أخبار - 2020.07.27

منجي الزيدي: السعادة في زمـــن كـورونا

منجي الزيدي: السعادة في زمـــن كـورونا

بقلم  د. منجي الزيدي - تعيش البشريّة منذ أشهر واحدة من أقسى تجاربها في العصر الحديث. جائحة لا تُميِّز بين الأجناس والأعراق والطبقات تكاد توقف الحياة، وتَبَدُّلٌ في أنماط العيش وتقييدٌ للحريّة، وتضييقٌ على مباهج الحياة، وشعور عامّ بالقلق والخوف والعجز. الكثير من المفكّرين والباحثين يفترضون أنّ العالم يتغيّر وأنّ الناس يعيدون التفكير في معنى الحياة وغايات الوجود. ولعلّ الإنسان قد عاد لمواجهة سؤال وجودي لم يجد له جوابا ما هي السعادة؟

يصعب تعريف السعــــادة رغم الاعتقـــاد بأنّــها بَدَاهَةٌ، وذلك لأنّها من المفاهيم المجرّدة. وهي تعني لغويا الإحساس بالرضا والفرح والارتياح؛ ولكن كلّ هذه الألفاظ حمّالة أوجُه متعدّدة المعاني. ولقد اختلف المفكّرون في تعريفها، وكثير منهم ربطها بقيم أكثر تجريدا كالفضيلة والعدالة والخير.

الفلسفة المثالية تَسَامَت بالسعادة عن العالم المادّي وعلّقتها عاليًا في سماء المُثُل. واعتبرت أنّ المتعة الماديّة الزائلة مطلب العامّة، وأنّ السعادة الحقّة من ميزات النخبة المتفلسفة. أمّا الأديان فقد بشّرت بها فوزا عظيما في الآخرة حين يُبعث الناس ومنهم شقيّ وسعيد. هي ثـــــواب جهاد النفس في الدنيا والترفّع عـــــن ملذّاتها. السعادة هي الطُوبَى أي «كلّ مستطاب في الجنّة من بقاء بلا فناءٍ، وعِزٍّ بلا زوال، وغنىً بلا فقر».

بالمقابل اعتبرت الفلسفة الماديّة السعادة «منتوجا بورجوازيا» ومطلبـــا طوبـــاويا يحجب عن الإنســــان حقيقـــة الصراع الاجتماعي، أي أنّه من قبيل وهم «بناء قصور في إسبانيا» على رأي ماركس. ومن جهتها استبسلت الحــــركات الاجتماعية من أجل بلوغ سعادة تحقيق العدالة والمساواة والحريّة «فالثورة تتوقّف عند اكتمال السعادة» كما اعتقد Saint-Just وهو يخوض غمار الثورة الفرنسية.

ولقد تحوّلت السعادة إلى شأن عامّ.  عملت دولة الرعاية على نشـــر فكرة الرفاهية والراحة، وظهر مجتمع الاستهلاك كمرادف لمجتمع السعادة. ورفعت السياسات العامّة شعار فرحة الحياة، وأحدثت دولٌ وزاراتٍ للسعادة وأخرى لجودة الحياة وغيرها.

وسَالَ لُعَاب الرأسمالية المُتَربِّحَة فاتّخذت منها أصلا تجاريا وأغرقت الشعوب بمنتجات تمنح السعادة من أغذية وترفيه وخدمات ادّخار وتأمين، وتفنّنت في صناعة عقاقير القوّة والجمال والشباب الدائم. أهدت الفَاخرَ والأصليّ لأصحاب الجاه، ومنحت الطبقات الوسطى سعادة مدعومة بالتقليد والسعر المُخفَّض low cost والتقسيط المريح، أمّا المُعوَزُون في الأرض فلهم في القناعة كنز لا يفنى...والله الغنيّ.

يختلف الناس في تعريف السعادة. كــــلٌ يراها مـــــن منظوره الخاصّ. ذلك بأنّها نتاج التنشئة والتجربة الحياتية والانتماء الاجتماعي، وهـــي رؤية للحياة وللعالم؛ وبالتالي يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي، والعقلاني بالانفعالي، والحلم بالواقع. وهي إنتاج طبقي فقد يعتبر الفقير مجرّد سدّ الرمق قمّة السعادة، وقد يرى صاحب الثروة أنّها في الاستــزادة من جمع المال والنجاح في الأعمال. وهي تقييم ذاتي للواقع يتغيّر بتغيّر الظروف.

وقد يشعر المرء بالسعادة القصوى وهو يكابد ويُضَحّي مـــــــن أجـــل غيره، دون أن يكــــون قد كسب من وراء ذلك متعة أو منفعة لشخصه. وقد تكون السعادة واقعا مع تأجيل التنفيــــذ لامرِئ يبني ويشيّد ويدّخر ويتغرّب من أجل تحقيق «مستقبل أفضل» قد لا يدركه. وقد تكون السعادة عند البعض أن يغنم من الحاضر لذاته إذ ليس من طبع الليالي الأمان على رأي عمر الخيام. وقد يتّخذ البعض منها ملاذا، فعندما «عجز البشر عن مواجهة الموت والفقر والجهل قرّروا أن لا يفكّروا بالأمر ليصبحوا سعداء» على رأي باسكال. وعندما بحثوا عن السعادة أدركوا أنّ من شروطها أحيانا النسيان... نسيان الماضي حلوه ومرّه، وعدم تعليق آمال كبيرة على المستقبل، والقبول بالقدر AMOR FATI هكذا تحدّث نيتشة. لِكُلٍّ سعادته يطلبها حيث يعتقد أنّه سيجدها. أو هي حركة ونسق لا يكتمل لأنّهـــا تــــــأبى الاكتفاء وتطلب الاستزادة، كما أنّها لا تحقّق الرضا والراحة التامّة لأنّها تبعث القلق والخوف من فقدانها.

ولكن هل بقي للسعادة معنى في مجتمع المخاطر؟ لقد بدأ الناس يدركون شيئا فشيئا هشاشة التقدّم والتطوّر. هم يشهدون كائنا مجهريا يحطّم العزّة المنيعة لمن وطأت قدماه القمر. وبدأ سقف توقّعاتهم ينخفض إلى الحدّ الأدنى من السعادة أي أن تعود الحياة كما كانت بشقائها وعنائها. وينتشر اليوم لدى الكثيرين الحلم بالعودة إلى العصر الذهبي، ويزداد الحنين إلى البساطة وراحة البال وسكينة الطبيعة وهدوء الحياة. وستبقى السعادة حلما يساعد على تَحمُّل صعوبات الوجود، وطاقة تمنح القدرة على التعايش مع الشّدة والعُسرَة. ولعلّ الانسان بحاجة إلى أن يعيد حساباته، ويهدّئ من روعــــه، ويخفّض من سرعته، فقد يمرّ بجانب أشياء صغيرة تمنح الحياة معنى وقيمة عكس ما قد يتراءى له من أوهام.

منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.