أخبار - 2020.07.28

نور الدين كريديس: لماذا فشلت الثورة التونسية؟

نور الدين كريديس: لماذا فشلت الثورة التونسية؟

بقلم نور الدين كريديس - رغم حصول الثورة على الاستبداد بتونس2011))، فإن الطريق مازال طويلا أمامهالأنه لم يسبقها و لم يتبعها تغيير في العقليات، و يعود هذا الفشل نسبيا و الى حد اليوم الى تواصلال مفهوم القديم للسلطة و الذي يقوم على الأبوية. إن فشل عديد المحاولات في استئصال الأبوية من المجتمع واستمرار انتشارها من الأسرة إلى عديد المجالات بما فيها السياسة، يؤكد أن هذا المفهوم المشترك للسلطة والمقاوم للتغيير له ارتبط بعقلية المجتمع وتجلت في ممارسته.ان المجتمع التونسي يبقى مجتمعا محافظا و سطحيا و غير مثقف و خاضعالبنية أبوية من شانها أن تحول دون إحداث التغيير الذي من المفروض أن تحدثه الثورة في مفهوم السلطة.

من الاستبداد إلى الثورة

كتاب جديد ينضاف إلى المكتبة العربية في ميدان جديد بالنسبة إلى علم النفس المكتوب باللغة العربية وهو على علم النفس السياسي. ولأول مرة على حد علمنا، يقع تناول موضوع ما يسمى بالثورة التونسية من هذا المنظور. وهنا يكمن أهمية هذا المؤلف "من الاستبداد إلى الثورة. تحليل لفترة حكم بن علي لتونس من منظور علم النفس السياسي" للدكتور التونسي محمد سامي بوراوي، عن دار علاء الدين، صفاقس، تونس سنة 2019 في 358 صفحة.

علم نفس وسياسة

وكما يدل عليه تسميته، يقوم علم النفس السياسي بالربط بين علم النفس والسياسة. وهو يهتم بدراسة تفاعلات السياقات النفسية والسياقات السياسية وفق منطق ثنائي الاتجاه يعتبر ان العوامل النفسية (الإدراك، الاعتقادات، الآراء، المواقف، القيم، الاهتمامات ...) تؤثر في السلوكات السياسية، وان الأفعال السياسية  (الثقافة السياسية، الأنظمة السياسية، التنشئة، الأحزاب) تؤثر في الجوانب النفسية (ص8).

ولقد مثل الاستبداد أحد أهم مواضيع علم النفس السياسي في العالم، إذا تم الاهتمام به من طرف عديد الباحثين منذ ظهور الفاشية والسلطوية وانتشارهما في أرويا. فقد دفعت مآسي الأنظمة الشمولية وما ترتب عليها من الأزمات التي عاشتها المجتمعات عديد الأخصائيين إلى اعتبار الربط بين علم النفس والسياسة ضروريا وتوجيه تفكيرهم بالتركيز على الجوانب النفسية والسياسية معا وبالاهتمام بعديد المسائل كأشكال السلطة والشخصية السلطوية والامتثال للسلطة والقيادة.

ويتطرق هذا الكتاب إلى مسار الاستبداد الذي تميز به حكم بن علي في تونس ومركزا بالخصوص على مواضيع هامة لم يقع التطرق إليها من قبل مثل التركيبة النفسية لابن علي ودورها في تطلعه إلى السلطة ونزعاته السلطوية وتأثيرها في سلوكه السياسي وخاصيات أنماط القيادة التي اعتمدها واهم انعكاساتها وكيفية  تأثيره في الحشود والظواهر النفسية الناجمة عن الاستبداد والأزمات السياسية وتأثيرها واستخدام الدعاية والهيمنة الاجتماعية وأسباب الثورة وسلوك الحشود خلالها..

من قصة حياة إلى رواية أسرية

عتمد محمد سامي بوراوي على منهجية كتابة مشوقة حيث أنه أعطى أولية إلى صياغة أسئلة مفاتيح حاول فيما بعد، تقديم إجابة عليها. وانطلاقا من سؤال عام يتعلق بالظروف التي تؤدي إلى اختلاف التركيبة النفسية بين الأشخاص يتعرض للتركيبة النفسية للقائد السياسي والتي تتميز بالازدواجية.

وبين الكاتب أن ما عاشه بن علي في طفولته جعله يرفض قصة حياته الحقيقية ويتشبث برواية أسرية. ثم يدفعه في مسار الارتقاء السريع وبلوغ مناصب عليا وذلك لفرض نفسه والانتقام من مجتمع وجد داخله في أسفل السلم الاجتماعيواعتمد أساليب لتلك الغاية تتمثل في التخصص في المجال العسكري والأمن والتركيز النفسي المفرط على الشغل واستعمال علاقاته للاستفادة منها كزواجه الأول من ابنة الجنرال الكافي واستعمال سعيدة ساسي قبل حصول الانقلاب وإزالة العقبات المعيقة لارتقائه والتعلم من تجارب الآخرين ومن بينها تجربة الثورة البولندية (لما كان سفيرا آن ذاك).

