العميد محمد رشدي بالعيد: كيف نتعامل مع الألغام التقليدية
إن العمود الفقري لهذا المقال غايته إدراك مخاطر الألغام التقليدية على لقوات النظامية في حربها ضد الإرهاب وكيفية الحد منها، حيث تحولت إلى معضلة أمنية مفزعة لدى كل جيوش العالم دون استثناء لآن حلولها الأمنية محدودة الفاعلية مما وضع قواتنا النظامية أمام مأزق أمني حارق ضد عدو متخفي مترصد مخيف في وضع ترقب دائم.
بسبب مكونات التركيبية للألغام التقليدية، تبقى الحلول أمام قواتنا شبه منعدمة أو نسبية لمجابهة هذه الآفة القاتلة.
تستنبط كل الجيوش تكتيكات و وسائل جديدة للتكيف مع هذا الهاجس الأمني الذي يطلق عليه الإرهابيون "أم الشيطان" والمصمم بتكلفة بسيطة.
اللغم والشرك الخداعي هما السلاح المفضل لدى الإرهابيين يصيب ضحاياه دون تنبيه أو تمييز. هو أسلوب قتال عن بعد يستمد قوته من الاستعلام وشبكات الإسناد و يعتمد غالبا على توظيف الهواتف الجوالة كمصدر متحكم فيه للتفجير عن بعد. يهدف هذا الأسلوب البدائي إلى استنزاف وإرباك القوات النظامية بضرب تماسكها المعنوي و استنزاف جهدها و فرض واقع جديد فوق الميدان يمس من هيبة الدولة.
للحد من أوجاعها، تعتمد الجيوش على تفعيل جملة من الإجراءات، منها ما يلي:
1 ـ على مستوى التعاون الدولي
لمحدودية ثقافتها في التعامل مع الألغام البدائية، تستثمر الجيوش في إطار التعاون الدولي فيما بينها المعلومات و التجارب و الخبرات الدولية المكتسبة في النزاعات و الحروب و ذلك بالاستفادة منها عبر التكوين و التأطير و تطوير المهارات الفنية.
2 ـ على مستوى الجيوش
• تعمل الجيوش وفق إمكاناتها الذاتية في مجال التسليح على توجيه الجهد نحو الابتكار و التطوير بتوظيف التكنولوجيا الذكية في القتال القريب و البعيد و تجنب المقاتل خوض معارك شرسة و غير محسوبة العواقب و دون الانزلاق إلى المجهول كالسقوط في الكمائن و مصائد الألغام القاتلة.
لهذا تعمد قيادات الجيوش المتقدمة على "تعزيز قابلية البقاء على قيد الحياة فوق الميدان" لأفرادها، لأن المعركة في جوهرها هي صراع من أجل البقاء. ويتجلى ذلك من خلال عمليات التدريع وتقوية سمك أسفل المركبات وتثبيت ألواح إضافية كالأبواب الفولاذية وابتكار الروبوتات والمدرعات غير المأهولة الكاسحة للألغام واستخدام مختلف الطائرات المسيرة في المراقبة الميدانية و كشف الألغام و قصف الأهداف... إنشاء "قاعة عرض للألغام المستعملة"، تحتوي على قاعدة بيانات توثق الحوادث الناجمة عن الألغام والعمليات الإرهابية واستخلاص الدروس منها.
• توظيف الكلاب المدربة في الكشف عن الألغام.
• استعمال القوات المحمولة جوا في إطار "البعد الثالث" لاستطلاع بعض المواقع ومهاجمة الارهابين في تحصيناتهم.
• اعتماد السترة الواقية من الرصاص والشظايا فوق الميدان.
• استعمال أجهزة اعتراض الاتصالات و التنصت عليها والإعاقة الالكترونية والاستطلاع والاستكشاف والتوقي و التصويب و التمويه ضمن الوحدات العاملة على الميدان.
• تنظيف المسالك بصفة دورية.
