أخبار - 2020.07.28

الأستــاذ جــلّولي فـــارس: المنـــاضل الوطني ورجل الدولــة المُغـيـّـب 1909 - 2001

الأستــاذ جــلّولي فـــارس: المنـــاضل الوطني ورجل الدولــة المُغـيـّـب 1909 - 2001

بقلم د. عادل بن يوسف - كثيرة هي الشخصيات التي تمّ تغييبها من تاريخنا الوطني، سواء عن قصد أو غير قصد لأسباب يطول شرحها. ومن هذه الشخصيّات نذكر المناضل من الرعيل الأوّل، الأستاذ جلّولي فارس، أوّل قيّم عام مسلم للمدرسة الصادقية منذ 1881، ووزير المعارف في حكومة الطاهر بن عمَّار وثاني رئيس للمجلس القومي التأسيسي (بعد ترؤّسه لأسبوع واحد من طرف الزعيم بورقيبة) وأوّل رئيس لبلدية الحامّة بعد الاستقلال...، رغم كثرة الأدوار التي اضطلع بها والمناصب والخطط التي شغلها منذ ثلاثينات القرن الماضي إلى غاية سنة 1990، سواء داخل البلاد أو خارجها من أجل تحرّر تونس وعزّتها وريادتها. ولا يزال في أذهان المتقدّمين في السنّ التسجيل الخاصّ بالجلسة الاستثنائية للمجلس القومي التأسيسي عشيّة يوم 25 جويلية 1957 التي أعلن في ختامها بصوته الجهوري أمام أعضاء الحكومة ورئيسها ونوّاب المجلس عن إلغاء النظام الملكي وقيام أوّل جمهورية تونسية بعد 252 سنة من حكم الأسرة الحسينية.

المولد والنشأة والدراسة وبداية النشاط الوطني

هو جلّولي بن عمّار فارس، ولد بحامّة قابس، جنوب شرقي البلاد يوم 6 مارس 1909وسط أسرة متواضعة تركية الأصل. دخل الكتّاب ثمّ المدرسة الابتدائية بالمكان. وإثر حصوله على شهادة ختم الدروس الابتدائية، التحق بالمدرسة الصادقية بالعاصمة حيث اجتاز بنجاح مناظرة «البروفي «Le Brevet élémentaire» (المرحلة الأولى من التعليم الثانوي) ليلتحق إثر ذلك بمدرسة الآداب العربية ويحرز ديبلوم الدراسات العليا «Diplôme d’Etudes Supérieures». وفي سنة 1929 شدّ الرحال نحو فرنسا حيث اجتاز الجزء الثاني من الباكالوريا بمعهد «إيفرو «Evreux». وفي خريف 1930 انتقل إلى باريس حيث رسّم بكليّة الآداب بجامعة السربون قسم اللغة والآداب العربية. ولأسباب ماديّة لم يتمكّن من مواصلة دراسته.

ونقرأ في أحد التقارير الأمنية التي اطّلعنا عليها في ملفّ الطالب جلّولي فارس والمودعة بكلّ من أرشيف محافظة الشرطة الفرنسية بباريس وأرشيف وزارة الخارجية الفرنسية والإقامة العامّة لفرنسا بتونس، أنّ المترجم له «... يخفي وراء مظهر النزيه روح نفاق وسخرية مقلقة ويتبجّح بكون والده لم يخضع إطلاقا لسلطة الأسرة الحسينية ولا لسلطات الحماية. لديه إعجاب عميق بالشخصيات التركية الرفيعة مثل كمال أتاتورك وعصمت هنانو... !»

ولا يستبعد تقرير آخر « تأثير شخصيّة الحبيب بورقيبة على شخصيّة الطالب الشابّ «.وهي ظاهرة تنطبق على جلّ الشبّان من أبناء جيله والأجيال اللاحقة. وتأكيدا لما ورد في التقرير الأخير يجدر التذكير بأنّ  جلّولي فارس والحبيب بورقيبة درسا بنفس المدرسة (المدرسة الصادقية) مع فارق زمني بستّ سنوات بينهما وانتميا إلى نفس الجمعية (جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية) وانتفاعا بمساعداتها الماديّة خلال فترة الدراسة بفرنسا . وقد تعرّف جلّولي فارس على الحبيب بورقيبة عن قرب لمّا كان طالبا بباريس أثناء زيارة الزعيم لفرنسا ولقائه بالطلبة التونسيّين بالحيّ اللاتيني واتّصالاته بوجوه اليسار الفرنسي بمناسبة حضوره لأشغال مؤتمر الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان بمدينة فيشي في شهر ماي 1931... كما نقرأ في نفس التقرير الأمنيّ أنّ جلّولي فارس: «... قد شارك في تطوّر الحزب بكتاباته ومحاضراته. وبالمتربول كان يحضر الاجتماعات الكبرى للاشتراكيّين والشيوعيّين وله حتّى علاقات بنوّاب اليسار بالبرلمان الفرنسي...».