ثم بين الكاتب ظهور النفوذ الكاريزمي عند بن علي، وذلك بتوفر شرطين يتمثل الأول في وجود أزمة وانتظار الجموع لمن يخلصها  منها في فترة السنوات الأخيرة لحكم بورقيبة وثانيا، في اعتراف الجموع بسلطة قائد منفذ والامتثال له... وهذا ما يفسر قبول التونسيين لا بن علي عندما زعم بأنه قدم ليخلص البلاد من الأزمة وبأنه يستطيع تحقيق كل آمالهم وقيادة تونس إلى بر الأمان.

نزعات سلطوية

وبين محمد سامي بوراوي كيف أن توجهات بن علي الحقيقية بدأت تتوضح منذ انتخابات 1989 إذ عمد نظامه إلى تزوير نتائجها ثم تتالت الأحداث مبنية أن القائد ومن حوله شرعوا في إرساء نظام استبدادي لا يعترف بديمقراطية ولا بتعددية بعكس الشعارات التي نادي بها إبان انقلاب 7 نوفمبر 1987. وقد تساءل الكاتب هل يمكن لقائد يدعي بأنه جاء لإرساء الديمقراطية أن يتحول بين عشية وضحاها إلى قائد متسلط تحت ظروف خارجية؟ ألم يظهر بن علي نزعات سلطوية حين تقلد عديد المناصب خلال حكم الرئيس بورقيبة؟ واستنتج أن الاستبداد الذي مارسه بعد وصوله إلى سدة الحكم لم يكن نتيجة ظروف خارجية بل نتيجة نزعات سلطوية نابعة من شخصيته من بينها النزعة إلى الامتثال السلطوي عنده، والتقاليدية والامتثالية والنزعة إلى العدوان السلطوي.  

وتجلت مظاهر الكاريزما عند بن علي في صنف هجين يجمع بين الخاصيات من الكاريزما الشعبوية وأخرى من الكاريزما الشمولية. وبين الكاتب أن شخصية بن علي السلطوية وجدت في الأيديولوجيا الأبوية السلطوية الإطار الملائم للتعبير عن نزعاتها وحاجتها. بحيث إبان وصوله إلى الحكم أراد بن علي بناء صورة الأب-القائد الذي يدين له الجميع بالولاء اعترافا بجميله.وارتكز على استخدام إستراتيجيات لدعم هذه السيطرة عبر إرساء منظومة كفرض الخضوع عبر المراقبة والقمع وأخرى للحصول على الخضوع وتعزيزه عبر شراء الولاء. وقد أظهر بن علي براعة في فن الاستيلاء على السلطة والمحافظة عليها وهذا ما يكشف بان شخصية هذا الرجل تتسم بالماكيافيلية واستخدام استراتيجيات للتلاعب والمناورة تجلت على اعتماد ديمقراطية الواجهة والجمع بين العنف والتلاعب والمكر لإقصاء كل معارضة مستقلة، وشراء ولاء أكبر عدد ممكن من التونسيين واستخدام الدعاية وأبعاد المواطنين عن الشأن السياسي.

قائد كاريزمي أبوي

وبين محمد سامي بوراوي كيف أرسى بن علي كقائد كاريزمي أبوي نظاما يستند إلى منطق استبدادي يعتبر أن للرئيس الحق في الاستئثار بالسلطة واحتكارها وان للحزب الحاكم المسخر لخدمة الرئيس وللاستجابة لمشيئته، حق احتكار النشاط السياسي والهيمنة على المجتمع المدني ومنظماته، وان كل محاولة للتعبير السياسي بشكل يتعارض  مع مشيئته ورغبة القائد يجب أن تواجه بشتى الوسائل لتكميمها وإرضاخها.

ولقد استند محمد سامي بوراوي على فرضية عامة وهي أن عملية التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة العربية بوصفها البنية الأساسية للمجتمعات العربية لعبت دورا أساسيا في نشأة  وتشكل الاستبداد العربي، فالأب كنموذج أصلي لوجه السلطة حسب تعبير هشام شرابي يربي أبناءه على الخضوع وبهذا توفر الأسرة الأبوية نماذج الخضوع وتصنع الذات التي تتطلبها الأبوية.ويرى الكاتب أن اغلب التونسيين تمت تنشئتهم داخل أسر سلطوية ربتهم على الانقياد والطاعة مما جعلها توفر ما يسميه هشام شرابي نماذج الخضوع وتصنع الذات التي تتطلبها الأنظمة الأبوية، فالطفل داخل الأسرة السلطوية يكتسب حسب ويليام رايشأواليات الانقياد والطاعة مما يجعله يعاني من الخوف والهلع ويعيق تمرده ضد القمع، وبهذا يصبح سلبيا ولا يهتم بالسياسة.