• اقتناء "مخبر ميداني متنقل" للبحث عن الدليل المادي للعمل الإرهابي يتولى رفع الآثار المادية للتفجير وإخضاع مكوناته للاختبارات الفنية للتعرف على بصمات زارعي الألغام وتركيبة المواد المتفجرة والذبذبات المستعملة.
3 ـ على مستوى القائد الميداني
• من مهام القائد الميداني العمل على تعزيز "قدرات المقاتل فوق الميدان "بوسائل نقل ملائمة للمخاطر و التحديات و لباس واقي من الرصاص و سلاح و أجهزة لتعزيز الرؤية و دقة التصويب و تحديد الأهداف باعتماد التقنيات الحديثة و الذكاء الاصطناعي مما يتيح للمقاتل تحقيق "وعي ميداني" يساعد على إدراك ما يجول حوله، الشيء الذي يزيد من قدرته على الصمود و البقاء على قيد الحياة.
• من المفروض أن يكون القائد الميداني على دراية تامة بالمخاطر و بالتهديدات التي تترصد تشكيلاته على الميدان، فيضعها نصب عينيه بإنارة عناصره بكل ما توفر له من معلومات و يسدي توصياته و تعليماته في المجال و يبني مخططاته و أوامره على السيناريو الأسوأ حتى تكون خطته واقعية لا تصادف العقبات عند التنفيذ .
• تتجلى انشغالات الآمر في الحد من المخاطر عند "التأمين اللوجستي" للتشكيلات المكلفة بمهام ميدانية حيث يعدها لتكون في حالة جاهزية تامة متوافقة مع التهديدات والواقع الميداني ومع الأهداف المرسومة إليها.
4 ـ أمن الميداني
• نشر عنصر قنص دائم فوق الميدان يرصد تحركات شبكات زرع الألغام على مسالك الدوريات و التدخل ضدهم
• تثبيت كاميرات مراقبة ميدانية تشرف على الميدان
• منذ الصباح الباكر يوجه الآمر تشكيل من الهندسة المختصة في فتح الطرقات نحو مسالك الدوريات بهدف تأمينه من الأجسام المشبوهة والمتفجرة
• تجنب الروتينية و التكرار في التوقيت و اختيار المسالك المؤمنة و الابتعاد عن التمركز في مواقع ومناطق الرخوة غير القادرة عن الدفاع عن نفسها. لان القاعدة لدى الإرهابيين تقول، "إن كنت لا تستطيع النيل من هدف محمي فتوجه لهدف رخو".
5 ـ أمن التحرك
استطلاع المسالك باستخدام الدراجات النارية و تجهيز الدوريات بمنبهات حرارية ضد الألغام مع تزويدها بأجهزة إعاقة الكترونية للهواتف الجوالة و مصادر الطاقة اللاسلكية...
توجيه معدة دارجة بمفردها لمهام الدورية، يضعها في حالة هشاشة و عزلة تامة من دون إسناد استطلاعي وناري و يفقدها نجاعتها العملياتية ويقلص من "قابلية البقاء على قيد الحياة".
6 ـ امن العمليات
• احترام مجموعة من القواعد و السلوك و الإجراءات في مجال أمن الأسرار من شأنها العمل على الحفاظ على سرية المهمة و عدم التفطن لمجرياتها من طرف الإرهابيين. فكلما كثر عدد الأفراد بدرايتهم للعملية الميدانية كلما زادت نسبة احتمال تعرضها للكشف.
• إجراء عمليات تنصت على الهواتف الجوالة بداخل الوحدات الميدانية و اعتماد الإعاقة الالكترونية داخل هذه الوحدات ولدوائرها الخارجية بصفة دائمة عند التحضير وانطلاق التشكيلات للمهام الموكولة إليها بهدف إعاقة احتمالية محاولة تسريب محتملة للمعلومات حولها.
7 ـ الحس الأمني
العمل على رفع الحس الأمني لدى الأفراد ليحصل لديهم يقظة مستمرة و وعي مسبق بالحدث الأمني قبل حدوثه و يزيد من دقة الملاحظة و سرعة البديهة للوصول إلى قراءة جديدة للميدان عبر تحليل المؤشرات و العلامات المكتشفة.