في صيف سنة 1933 عاد إلى تونس حيث شغل خطّة قيّم بالمدرسة الصادقية بالتوازي مع مواصلة دراسته العليا عبر المراسلة. وفي جوان 1935 نجح حضوريا في الحصول على الإجازة في اللغة والآداب العربية. وبين 1935 و 1942 شغل خطّة قيّم عامّ بمدرسته الأمّ حيث تخرّج على يديه المئات من خيرة الصادقيّين الذين سيصبحون لاحقا من كبار المناضلين ورجالات الـــــدولة وبُنَاتِهَا. وبين 1943 و 1944 عُيّن أستاذا للغة العربية بالمعهد الفنيّ «إميل لوبي» Emile Loubet» وفي نفس الخطّة بالمدرسة الصادقية بين 1944 و 1946.

وبالتوازي مع العمل انخرط فور عودته من باريس بالحزب الدستوري الجديد. وبفضل نشاطه وحيويّته سرعان ما أصبح من أبرز رموزه. وحسب أحد التقارير الأمنية بتونس، كان سنة 1938 مسؤولا إلى حدّ كبير عن مظاهرات 25 مارس لتلاميذ المدرسة الصادقية إثر إيقاف زعيم الشباب، الأستاذ علي البلهوان. وبعد أيّام قليلة شارك في مظاهرات 8 أفريل 1938 أمام الإقامة العامّة وفي اليوم الموالي أمام المحكمة وقرب المدرسة الصادقية متحديّا الإدارة الفرنسية بصفته قيّما عامّا بالمدرسة الصادقية.

وأثناء احتلال قوّات المحور لتونس زمن الحرب العالمية الثانية (نوفمبر 1942– ماي 1943) اتُّهِمَ مثل الكثيرمن الشبّان التونسيّين بإيثار الورقة الألمانية و»التعاون مع العدوّ». وتأكيدا لذلك قام رفقة المناضل الرشيد إدريس بإصدار صحيفة «أفريقيا الفتاة». وبعد إجلاء الحلفاء لقوّات المحور من تونس وفي ظلّ وجود قادة وزعماء الحزب في السجون والمنافي بتونس وبجنوب فرنسا، أصبح جلّولي فارس عضوا بالديوان السياسي السادس السرّي للحزب الدستوري الجديد بقيادة الدكتور الحبيب ثامر يتبنّى الخطّ الأنجلو- سكسوني للحزب. وبفضل ما كان يتميّز به من خصال نال ثقة قادة الحزب دون استثناء وكلّف بعد نهاية الحرب بمهامّ دقيقة داخل البلاد وخارجها.

في مهمّة دقيقة بباريس 1942 ـ 1950

غداة الحرب العالمية الثانية وعلى ضوء المعطيات المحلية والإقليمية والدولية الجديدة وبغاية إعطاء دفع جديد للعمل الوطني إثر «مؤتمر ليلة القدر» المنعقد بالعاصمة ليلة 23 أوت 1946، صاغ الحزب الدستوري استراتيجية عمل جديدة تهدف إلى مزيد التعريف بالقضيّة الوطنية خارج البلاد وتحديدا في ثلاث عواصم: أوّلها القاهرة، مقرّ كلّ من الجامعة العربية منذ مارس 1945 ومكتب المغرب العربي منذ سنة 1947 وثانيها بباريس، مركز القرار السياسي بالنسبة إلى تونس وثالثها نيويورك، مقرّ منظمة الأمم المتحدة إثر تأسيسها في 23 أكتوبر 1945 وطرحها لمبدإ استقلال المستعمرات... وفي اجتماع سرّي للديوان السياسي السرّي السادس، تقرّر في خريف 1946 إرسال الأستاذ جلّولي فارس إلى فرنسا ليكون ممثّلا للحزب الدستوري خلفا للطالب الأمين بلاّغة وتكليفه ببعض المهامّ الدقيقة هناك.

