وترجّل فارس آخر من فرسان تونس: رحيل رجل الدولة ورائد المعارضة في تونس، المحامي والوزير السابق الأستاذ أحمد المستيري (1925-2021)
بقلم عادل بن يوسف - غادرنا فجر اليوم الأحد 23 ماي 2021 أحد بناة الدولة الوطنية الحديثة وواحد من أقوى وزراء بورقيبة، المناضل ورجل الدولة والوجه المعارض للحزب الحاكم منذ أواخر السبعينات، الأستاذ أحمد المستيري عن سنّ ناهز 96 سنة.
لم يسعفني الحظ بمحاورته في برنامجي الإذاعي "شهادات حيّة" (بإذاعة المنستير على غرار العديد من رجالات الدولة ورفاق دربه وأصدقائه وزملائه من المحامين والمعارضين...)، لكن حصل لي شرف الاتصال به هاتفيا عبر زميلتي وابنة أخيه، الأستاذة صفيّة بنت سعيد المستيري أكثر من مرّة ببيته بالمرسى في منتصف التسعينات أثناء إعدادي لأطروحة الدكتوراه في التاريخ المعاصر حول "طلبة الجامعات الفرنسية (1880-1956)" وكان من بينهم إثر انتقاله لدراسة الحقوق من الجزائر إلى باريس في أعقاب الحرب العالمية الثانية بين 1945 و 1948. كما اتصلت به لاحقا للاستفسار عن تنظيم اليد الحمراء بتونس بين 1952 و 1954 الذي كالكثير من قادة الحزب في السرية، وصلته منه تهديدات بالقتل وأفلت من محاولة لاغتياله إلى غاية مكتبه بتونس العاصمة بعد الزج بغالبية زعماء الحزب في السجون والمنافي والمحتشدات منذ اليوم الموالي للمؤتمر السري للحزب الدستوري ليلة 18 جانفي 1952، الذي أقرّ الكفاح المسلّح كخيار للتحرّر من الاستعمار. وتواصلت اتصالاتنا ولقاءاتنا التي كانت آخرها الكلمة التي خصني بها لفائدة إذاعة المنستير بمناسبة ندوة وطنية انعقدت يوم 09 أفريل 2012 بمبنى مؤسّسة الأرشيف الوطني إحياءً لذكرى أحداث 09 أفريل 1938 الدامية أو تدخله معنا من حين لآخر إذاعيا في المباشر بمناسبة بعض الأعياد الوطنية. وطيلة كل لقاءاتي واتصالاتي به، كان المرحوم على غاية من التواضع وسعة البال والتعاون من أجل إنارة الرأي العام حول الأحداث الوطنية التي عاشها أو كان طرف فاعلا فيها، سواء قبل أو بعد الاستقلال.
ميلاده، نشأته ودراسته
ولد أحمد المستيري يوم 2 جويلية 1925 بضاحية المرسى وسط عائلة ميسورة من عائلات المخزن بمدينة تونس، أصيلة مدينة المنستير. كان جدّه الأول، فرج الشريف مرزوق قد غادر مدينة المنسيتر في النصف الثاني من القرن 18م للاستقرار بالحاضرة كتاجر في العطور وجدّه أحمد قد عيّنه الباي حمّودة باشا قايدا على عمل ورتان بالشمال الغربي، لكنه غادر منصبه للتفرّغ لأملاكه العقارية وتبعه في ذلك ابنه الطاهر المستيري. أمّا والدته فهي زُليخة المحرزي، إحدى حفيدات سلطان المدينة، سيدي محرز بن خلف.
منذ مطلع شبابه انتمى سنة 1942 إلى الشعبة الدستورية بالمرسى صحبة الطيب المهيري... وبسبب الحرب العالمية الثانية درس الحقوق بالجزائر ليلتحق فور نهاية الحرب بمعهد الدراسات السياسية وكليّة الحقوق بباريس حيث أحرز منها على الإجازة في الحقوق في جوان 1948. وفي خريف 1948 رسّم بجدول المحاماة بتونس العاصمة.