8 ـ خلية التقييم و المراجعة
إحداث خلية تقيم النشاط الميداني بخصوص الأحداث الطارئة لاستخلاص الدروس و العبر منها، لآن التاريخ دائري يعيد إنتاج نفسه.
9 - المجهود ألاستخباراتي
• من الأخطاء الشائعة، الاعتماد على المعلومات القديمة لتحليل الموقف الأمني و إعداد الخطط و عدم تصور السيناريو الأسوأ بتجنب البيانات التي لا تتسم بالتفاؤل. فتتطلب القراءة الجيدة و السليمة للمشهد الأمني العام تحيين المعلومات بصفة يومية.
• استخباراتنا اليوم ملزمة بتطوير كفاءاتها و قدراتها و منهجيات العمل وإعادة النظر في هيكلتها، و عدم الاكتفاء بجمع المعلومات بل العمل على تنفيذ عمليات استخبارية متطورة تخترق عمق الشبكات الإرهابية مما يجعلها قادرة على بلورة دور استخباري استباقي فاعل يفيد الوحدات الأمنية في مواجهة الإرهاب و يرفع من جودة مرد وديتها.
10 ـ بعث هياكل أمنية جديدة
• تستوجب الحاجة بعث وحدة استعلامات ميدانية تابعة للجيوش و أخرى للحرب الالكترونية.
• بعث تنسيقية عامة للاستخبارات على مستوى هيكلية الأمن القومي.
• إنشاء شعبة تحليل المعلومات و كيان تنسيقي ضمن كل جهاز أمني.
• إرساء إستراتيجية مهيكلة "لليقظة والإنذار المبكر" ضمن منظومة أمن الحدود، تغطي كامل جغرافيا الوطن وقاعدة بيانات مشتركة بين الأجهزة الأمنية يتم النفاذ إليها عند الاقتضاء.
• إحداث وكالة أمن قومي و وكالة أمن سيبرني.
• توجيه الجهد ألاستخباري نحو كشف و تفكيك شبكات الدعم و الإسناد اللوجستي و الاستقطابي والإعلامي وشبكات زرع الألغام، بهدف ضرب البنية التحتية للجماعات الإرهابية المسلحة والتي تمثل جانب أساسي من بيئتها الحاضنة التي تضخ الحياة للجماعات الإرهابية. فالحكمة تقول، "إذا أردت أن تقتل بعوضة، فجفف برك المياه".
11 - التأمين الصحي
لوقف نزيف جنوده في ميادين القتال، جهز سلاح البر الأمريكي عناصره بربطات جديدة لتوقيف النزيف الدموي للجنود المصابين بعد أن تبين أن الربطات القديمة عاجزة عن ذلك. وضع الرباط الجديد في حوزة المقاتل، يحتوي على جيوب قابلة للنفخ تضغط على الشرايين ليوقف النزيف المتدفق على الفور.
إن إرهاب اليوم مصنع، له أوقاته و له حاضنته التي تغذيه، فهي شرايين الحياة بالنسبة إليه. لا يخضع الإرهاب لخطوط حمراء تتحكم فيه ، فهو متربص في حالة ترقب دائم يستثمر كل الثغرات و مناطق و أوقات الرخوة في الترتيبة الأمنية لقواتنا النظامية المسلحة يشقيها الأمني و العسكري. يعيش بيننا و يستغل هشاشتنا و مواطن ضعفنا و ضرباته المتكررة لا تقوض عزمنا في مقاومته، فهي حرب طويلة الأمد ضده و مكلفة يعود النصر فيها حتما لحماة الديار.
لمجابهته و الحد من مخاطره و التكيف مع تهديداته، يتطلب الموقف منا تضافر الجهود ضمن إرساء و تفعيل "إستراتيجية خروج و مقاومة شاملة" بشقيها الناعم و الصلب لاحتواء فكره وتجفيف مشاربه و تعطيل محركاته الرئيسية الدافعة للتطرف و الإرهاب.
العميد متقاعد، محمد رشدي بالعيد
مركز البحوث والدراسات الأمن
- اكتب تعليق
- تعليق