فور وصوله إلى باريس في نوفمبر 1946 ضبط ممثّل الحزب خطة عمل تمثّلت في تكثيف النشاط الوطني في صفوف الطلبة وأفراد الجالية المغاربية العاملين بفرنسا والتعريف بالقضيّة الوطنية لدى النخبة السياسية الفرنسية في لحكومة والبرلمان والأحزاب والمنظّمات السياسية والجمعيات ولدى الشخصيات المساندة لقضايا التحرّر لاسيّما صلب  الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان...

وقد سبق لنا أن تناولنا نشاطات الأستاذ جلّولي فارس وأعماله بفرنسا طيلة أكثر من أربع سنوات في دراسة مستفيضة صدرت لنا بالفرنسية بالمجلة الصادقية منذ أكثر من عشرين سنة * يمكن تلخيصها في الجوانب التالية:

مناصرة قضايا التحرّر العربي والمغاربي: تظهر من خلال عقد الاجتماعات والمحاضرات واستضافة زعماء وقادة التحرير العرب والمغاربيّين الوافدين على فرنسا إلى مقرّ جمعية طلبة شمال أفريقيا (تأسّست في ديسمبر 1927 وضمّت طلبة كلّ من تونس والجزائر والمغرب) بالحيّ اللاتيني ومتابعة سير المفاوضات مع السلطات الفرنسية ومرافقة البعض الآخر منهم في نشاطاتهم واتّصالاتهم بالعاصمة باريس.

دعم القضيّة الفلسطينية: كان الإعلان عن نشأة الكيان الصهيوني في 15 ماي 1948 محور نقاشات مستفيضة بين الطلبة في مقرّ الشعبة وجمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين بفرنسا. وفي إحدى هذه الاجتماعات مع الطلبة، وجّه الأستاذ جلّولي فارس  رسالة إلى رئيس الحكومة الفرنسية «لوي- أوجان كافنياك «Louis Eugène Cavaignac» يدعوه فيها إلى عدم الاعتراف بدولة إسرائيل مذكّرا إيّاه بالعلاقات الوطيدة بين فرنسا والأقطار العربية...

إحياء الشعبة الدستورية بباريس وبعث جامعة دستورية بفرنسا: بسبب الحرب، تراجع نشاط الشعبة الدستورية للحزب بباريس المحدثة رسميا في ديسمبر 1936 من طرف الدكتور الحبيب ثامر (رئيسا) والهادي نويرة (كاتبا عامّا)... الخ،وتولّى الأستاذ جلّول فارس إعادة الروح إليها فأصبحت تضمّ 200 عضو في أفريل 1948 (تاريخ إيقافه ومحاكمته من طرف القضاء الفرنسي). كما بعث شُعبا أخرى بعديد الجهات والمدن التي يوجد بها الطلبة والعمّال التونسيّون. ولأول مرّة أحدث الجامعة الدستورية بفرنسا التي جمعت ما لا يقلّ عن 1.500 تونسيّ من كامل مقاطعات فرنسا، ضمّ مكتبها خلال سنة 1947 - 1948: عمر الدالي (رئيسا)، علي بن يوسف، أحمد بلّلونة، امحمّد بن صالح والطيّب المهيري (أعضاء).

التنسيق بين باريس وتونس وعواصم أخرى: برز من خلال ربطه الصلة بين قيادة الحزب بتونس والزعيم بورقيبة بالقاهرة من جهة، والسلطات الفرنسية بباريس من جهة ثانية ثمّ إشرافه على كلّ من الشعبة والجامعة الدستوريّتينِ اللتين عهدت إليهما مهمّة تكوين النخبة التونسية (من أساتذة وأطبّاء وموظّفين مستقرّين هناك وطلبة...) والعمّال بالإحاطة بهم اجتماعيا وسياسيا عبرعقد اجتماعات وتجمّعات عامّة (بمناسبة زيارة زعماء وقادة الحزب لفرنسا) وإلقاء محاضرات وإصدار نشريّات وبيانات وإعلانات... وتوزيعها عليهم فوق التراب الفرنسي لإعلامهم بكلّ المستجدّات السياسية في تونس وردود الفعل الرسمية لفرنسا تجاهها. وكان يلتقي الطلبة بالحيّ اللاتيني بعد منتصف النهار إثر تناولهم الغذاء بمطعم الجمعية بشارع سان ميشال وتبدأ النقاشات حول القضايا الوطنية والعربية والمغاربية التي تتصدّر الساحة السياسية آنذاك.

