محمد الحمّار : فَرمتة العقل السياسي التونسي ضرورة عاجلة، لماذا وكيف؟
تنتصب أمام تونس اليوم تحديات كبرى لم تر مثلها منذ ليلة انتصاب الحماية الفرنسية على الإيالة التونسية (في سنة 1881). كل بلد عُرضة للتحديات لكن تونس للأسف الشديد ليست من البلدان التي تواجه التحديات وإنما هي تدَعها تنتصب شامخة فترضخ تحت نٍيرها وقد تحمل نيرانَها على الانقداح.
إنّ تونس تقف اليوم عاجزة على مجابهة الصعاب على مختلف الأصعدة وهي صعاب معرقلة للنمو الطبيعي، ناهيك أن تسمح لهذا البلد بالتقدم والارتقاء. تونس البلد الذي أريد له أن يكون أصغر من حجمه الحقيقي، في مرة أولى بعد أن كان يسمى قرطاج فحطمته روما تحطيما (في 146 ق.م)، وفي مرة ثانية بعد أن كان في القرن 19 (بالخصوص) قوة اقتصادية إقليمية متوسطية وإفريقية فهامت به فرنسا واستحوذت عليه وعلى خيراته. هل هي اللعنة القرطاجنية، أم هي اللعنة الإخوانية المعاصرة، أم هي لعنة فيروس التخلف؟
كيف يحدث أن بلدا تكبر مساحته العديد من البلاد التي كانت لها مستعمرات، مثل هولندا وبلجيكا والبرتغال وحتى إنكلترا، يُقزَّم إلى درجة أن يصبح مُوَردا لمادة الفوسفاط بعد أن كان من بين الثلاثة البلدان الأولى المنتجة والمصدرة لهذه المادة، وكيف يتحول بلد الآلاف من الهكتارات من الأراضي الفلاحية، وهو الذي كان يسمى "مطمور روما " لمادة القمح، إلى بؤرة للقمح المسرطن الوافد من بلاد شرق أوروبا القريبة من تشرنوبيل، ومركزا للنفايات الخطيرة الوافدة من إيطاليا؟ كيف يفلس بلد يطعم ويروي ويكسي ويأوي 12 مليون نسمة بينما في الأصل هذا البلد قد يتحمل إطعام وإرواء وإكساء وإيواء ما لا يقل عن 40 مليون نسمة؟ هل هذا تجسيد لتنبؤ العقيد الراحل والقائل إنّ تونس من أغنى البلدان لكنّ المتنفذين من أهلها هم من يُفقرونها؟
إنّ توَقفَ تونس عن الحركة التاريخية الإيجابية يعود إلى أسباب عدة وهي أسباب تتعلق كلها بمحورٍ جامع و عام: لقد أطنب العقل السياسي التونسي في توخي أنماط من التفكير والتدبير والإدارة لم تعد تعطي أكلها، أي لم تعد تفكيرا أو تدبيرا أو إدارة بل أضحت براديغما فاشلا لا يصلح لإيقاظ العزائم ولا للحث على العمل والكد ولا على تزويد الدولة بمبررات الإدارة الناجحة للشأن العام بما فيه الصلاح للبلاد والعباد.
في ضوء هذا أعتقد أن الشرارة التي بفضلها قد تشتعل أولى شموع الخلاص تكمن في ما سأسميه فَرمَتة العقل السياسي، فرمتته مثلما يُفرمتُ جهاز الهاتف الذكي أو الكمبيوتر. والفرمتة تعني في سياق الحال تفريغ العقل السياسي من منظومة الأنماط والآليات التي أثبتت عدم نجاعتها لأنها تُتناول بمعزل عن بطانتها الفلسفية والتاريخية والثقافية و السيكولوجية والسوسيولوجية (على الرغم من أنها قد تكون مشروعة حين يُنظر إليها مجزأة)، تفريغه ثم تزويده بمنظومة من الأنماط والآليات، منظومة منبرئة ومتوقدة وثاقبة لأنها ثابتة في بطانتها متعددة الأبعاد.
من ناحية التمشي العام وكذلك الأهداف المتعلقة بما أسميناه الفرمتة، ترمي هذه العملية الاستعجالية إلى أن تتوفر للبلاد سياسات واضحة وناجعة وفعالة وبالتالي أن يتوفر للشعب تعلمات في معاني الوضوح ومبررات النجاعة ومخرجات الفعالية. وهذا ليس من مشمولات الأحزاب، لا حزب اليمين ولا حزب اليسار، لا حزب عبير موسي و لا حزب النهضة، ولا أي حزب آخر. إنّ تمكين الفرد والمجتمع من تحصيل مقومات النهوض إنما هو من مشمولات الفكر، والفكر إنما هو من مشمولات المفكرين من باب أولى وأحرى. لكن المشكل هو أنّ المفكرين الآن معطلون عن التفكير وذلك لأسباب عديدة ومختلفة من أخطرها عدم صلوحية منظومة الأنماط والآليات. بالتالي إنّ أي نقاش حول قضايا المجتمع وأي حوار وطني وأي تجميع سياسي ينبغي أن يرتقي إلى مستوى آخر من التفكير، مستوى جديد، مستوى أرقى، مستوى مختلف. أعني أنّ مهمة التفكير بحاجة إلى تبديل السياقات، تبديل البراديغم. ومن المزايا المرجوة من هذا التبديل تمكين المواضيع المطروحة للنقاش العمومي من أن تحظى بعناية فائقة لدى المكونات الشعبية والمكونات الفكرية على حدٍّ سواء، ومنه تجميع العقل الشعبي وعقل المفكر كلاهما بالآخر، فتوليد القاسم المشترك السياسي الأدنى المطلوب أو ما يسميه بعضهم "نقطة الصفر" ثم رَفع البناء الجديد.