نضاله في الحزب والحركة الوطنية
أصبح أحمد المستيري عضو جامعة تونس للحزب الحر الدستوري الجديد عام 1950، وأصبح يتعاون مع كل من الباهي الأدغم والهادي نويرة في جريدة "ميسيون" الأسبوعية الناطقة بالفرنسية. وفي جانفي 1952 دخل الديوان السياسي السري للحزب الذي أصبح يقوده فرحات حشاد والصادق المقدم. و كمحامٍ، دافع عن المناضلين الوطنيين أمام المحاكم المدنية والعسكرية الفرنسية، و تعرّض حينها إلى محاولة اغتيال من قبل المنظمة الإرهابية المسماة اليد الحمراء.
مسيرته السياسية
بدأ أحمد المستيري مسيرته السياسية مبكرا. في أوت 1954، أصبح مدير ديوان وزير الداخلية المنجي سليم. وفي 25 مارس 1956 انتخب بالمجلس القومي التأسيسي ضمن قائمة الوحدة الوطنية التي ضمّت الحزب الدستوري والمنظمات الوطنية (الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والاتحاد القومي للمزارعين التونسيّين) وأبلى البلاء الحسن في صياغة دستور غرّة جوان 1959 وإعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957 وعديد التشريعات الجديدة....
وفي أول حكومة شكلها الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال يوم 14 أفريل 1956 عُيّن على رأس كتابة الدولة للعدل، حيث ساهم في تونَسَةِ جهاز القضاء والمحاماة وإصدار التشريعات و القوانين الجديدة وفي مقدمتها مجلة الأحوال الشخصية يوم 13 أوت 1956 التي أوكل له رئيس الحكومة حينئذ، الأستاذ الحبيب بورقيبة مهمّة إعدادها وصياغتها رفقة محمّد بن خليفة القروي...
وفي سنة 1958 أصبح ممثلا لتونس في مجلس الأمن للأمم المتحدة فأبلى البلاء الحسن إبّان محنة قصف ساقية سيدي يوسف يوم 08 فيفري 1958. وفي 10 ديسمبر 1958، أسندت له حقيبة المالية والتجارة، وكان من أولوياته آنذاك إبرام سلسلة من الاتفاقيات مع فرنسا، وإصدار عملة جديدة هي الدينار التونسي.
وفي سنة 1960، سمي سفيرا في الاتحاد السوفياتي فالجمهورية العربية المتحدة عام 1961، ثم في الجزائر سنة 1962. وفي 24 جوان 1966عاد إلى تونس ليتولى وزارة الدفاع.
وبعد أن عبّر علنيا عن معارضته لسياسة التعاضد للأستاذ أحمد بن صالح، طُرد من الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في 29 جانفي 1968 وكان عليه أن ينتظر إزاحة أحمد بن صالح، كي تقع إعادته إلى الديوان السياسي للحزب في 23 أفريل 1970.
وفي 12 جوان 1970 عُيّن وزيرا للداخلية، لكنه في 21 جوان 1971 استقال نظرا لعدم الوفاء بالوعود التي قطعها الرئيس بورقيبة بخصوص الانفتاح السياسي ومسالة الحريات... وخلال مؤتمر الحزب المنعقد في أكتوبر 1971 بالمنستير، وقع انتخابه في اللجنة المركزية خلفا للأستاذ الباهي الأدغم. وإزاء التخوف من سيطرة الليبراليين على الحزب، علق بورقيبة نشاط أحمد المستيري، ثم طرده منه نهائيا في 21 جانفي1972 . وفي 20 جويلية 1973 أُطرد من البرلمان بطريقة غير لائقة في ظرفية اتسمت بالتوتّر بين القصر وبعض المنسوبين عليه من "البَلَدِيّة" وفي مقدمتهم راضية الحداد وشقيقها حسيب بن عمّار والباجي قائد السبسي...
رائد المعارضة السياسية للحزب الحاكم
في 10 جوان 1978، أسّس أحمد المستيري "حركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين" Mouvement des Démocrates Socialistes)) وتولى أمانتها العامة.
وفي نوفمبر1981 شارك حزبه في أول انتخابات تعددية انتهت بتزوير نتائجها والإعلان عن فوز ساحق للحزب الحاكم حسب ما كشف عنه أكثر من مسؤول لاحقا.