وقد أفرزت جهوده تلك بعث «المكتب التونسي للإعلام «Le Bureau Tunisien d’Information» ضمّ كلّا من: البشير بوعلي والطيّب السحباني ومحمّد الميلي... كما تحوّل في أكثر من مرّة إلى خارج فرنسا للقيام ببعض المهامّ الدقيقة كلقائه في مارس 1947 ببورقيبة بجنيف في طريق عودته من الولايات المتحدة إلى القاهرة... وفي 28 أوت 1948 غادر باريس في اتّجاه القاهرة رفقة الزعيم صالح بن يوسف لملاقاة الزعيم بورقيبة الموجود هناك منذ مـــارس 1945 لإحاطته علمـــا باتّصــــالاته بالســـلطات الفرنسية.

المسؤول عــــن النشــرة الســـرية «تـــونس تخاطبكـــم» «La Tunisie Vous parle»:

بعد إعادة بعث شعبة باريس  وبغاية تمتين الاتّصال بين البرلمانيّين والأوساط السياسية الفرنسية والأجنبية، تولّى جلّولي فارس  بإيعاز من الحزب وبالتعاون مع طلبة باريس بعث نشرة سريّة تحمل اسم: «تونس تخاطبكم «La Tunisie vous parle». وقد سبق بعث هذه النشرة تكوين  «المكتب التونسي للإعلام».

وبعد تجميع المادّة الأوّلية حول الموضوع الذي يريد التطرّق إليه تنطلق عمليّة تحرير المقالات. وقد تطوّع عديد الطلبة للكتابة في النشرة، نذكر من بينهم: أحمد المستيري وعمر الدالي ومحمّد الميلي وأحمد بن صالح ومحمّد المصمودي والبشير بوعلي... وبعد الإنتهاء من تجميع وتصحيح المقالات تبدأ عملية الرقن التي كانت تتمّ كلّ ليلة سبت ببيت الطالبين البشير بوعلي والحبيب زغندة  على «الستنسيل» Stencil» ويساعدهما على رقنها التيجاني بن خليفة . وكان السكّان يتفطّنون للحركة ببيت البشير بوعلي والحبيب زغندة فيتوجّهون بالسؤال إلى البشير بوعلي عن مصدر هذا الضجيج والحركة فيقول لهم: «إنّنا بصدد رحي القهوة فيصمتون» !

وفي الصباح الباكر ليوم الأحد تكون النشرة جاهزة ولا تنتظر سوى التوزيع. وللقيام بذلك أعدّ ممثّل الحزب بباريس الأستاذ جلّولي فارس قائمة طويلة لأشخاص لهم اهتمام بالشؤون السياسية والأفريقية وبأسماء يتمّ اختيارها من دليل الهاتف ومن مسؤولين في الوزارات والسفراء. وكان التوزيع يتمّ عبر صناديق البريد بباريس، بعيدا عن الحيّ اللاتيني. كما كانت توجّه إلى تونس بعض الأعداد. وقد أمكن لهؤلاء الطلبة إصدار حوالي 30 عددا من هذه النشرة على امتــداد حـــوالي 15 شهـــرا (من جـــانفي 1947 إلى أفريـل 1948).

ورغم هيمنة المواضيع السياسية وفي مقدّمتها أخبار الحركة الوطنية كالقضية المنصفيّة ونشاط الحبيب بورقيبة بالمشرق وأخبار المستعمرات في ظلّ الحرب الباردة، فإنّ النشرة لم تخل من بعض المواضيع الثقافية والفكرية. وكانت هذه المقالات غير ممضاة أو بأسماء مستعارة تجنّبا لتتبّع أصحابها. وباكتشاف قضيّة تحويل العملة تمّ الكشف عن أصحاب هذه النشرة السرية، فأضيفت إلى ملفّ السيد جلولي فارس تهمة أخرى وهي «خرق قانون الصّحافة». وقد أخذت القضية مجراها إلى أن تمّ الحكم فيها بغرامة وذلك في جلسة بالمحكمة الفرنسية بباريس في أفريل 1950 أثناء وجود بورقيبة بالعاصمة الفرنسية الذي تدخّل لدى رئيس حكومة «إدغار فور» في الغرض.