وبهذا الرضوخ يفقد الفرد السيطرة على مصيره ومستقبله، كما يقول ابراهيم الحيدري، وبدلا من المقاومة والرفض يقوم بسلوكات تعويضية كالتزلف والاستسلام والمبالغة في احترام المتسلط إتقاء لشره وطمعا في رضاه وأملا في العيش بسلام، وتعمد الوسائل التربوية المعتمدة في النظام الاستبدادي الأبوي حسب علي زيعور  على إعداد الطفل لا لأن يناقش ويقارع بقدر ما تنمى فيه الالتواء والازدواجية والاعتماد على الكبير فالتلميذ المثالي في هذا النظام يكون حسب مصطفى حجازي هو ذاك الراضخ المطيع المتلقي أي الإنسان المنقاد وعوض أن يكون هدف التربية الحقيقي هو تدعيم إستقلالية الطفل نجده يغلب أخلاق الامتثال والخضوع على حساب أخلاق الاحترام المتبادل والاستقلالية.      

النجاح والثروة بكل الطرق

كان المجتمع التونسي كغيره من المجتمعات حريصا على الحفاظ على توازن نسبي بين الاهتمام الموجه للغايات التي حددتها الثقافة والاهتمام الموجه للطرق المقننة اجتماعيا والوسائل المقبولة لتحقيق هذه الغايات، الا انه خلال مرحلة الاستبداد التي شهدتها تونس في عهد بن علي تدخل عاملان جعلا جزءا  من أفراد المجتمع يركزون تعلقهم الانفعالي على المثل العليا التي يشجع عليها المجتمع (النجاح والثروة...) مع التركيز أقل بكثير على الطرق المشروعة لبلوغها.
ويمكن اعتبار أن ما يهدد المجتمع التونسي في حال الاستمرار في اعتماد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ان يصبح المجتمع غير مستقر وتنمو داخله ما يسميه Merton A.K  مرتون الامعيارية أي غياب الضوابط، فحينئذ تصبح فضائل الكد والجد والنزاهة قليلة الفائدة والجدوى، وعندها تسود نزعة لدى الناس للتركيز على الحظ والصدفة والفرص المواتية.

الإحباط النسبي

بين محمد سامي بوراوي كيف أن النظام الاستبدادي تسبب في الإحباط لفئات كبيرة من المجتمع التونسي نتيجة إخلاله بالوعود التي قطعها في مجال المشاركة السياسية وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي، كما بين أن هذا الإحباط من شأنه توليد العدوان لدى نسبة ممن عاشوه خاصة من الشباب، فانسداد الأفق وانعدام الحلول السياسية والاقتصادية مع عدم تمكن الشباب من التعبير وإسماع أصواتهم إلى المتسببين في إحباطهم من شأنه العدوان، وبما انه ليس من السهل توجيه العدوان لنظام بوليسي قمعي شرس، فقد كان يتم تحويله نحو أملاك الدولة ورموزها ونحو المجتمع ككل.

8% من السكان كانوا يملكون 80% من ثروات البلاد، مما أعاق تحقيق التنمية بشكل عادل في مختلف الجهات الجمهورية وتسبب في تهميش مناطق بأكملها وفي معاناة سكانها من الخصاصة.

المستقبل والحلول

رغم حصول الثورة على الاستبداد بتونس، فإن الطريق مازال طويلا حسب محمد سامي بوراوي، إن فشل عديد المحاولات في استئصال الأبوية من المجتمع العربي واستمرار انتشارها من الأسرة إلى عديد المجالات بما فيها السياسة، يؤكد أن هذا المفهوم المشترك للسلطة والمقاوم للتغيير له ارتبط بالعقلية، وهذا ما يؤكده هشام شرابي، إذ يعتبر أن الأيديولوجيا الأبوية شكلت عقلية المجتمع وتجلت في ممارسته.

ويعتبر محمد سامي بوراوي متبعا في ذلك هشام شرابي أن أحد شروط التحرر من النظام الأبوي يتمثل في تدمير التصور القديم للحرية الذي أخذت به الأبوية المستحدثة لأن استمرار البنية الأبوية في التواجد داخلنا عبر الأسرة دون أن تتفكك من شانه أن يحول دون إحداث التغيير الذي من المفروض أن تحدثه الثورة في مفهوم السلطة.

وتتطلب عملية تغيير مفهوم السلطة عبر تغيير العقلية إعادة النظر في عملية التنشئة الاجتماعية أساسا داخل الأسرة باعتبار ان البنية الأبوية استمرت في التواجد داخلنا،عبر التنشئة داخل الأسرة لتنتقل عموديا عبر التربية من جيل إلى آخر، كما استمرت في الانتقال أفقيا من العائلة إلى المدرسة  وغيرها  من المؤسسات، كما بقيت علاقات السلطة داخل العائلة هي التي تؤسس لعلاقة الفرد بالسلطة السياسية.   

نور الدين كريديس

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.