع عدد المساندين لقائمة الهيئة الإدارية التي سوف يقع  الاتفاق عليها لاحقا.

الثابت  أن المشكل في مؤتمر قربة لم يكن مشكلا يهم الدستوريين والمعارضين بل هو مشكل يهم الدستوريين لا غير.

وفي الوقت الذي كان الحوار يدور ساخنا داخل لجنة السياسة العامة بين المؤتمرين حول استقلالية المنظمة واليات التعاون بينها وبين بقية القوى الحية في البلاد كانت كواليس المؤتمر تشهد حركية لا مثيل لها فقد أصبحت بلدة قربة الهادئة مزارا لكل السياسيين من وزراء في الحكم وقياديين بإدارة الحزب ووزراء قدامى ومعارضين وصحفيين مما جعل أشغال المؤتمر تتواصل على مدى تسعة أيام والحال أن التحضيرات والميزانية برمجت لكي يدوم المؤتمر أربعة أيام فقط.
كانت هنالك رغبة من الدستوريين الموالين لإدارة الحزب أن يكون الحبيب الشغال أمينا عاما للمنظمة وان تكون هناك هيئة إدارية قريبة من هذه الإدارة بينما كانت نية الدستوريين الآخرين إجهاض هذا الخيار وتقترح بعض الأسماء الأخرى بما فيهم عيسى البكوش ولم تنجح اية محاولات للتوفيق بين الاتجاهين.

في اليوم التاسع من المؤتمر نظم اجتماع بمقر معتمدية قربة وتم الحديث عن مساندة قائمة معينة ووقع البحث عن الأصوات التي بإمكانها أن تساند مثل هذه القائمة وبعد اتصالات كبرى أدخلت على هذه القائمة تغييرات متعددة حتى تكون ممثلة لعدة حساسيات بما فيه الليبراليين ولما وقع التأكد من أن هذه القائمة بإمكانها أن تحصل على 105 صوت أي ما يزيد عن نصف المؤتمرين فقد وقع ضبط التركيبة النهائية للقائمة وتحول الحاضرون إلى قاعة المؤتمر وعرضوا على المؤتمرين لائحة تحتوي على 3 نقاط:

1- إلغاء كل التنقيحات التي أدخلت على لائحة السياسة العامة بعدان أصبحت هذه اللائحة متناقضة في مضمونها وإقرار مشروع اللائحة الذي عرض على المؤتمر في البداية.

2- وضع حد لأشغال المؤتمر والإعلان عن اختتامه.

3- الشروع بصفة فورية في انتخاب أعضاء الهيئة الإدارية.

وقد حظيت هذه اللائحة بالمصادقة فتم اختتام المؤتمر وشرع في الانتخابات
لم يمنع أي احد من الترشح باعتبار أن الترشحات قدمت من قبل ولم يمنع أي احد من التصويت ولم يقع إيقاف أي احد من المؤتمرين أو تهديد سلامتهم ولكن ما حصر أن بعض العناصر من الدستوريين الغاضبين كانوا يرابطون قرب مكاتب الاقتراع فلما تجاوز عدد المصوتين نصف النواب أي 105 أيقنوا أن الأمر قد تجاوزهم وان النتيجة قد حسمت لفائدة القائمة التي وقع إعدادها بمقر المعتمدية فأعطيت الأوامر لجماعتهم لعدم المشاركة في التصويت وساندهم في ذلك اليساريون الذين كانوا غير راضين على اللائحة السياسية التي صدرت عن المؤتمر باعتبارها أسقطت في الماء كل اقتراحاتهم أما الشيوعيون فانهم كانوا يمنون أنفسهم ببعض المقاعد وبالرغم من عدم حصولهم عليها فان موقفهم من المؤتمر كان موقفا ايجابيا وواصلوا التعامل مع الهيئة المنتخبة.

اجتمعت الهيئة الإدارة وانتخب الحبيب الشغال كما وقع انتخاب مكتب  تنفيذي ضم عديد الوجوه القريبة من التيار الليبرالي وقد حاول الأمين العام الجديد التعامل مع الوضع الجديد بكل تفتح ووطنية وسعى إلى التوفيق بين مختلف الإطراف وواصل بنوع من المرونة الخط الذي انتهجته الهيئة الإدارية السابقة والتي كان يراسها عيسى البكوش فمضى في المطالبة بتعريب التعليم وكان الاتحاد وراء عملية التعريب التي عرفتها كلية الحقوق بتونس عندما انشأ لأول مرة القسم العربي سنة 1972 والذي كان نقطة الانطلاق لتعريب دراسات الحقوق بتونس.