إعداد مخطّط لتهريب المنصف باي من مدينة «بُو» إلى القاهرة

على إثر فرار الأمير عبد الكريم الخطابي إلى مصر سنة 1947 في طريق عودته من مدغشقر والرغبة في دعم العمل الوطني المغاربي بالقاهرة، لاحت في أوساط الوطنيّين التونسيين بالعاصمة المصرية فكرة نقل المنصف باي سرّا من منفاه بمدينة «بو» إلى القاهرة لإعطاء دفع جديد للعمل الوطني ببلد عربي مستقلّ. وفي إحدى زياراته الأسبوعية لمدينة «بو» عرض جلولي فارس على الباي المخلوع المشروع، فلم يبد معارضته، وتهيّأ الجميع لتنفيذ العمليّة. ويبدو أنّ الحزب قد أوكل مسألة التنفيذ إلى كلّ من الهادي الجلولي ومحمّد (حمــــادي) بوجمعة. كما أعطاها اسما ســريّا «عيّنــــات» «Echantillons». وعن هذه العملية كتب بورقيبة من الولايات المتحدة إلى ابن أخيه مصطفى كمال  في رسالة موجّهة إلى الوطنيين بكلّ من تونس والقاهرة: «...إنّي أعوّل عليك وعلى الأمين لحفز « ح «H» بخصوص عملية العيّنات Echantillons...».

وقد تمّ الاتفاق على تفاصيل الفرار بين الأستاذ جلّولي فارس وكلّ من رؤوف باي والشاذلي قايد السبسي وأحمد بن صالح الذي سيصاحب الباي في رحلته. وقد قضىّ الباي كامل الأسبوع مرتــاح البال. وليلة الفرار تهيّأ كأحســـــن ما يكون للحدث حيث أعدّ حقيبة وضع بداخلها ملابس وبعض المجوهرات الثمينة وقطعا من الذهب، وتمّ الاتفاق على أن يستيقضا في الساعة الرابعة صباحا ليذهبا بعدها بقليل. غير أنّه «في الساعة الثانية تمّ إيقاظ أحمد بن صالح ليمثل أمام المنصف باي الذي قال له على انفراد: «... لن أذهب هذا الصباح، إنّ شيئا ما سيحدث وأنّ الأمور لن تسير على النحو المرجوّ، إنّها مسألة حسّ، واضعا بنانه على أنفه...». وبوفاته في غرّة سبتمبر 1948، تجنّد جلّولي فارس مع الطلبة التونسيين الذين بقوا بفرنسا خلال العطلة الصيفيّة لإعداد مراسم نقل جثمانه من مدينة «بو» إلى مدينة  «تولون» «Toulon» في اتجاه ميناء تونس ومنها إلى مثواه الأخير بمقبرة الزلاّج.

مُخطّطُ «عمليّة الأموال»: لتمويل مصاريف إقامة بورقيبة بمصــــر (بين 1945 و 1949) تولّى جلّولي فارس بمساعدة عديد الطلبة: عبد الحيمد الفقيه  وأحمد بن صالح والطيب السحباني ومحمّد الميلي... تأمين تحويل الهبات المالية الواردة عليه من تونس إلى حَولات بريدية نحو القاهرة. غير أنّ مصالح البريد الفرنسي قد تفطّنت إلى ذلك بسبب أهمية المبالغ المالية المحوّلة التي بلغت حسب بعض التقارير بين 300 و 500 ألف فرنك فأعلمت الدوائر الأمنية بباريس التي تولّت التحقيق في الموضوع بعد أن انتابتها شكوك بأنّ التحويلات تتمّ لفائدة شخصيات عربية مقيمة بالقاهرة لتمويل الحرب ضدّ الكيان الصهيوني المعلن في 15 ماي 1948، كما قامت بالتحقيق مع كلّ أفراد التنظيم. وكان وزير الداخلية من أصول يهودية، «جول موك «Jules Moch» شخصيا يتابع من مكتبه التحقيق عبر جهاز لاسلكي عن طريق أعوان من ثقاته. وبعد مشاورات أذن وكيل الجمهورية الأستاذ «فاسّار «Vassart» بإخلاء سبيل الطلبة وإيقاف ممثّل الحزب جلّولي فارس. وبعد أيّام تمّ إيقافه بالجنوب الغربي لفرنسا وإحالته على القضاء وفي أفريل 1950 أصدرت محكمة باريس حكما يقضي بتغريمه بـ 5.000 فرنك. وإثر تسوية وضعيته القضــــــائية قرّر الحزب دعــــوة الأستـــــاذ جلولي فارس للعــــــودة إلى تونس وتكليف الطالب محمّد المصمودي بمواصلة المهمّة بعد إتمام دراستـــه العليا بباريس.