وفي 16 أفريل 1986، وقع إيقافه وسجنه ثم أخضع للإقامة الجبرية إثر مشاركته في مظاهرة منددة على العدوان الأمريكي على ليبيا.
تعاطف مع حركة الاتجاه الإسلامي ودافع عنهم في أكثر من مناسبة وهو ما تسبب له في توتر علاقته بالرئيس الحبيب بورقيبة ورجالات حزبه. وبعد تحوّل 7 نوفمبر 1987 قبل بدخولهم في قائمات حزبه في الانتخابات التشريعية ليوم 02 أفريل 1989. وفي سنة 1992 وعلى إثر خيبة أميله في الحريات العامة بعد انسحب طوعيا من الأمانة العامة لحركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين، ووضع حدا لكل نشاط سياسي.
عودة جديدة بعد 2011
بعد 14 جانفي 2011 عاد للحضور على الساحة تلبية لدعوات بعض المنابر الإعلامية من إذاعات وقنوات تلفزية والإدلاء بشهادته أمام نواب المجلس الوطني التأسيس وبعض الهيئات الدستورية... وفي ديسمبر 2013 اقترحته حركة النهضة كمرشح لها لرئاسة الحكومة التونسية باعتباره معارضا سابقا لنظام بورقيبة وسبق له أن احتضنهم ودافع عنهم وفتح لهم مقرات حزبه وجريدته "المستقبل" إبّان سنوات الجمر... لكنه لم يحظ بتأييد جميع القوى السياسية.
ومنذ جانفي 2014 لازم بيته واقتصر ظهوره على حضور بعض المناسبات الوطنية كلما تمت دعوته لذلك بالقصر الرئاسي بقرطاج في مناسبتين، زمن حكم الدكتور المنصف المرزوقي ثمّ زمن حكم زميله ورفيق دربه السابق، الأستاذ الباجي قايد السبسي.
سيرته الذاتية "شهادة للتاريخ"
في أكتوبر 2011 أصدر سيرته الذاتية "كتاب 'شهادة للتاريخ" الذي تمّ تقديمه في أكثر من منبر ثقافي وإعلامي، من أهمها "سلسلة مسالك الإبداع" التي نظمتها المندوبية الجهوية للثقافة بأريانة حيث قدمه الأستاذ صالح عطية. وقد دافع في سيرته عن عدة قضايا إنسانية وجوهرية في حياة الشعوب مثل قضية الهوية في صراع الشعب الجزائري ضد الاستعمار والصراعات الخفية التي طبعت علاقة بورقيبة بالمناضل صالح بن يوسف ودور المؤسسة العسكرية في البناء السياسي... كما قام برصد جوانب التصدع التي رافقت علاقة الرجلين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف بالسياسة...
كما كشف في كتابه أنّ استقالته من الحزب الحرّ الدستوري وتأسيسه لأول حزب معارض، "حركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين" لوعيه بأهمية المرحلة في ظل تكريس بورقيبة للحكم الفردي منذ الستينات.
حياته الشخصية
تزوّج الأستاذ أحمد المستيري سنة 1956 بسعاد شنيق، ابنة الوزير الأكبر الأسبق محمد شنيق وأنجبا خمسة أبناء، أربعة أولاد وبنتا وهم: إدريس والطاهر (توفي سنة 1971 عن عمر 14 سنة) وحاتم والمنصف وأسماء.
وعموما يبقى الأستاذ أحمد المستيري أحد أبرز الشخصيات الوطنية التونسية التي تجرّ وراءها تاريخا كبيرا من العمل السياسي والحزبي والحقوقي... كما أنّ انسحابه من الحياة السياسية سنة 1992 يحيل إلى ما يتمتع به الرجل من رؤية واقعية ثاقبة للراهن السياسي وهو ما يجعله بمواقفه ونقده وتقديره للأمور...، من أهم الشخصيات المعاصرة والمرجعيات التاريخية و يمثل ذاكرة حيّة وشاهدا على مرحلة مهمة من تاريخ تونس المعاصر.
رحم الله الفقيد ورزقه أهله وذويه وأصدقائه وكل من عرفه من قريب أو بعيد من التونسيّين جميل الصبر والسلوان وإنّ لله وإنّ إليه راجعون.
عادل بن يوسف
- اكتب تعليق
- تعليق