قامت الهيئة الإدارة بأكثر مما هو في وسعها للدفاع عن المصالح النقابية للطلبة في خصوص المنح والمبيت والإسعاف بسنة إضافية لمن لم ينجح في ظرف 3 سنوات في المرحلة الأولى ولكن هذه الهيئة بالرغم من المجهودات الكبرى التي تحملتها  اصطدمت بصعوبات جديدة لعل أهمها:

1- أن الإدارة وعلى عكس ما كان متوقعا لم تمد يد المساعدة لهذه الهيئة رغم قربها منها فلم يمض على انتهاء مؤتمر قربة بضعة أيام حتى وقع التخفيض في مبلغ المنحة إلى 25 دينار فقط بعدان كانت 35 دينارا بالنسبة لطلبة دار المعلمين العليا و 30 دينارا لغيرهم وعبثا حاولت الهيئة الإدارية إقناع السلطة بالرجوع عن هذا القرار الذي شكل حصان طروادة لزيادة الهجوم على الهيئة الإدارية ولم يتوفق الاتحاد الى الوصول الى حل جزئي وهو إرجاع المنحة إلى 30 دينارا بالنسبة لكل الطلبة إلا بعد مجهودات كبيرة سخرها أعضاء الاتحاد في إقناع السلطة والحال أن دورهم كان يتمثل في تلك المرحلة بالأساس في التصدي لحملة التشكيك التي روجها الدستوريون الغاضبون عن مؤتمر قربة.
2- زيادة الانقسامات داخل الحزب والمواجهة العلنية التي اصحبت قائمة بين الوزير الأول المرحوم الهادي نويرة الذي كان نهجه اقتصاديا بحتا وبين احمد المستيري والموالين له والذين كانوا ينادون بالإصلاحات السياسية وبطبيعة الحال فان هذه الانقسامات اثرت سلبا على الحزب ولم يقع حسم هذا الموضوع إلا عندما انعقد مؤتمر المنستير2 والذي سمي بمؤتمر الوضوح.

فهذا التململ أدى إلى الانشغال عن المنظمة الطلابية التي تفجرت خلافات السلطة داخلها بشكل لم يعهد له مثيل.

كثر خصوم الاتحاد من كل حدب وصوب وكان الدستوريون الغاضبون هم أول من أجهض على هذه المنظمة وحرض أغلبية الطلاب الذين لم يحضروا مؤتمر قربة على عدم الاعتراف بالهيئة الجديدة ودفع بالمعارضة لعقد مؤتمر فوضوي في فيفري 1972 بساحة كلية الحقوق بتونس بالمركب الجامعي مما أدى إلى بروز الهياكل المؤقتة ودخول الجامعة في مرحلة من الفوضى التي كانت لا توصف فأغلقت الجامعة التونسية لأول مرة بكل كلياتها ومدارسها في فيفري 1972 عقب أحداث مؤتمر الفوضوي ولم يقع  إعادة فتحها إلا في افريل 1972 بعد حملة من الاعتقالات والتجنيد التي طالت عديد  الطلبة مما استوجب إلغاء دورة الامتحانات لجوان1972 بالكامل.

ضاع الاتحاد العام لطلبة تونس منذ ذلك التاريخ ولم يكتب النجاح لكل المحاولات التي وقع بذلها لترميم هذا الصرح الكبير الذي أسدى خدمات كبيرة للوطن بفضل ما تخرج منه من إطارات على درجة كبيرة من الوعي والكفاءة والوطنية.

مؤتمر قربة لم يكن مؤتمرا غير شرعي بل كان اكبر المؤتمرات ديمقراطية في حياة المنظمة لكن انقسامات الدستوريين هي التي كانت السبب في الإساءة لهذه المنظمة فحرض شق من الدستوريين الغاضبين على عدم القبول بالنتائج التي توصل إليها المؤتمر وذلك بتقديم قراءات فيها الكثير من التجني والمغالطة
الاختلاف هو سمة من سمات الديمقراطية التي تستوجب الالتزام بنتائج الانتخابات فعندما ينتهي التصويت يقع الإقرار بالأمر الواقع ويبدأ الدخول في مرحلة جديدة استعدادا لمؤتمر لاحق أما أن يقع التشكيك في مجريات الأحداث وتقدم قراءات خاطئة لأغلب الطلاب الذين لم يحضروا المؤتمر فقد ادى ذلك إلى انهيار هذا الصرح الوطني ولم تستطع الجموع الطلابية 50 عاما والتي تناهز عددها ألان360 ألف طالب أن تجد أي حل لهذه القضية وذلك بإعادة إحياء هذه المنظمة التي تلاشت ويبدو من الصعب أن تعود في هيكليتها الأصلية من جديد.

قد يتطلب الوضع اليوم البحث عن تصورات جديدة تنبع من الطلاب أنفسهم فلا يمكن أن يتم الإصلاح من غيرهم وتبدو فكرة التجمع في اتحادات طلابية على مستوى كل جامعة هو الأمر الأقرب اليوم للواقع.

عادل كعنيش
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.