وعموما أعطى نشاط الأستاذ جلّولي فارس بفرنسا دفعا جديدا للقضيّة الوطنية وقضايا التحرّر لدول شمال إفريقيا والقضيّة الفلسطينية، سواء في الأوساط الرسمية الفرنسية أو المغاربية والعربية المقيمة هناك.

نضاله الوطني في تونس بين 1950 و 1956

فور عودته إلى تونس واصل الأستاذ جلّولي فارس نضاله صلب الحزب حيث انتخب عضوا بالديوان السياسي للحزب للمرّة الثانية بعد 1948. وعلى إثر إيقاف قادة الحزب والوطنيّين ونفيهم بالجنوب التونسي غداة المؤتمر السرّي المنعقد يوم 18 جانفي 1952 الذي أقرّ الكفاح المسلّح، تكفّل رفقة الزعيم فرحات حشاد بمتابعة ملفّ المقاومة المسلّحة بالجنوب التونسي (توفير الأسلحة وإيصال الأموال والمؤن والتعليمات للمقاومين والقيام بعمليات نوعية هناك...) ثمّ مع قادة آخرين إثر اغتيال حشاد في 05 ديسمبر 1952 وذلك إلى غاية صائفة 1954...

رجل الدولة: يظهر من خلال الخطط والمناصب العليا التي اضطلع بها في جهاز الدولة وهي تباعا

وزيرا للتربية القومية في حكومة الطاهربن عمّــــار الثانية (1955 - 1956): بوصفه أستاذا للغة والآداب العربية وقيّما عاما سابقا بالمدرسة الصادقية ومن رموز الحزب، عُيّن جلّولي فارس في 17 سبتمبر 1955 وزيرا للمعارف في الحكومة التفاوضية الثانية للطاهر بن عمّار التي ستحلّ محلّ إدارة التعليم العمومي الفرنسية المحدثة في 05 ماي 1883 من طرف «بيار- لوي ماشــــوال» Pierre – Louis achuel». ورغم قصر الفترة التي قضّاها على رأس هذه الوزارة فقد شرع رفقة أعضاء الفريق العامل معه وفي مقدّمتهم، الكاتب العام للوزارة، الأستاذ محمّد العابد مزالي (أوّل مبرّز في اللغة والآداب العربية من السربون سنة 1932) والأستاذ محمّد مزالي...، في وضع مخطّط لتَوْنَسَةِ التعليم وتعريفه في مراحله الثلاث وتهيئة الإطار التربوي والبيداغوجي التونسي الملائم والكفء لتسلّم المشعل من نظيره الفرنسي. وقد خلفه في 15 أفريل 1956 الأستاذ الأمين الشابي ثمّ الأستاذ محمود المسعدي بداية من 06 ماي 1956 ليثمر مشروع التعليم العمومي الذي يحمل اسمه رسميا في 04 نوفمبر 1958.

عضوا، فرئيسا للمجلس القـــومي التأسيـــسي ومجلـــس الأمّة (1956 - 1964)

في 25 مارس 1956 انتُخب جلّولي فارس نائبا بالمجلس القومي التأسيسي عن دائرة قابس- جربة بقائمة الجبهة الوطنية. وعلى إثر انتخاب الحبيب بورقيبة رئيسا للحكومة يوم 12أفريل 1956 تمّ انتخابه 17 أفريل 1956 رئيسا للمجلس بالإجماع خلفا لبورقيبة. وقد تولّى الاضطلاع بهذا المنصب لأكثر من ثلاث سنوات تمّ خلالها التأسيس لتونس الجديدة (بعث مؤسّسات واتخاذ قرارات سيادية وتونَسة هياكل وأجهزة الدولة...)، لعلّ أهمّها دوره في نصّ الإعلان عن النظام الجمهوري يوم 25 جويلية 1957 و صياغة وإصدار دستور للبلاد في 01 جوان 1959. ورغم نهاية أشغال المجلس في 01 جويلية فقد شارك الأستاذ جلّولي فارس ثانية في الانتخابات التشريعية المنعقدة في 8  نوفمبر 1959 عن نفس الدائرة وحظي بثقة زملائه النوّاب بانتخابه رئيسا لمجلس الأمّة لدورة بخمس سنوات وذلك إلى غاية سنة 1964.