أما بخصوص الفحوى والعناصر التابعة لكلتا المنظومتين، المنظومة الخارجة أي تلك المعنية بتفريغ العقل السياسي منها (رغم أهميتها وحتى تتم إعادة النظر فيها بعد التفريغ والتزويد) والمنظومة الداخلة أي تلك التي سيتم تزويد العقل السياسي بها، ففي ما يلي عينات من كلا المنظومتين.
في باب الطروحات منتهية الصلوحية، لا بد من الكف عن التساؤل بين عشية وضحاها عما إذا كنا عربا أم أمازيغا، عربا أم أفارقة أم أننا أحفاد حنبعل. كما يتوجب القطع مع الجهل الديمغرافي المقدس القاتل والقائل إنّ تونس بلد صغير وفقير. ويتطلب الوضع الفكري المزري أيضا الكف عن تدوير اسطوانات مشروخة (ولو أنها مشروعة) مثل المطالبة بمقاومة الفساد أو بتركيز محكمة دستورية أو بحل البرلمان أو بتأسيس حزب الرئيس أو بتنقيح النظام الانتخابي أو بتبديل نظام الحكم من برلماني إلى آخر رئاسي أو رئاسوي ، وذلك في سياقٍ شبه خالٍ من ثقافة ديمقراطية خصوصية ومحلية، حيث إنّ الإيمان جدلا بأنّه كان هنالك ثورة في سنة 2011 لا يعني أنّه كان هنالك تمشيا ديمقراطيا حقيقيا. فالثورة أمرٌ والديمقراطية أمرٌ ثانٍ. والذي جرى في تونس هو انتفاضة أو ثورة تلاها زرعٌ للديمقراطية، فكانت النتيجة ديمقراطية جنيسة أشبه ما يكون بالدواء الجنيس، قد يعالِج المريض لكن ليس بنفس القوة والنجاعة التي يتمتع بها الدواء الأصلي، بما أنه الأرخص ثمنا. في المحصلة، إنّ السبب في انحطاط المشهد السياسي العام في تونس هو غياب السند الفكري الذي من المفترض أن يجعل الديمقراطية التونسية تتويجا لمسار خصوصي، إنتاجا محليا لا دواء مُورّدا أو مقلَّدا، ما يستوجب الآن محو العناوين الديمقراطية في انتظار إلحاقها بسندها.
نأتي الآن إلى باب طروحات الفرمتة ونرجو من مفكرينا أن يُغلبوا السند على العنوان فيفسرون للعامة على سبيل المثال لماذا "يحرق" الشباب إلى أوروبا حتى وإن التهمَه حوت المتوسط وكيف يدير المواطن حياته وهو الذي يعيش فوق إمكانياته. في سياق متصل، حريّ بالمفكر أن يثير بحرصٍ و بصرامة مواضيع مثل ما الذي تنتظره تونس قبل أن تتعامل مع الجزائر وليبيا مثلما يتعامل عضو الجسد مع العضو الآخر من نفس الجسد، وهل أنّ بلادنا سترتقي بفضل التنسيق مع هذين الجارين أم أنها ستتمادى في الدفع إلى البحر، وهل أنّ المصالح العليا للبلاد تتطلب من مهاجرينا الشرعيين أن يكونوا مزدوجي الجنسية. ومن بين الأغراض الشائكة مساءلة المفكر للسياسي ثم الحسم بخصوص أيهما أبجل، التماهي الشكلي مع منظومة حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل أم التفكير انطلاقا من مصالح البلاد التونسية ومن ثَمة الاشتراك مع سائر الأمم في تعريف حقوق وواجبات الإنسان العالمي. كما أنه من واجب المفكر أن يبحث في "لماذا لا يجيد عموم الناشئة لا اللغة العربية ولا الفرنسية ولا الإنكليزية ولا حتى العامية؟" و "كيف يصبح التدين بالإسلام عامل تقدم؟" و"هل أنّ المصلحة العليا للبلاد تستوجب أم لا العناية بالشباب والناشئة وذلك بأن يُزرعَ فيهم حسّ الغيرة والرغبة في بلوغ الندية مع الأمم الراقية؟"
في نهاية المطاف، أخلص إلى أنّ بإمكان التفريغ والفرمتة أن تقلب الطاولة على من ساوموا بالدين وركبوه و خططوا المناورات تلو المناورات من أجل مسخِ الهوية العربية الإسلامية باسم الإسلام وسلبِ الفرد والمجتمع كرامتهما وأموالهما بداعي ثورة الكرامة. يا ترى هل سيستطيع التونسيون إثبات أنهم أمة عريقة ذات تاريخ ومجد وذات جغرافيا مديدة ورحبة أم أنهم سيواصلون العوم في داخل عُلبة متصدئة مليئة بالماء الآسن، والتحليق داخل صندوق أرشيف؟!
محمد الحمّار
- اكتب تعليق
- تعليق