رئيسا للمجلس البلدي بالحامّة 1956 - 1959

في أوّل انتخابات بلدية أجريت في تونس المستقلّة في 05 ماي 1957 انتخب الأستاذ جلولي فارس رئيسا لبلدية الحامّة (أحدثت سنة 1920). وقد حافظ على هذا المنصب كرئيس منتخب لمدّة ثلاثة و ثلاثين سنة (إلى غاية سنة 1990). ورغم استقراره بالعاصمة وبُعدِ المسافة بين المدينتين، فقد كان محبوبا من قبل مواطنيه، ساهرا على توفير سبل العيش الكريم وخاصّة البيئة السليمة لهم. وإن لم يكن جيولوجيا أو خبيرا في علوم الحياة والأرض لفهم مسألة المياه الجوفية وطبقات الأرض، فقد قرّر تلقائيا عدم الترخيص لأيّ كان بانجاز مشروع حمّام معدني خاصّ بالحامّة حتّى لا يحرم البلدية من استغلالها لهذا المشروع الحيوي ولا يرهق المائدة المائية الجوفية بالجهة. وفي سنة 1990 ترك جلولي فارس البلدية وركن إلى الراحة ببيته فأصبح عدد الحمّامات الخاصة بالحامّة يفوق العشرة وأرهقت المائدة المائية ودفعت البلدية الثمن غاليا بإغلاق الحمام التابع لها مرارا. ونال الواحة ما نالها من العطش، حتّى ماتت آلاف من أصول النخيل عطشا... ويكفي أن يقوم الزائر بجولة بين هذه الحمّامات ليرى الكمّ الهائل من المياه الضائعة التي تذهب إلى قنوات الديوان الوطني للتطهير، بينما كانت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي تذهب لريّ واحة الحامّة الغنّاء بعد تنقيتها !

وفــــاتـــــه

في 28 أكتوبر 2001 ترجّل فارس بمسقط رأسه بعد رحلة عمر حافلة بالنضال والعطاء دامت 82 سنة، تاركا بصماته في أكثر من ميدان، وطنيا ودوليّا ومحلّيا. ورغم كل هذا العطاء فإنه لم يسلم من الجفاء والانتقاد أحيانا، حتّى من قبل رفاق دربه في النضال وفي مقدّمتهما الرئيس بورقيبة الذي تناساه لسنوات بعد مغادرته لمجلس الأمّة سنة 1964 (باستثناء دعوته للحضور بمقرّ الولاية بمناسبة زياراته الرسمية لقابس). كما عاب عليه في إحدى خطبه وبأسلوب ساخر بقاءه أعزبا دون زواج ! وقد حزّ ذلك في نفسيّته (حسب شهادة أبناء أخيه والمقرّبين منه). ولعلّ ذلك ما يفسّر تأييد الرجل لتحوّل السابع من نوفمبر 1987!  وقد قام الرئيس زين العابدين بن علي في مطلع سنة 1988 بردّ الاعتبار للرجل باستقباله في قصر قرطاج والاستماع لمشاغله وتكليفه برئاسة «المجلس الاستشاري للمقاومين والمناضلين» ثمّ الإذن  أكثر من مرّة لوالي قابس بالسهر على صحّته وراحته قبيل وفاته بدليل وضعه لصورته مع بن علي في صالــون بيتـــه وأخيرا تأبينـــه من قبل النائب الأوّل لرئيس التجمّع الدستوري الديمقــــراطي، الدكتور حامد القروي.

حريّ بنــــا رد الاعتبار للرجل بإطلاق اسمه على أنهج وشوارع وقاعة أو فضاء بمبنى مجلس نوّاب الشعب وإدراج سيرته ضمن كتب التاريخ والتربية المدنيّة  لتطّلع عليها الناشئة والأجيال القادمة...!

د. عادل بن يوسف

*Essai sur les activités des nationalistes tunisiens en France au lendemain de la deuxième guerre mondiale : Le cas de Jellouli Farès 1946-1950, Revue sadikienne,Nouvelle série, N°12, Tunis, janvier 1999, pp 79-94.




 

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.