الحبيب الدريدي: أخلاق رجــل السّيــاســـة فــي النّصــوص العــربيّة القديمـة
بقلم د. الحبيب الدريدي - لم يعد خافيا ما بلغته الحياة السّياسيّة من تردٍّ إلى درك أسفل من الضّحالة والإسفاف، و ليس بمستتر ما انحطّت إليه ممارسة السّياسة من ضعفٍ وتهافتٍ يكشف عنهما اتّضاعُ مستوى النّقاشِ السّياسيّ ومهانةُ المواقف السّياسيّة وخذلانُها وغلبةُ المصالح الشّخصيّة والفئويّة الضّيّقة على المصلحة العليا للوطن. وممّا زاد الخطبَ فداحةً ما لحق متعاطي السّياسة، وجلّهم من «الهوّاة» الواغلين على عالمها والمتطفّلين على علومها وفنونها، من شبهات ومطاعن وما طالهم من مخازٍ ومعايب بات أغلبُها حقائق ظاهرة لا تُدفَعُ ووقائع ماثلة لا تُجحَدُ ولا تُنكرُ حتّى تهاوت صورة رجل السّياسة ذاك الحكيم الأريب وانهار كلّ ما كان يمثّله في المخيال من فضائل ومناقبَ. فلم يعد من زعيم مُلهم يُلهب حماسة الجماهير، ولا من قائدٍ تجتمع النّاسُ حول فكرته، ولا من صاحب نظرٍ بعيد يحمل مشروعا ورؤية، ولا من نزيه متعفّفٍ يطمئنّ الشّعب لذمّته وحُرمته، ولا من حكيم متبصِّرٍ يُوجّه إلى الرّأي السّديد ويرسم سبل النّجاح، ولا من نابهٍ فطين يستبق مجريات الأمور ويأخذ الأهبة لتصاريفها.
لعلّ أحد الأسباب المساهمة في هذا التّردّي أنَّ السّواد الأعظم من المتشاغلين بالسّياسةِ قد تقحَّمَ رحابها ولمَّا يتزوّدوا لها معرفة صالحة وعلما نافعًا.فالواضح أنَّ أغلب هؤلاء لا يقرؤون وليس في خلفيّتهم الثّقافيّة وأفقهم الفكريّ آثارٌ من أمّهات نصوص الفكر السّياسيّ لا القديمة منها ولا الحديثة ولا ما أُلّف منها في الغرب ولا في الشّرق رغم أنّ أقلّ تلك النّصوص يُسعفهم بما لا بُدّ للسّياسيّ من معرفته في خوض غمار هذه التّجربة.
ولهذا تخيّرنا بعض النّصوص الهامّة في هذا الباب وانتقيناها من مظانّ كتب التّراث العربيّ في أربعة محاور أساسيّة هي:
• سيرة رجل السّياسة وأخلاقه وسجاياه
• خصاله في مباشرة مهامّه ومسؤوليّاته
• معاملته للخصوم والمخالفين
• معاملته لسائر النّاس ممّن كانت تسمّيهم المصادر القديمة «الرّعيّة» ونسمّيهم اليوم «الشّعب».
ولن نستفيـــض في تحليل هذه النّصوص واستقرائها فهي ناطقة لا تحتاج إلى من يُنطقها، وحسبُنا أن نُقدّمها ونؤطّرها ونذكر ظروفها وسياقاتها. وقد رغَّبَنا في استحضــــــارها أنَّ كثيرا منها مــا يزال، على تقادم الزّمن وتباعد العهد، صالحــــا يجد به «ممتهـــن» السّياسة كنزًا واسعا يُنفــــق منه ومنهــــلا سائغا يرِدُهُ ويصـــدر عنه.
السّيرة والخُلُق والسّجايا
تنعقد أهمّ الأفكار في هذا الباب على التّنبيه إلى ضرورة التّرفّع عمّا ينساقُ إليه سائر النّاس عادة من حبّ الشّهوات والسّعي إلى المال واستعمال الكذب والمَيْنِواتّباع الأهواء والنّوازع والميل إلى التّفكّه والمزاح. وقد اهتمّت بهذا الجانب من شخصيّة رجل السّياسة كتب عديدة منها «كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة» للفارابي وكتاب «الأدب الكبير والأدب الصّغير» لابن المقفّع ورسالة نادرة حرّرها عبد الحميد الكاتب عن مــــروان بن محمّد آخر خلفاء بني أميّة في الشّام إلى ابنه عبد اللّه بن مروان وكان خليفته في الجزيرة، وقد أوردها أحمد زكي صفوت في «جمهرة رســائل العرب».
أمّا الفارابي فيقول في خصال السّائس
«... ثمّ أن يكون غير شرِهٍ على المأكول والمشروب والمنكوح متجنّبا بالطّبع للّعب مبغضا للّذات الكائنة عن هذه ... ثمّ أن يكون محبًّا للصّدق وأهله مبغضا للكذب وأهله... ثمّ أن يكون كبير النّفس، محبًّا للكرامة: تكبر نفسه بالطّبع عن كلّ ما يشين من الأمور، وتسمو نفسه بالطّبع إلى الأرفع منها ... ثمّ أن يكون الدّرهم والدّينار وسائر أعراض الدّنيا هيّنة عنده».
وأمّا ابن المقفّع فيحذّر من الكلف بالمديح والإطراء ويدعو إلى التّعفّف عن المال : «وإيّاكَ أن يكون من شأنكَ حبُّ المدح والتّزكية وأن يعرف النّاس ذلك منكَ، فتكون ثُلمة من الثُّلم يتقحّمون عليكَ منها وبابًا يفتحونكَ منه، وغيبةً يغتابونكَ بها ويضحكون منكَ لها»، ويُضيف: «ولا عليكَ أن تلهو عن المال والذّكر فسيأتيكَ منهما ما يَحسُنُ ويطيب ويُكتفى به»
وينصــــح الخليفة مـــــروان بن محمّد ابنه باتّقـــــاء هوى النّفس واجتناب الوقوع في نوازع الميول والرّغائب ومقاومتها بصرامة وعزمٍ فيقول له بقلم عبد الحميد الكاتب: «واعلمْ أنّ كلّ أهوائك لك عدوٌّ يحاول هلكتَكَ ويعترض غفلتكَ (...) فاحــــذرها مُجانبالها وتوقَّها محترسا منها ... وجاهدها إن تناصــــرتْ عليك بعزمٍ صادقٍ وحزمٍ نافذٍ وصدقٍ غالبٍ ومضاءة صــارمة ونيّةٍ صحيحةٍ» .
ومهما حرص السّائس على كتمان أسراره وستر ما لا يُحبُّ أن ينمى إلى العامّة من خواصّ أموره فيطّلعون على خافيته فإنّ أحواله مكشوفة لهم مذاعة بينهم، ولذلك فهو مدعوٌّ إلى إصلاح شؤونه وتقويم عيوبه باستمرار حتّى ينجو من ألسنة العامّة واغتيابها : «وتعلَّمْ أنّكَ وإن خلوتَ بسرٍّ فألقيتَ دونه سُتوركَ وأغلقتَ عليه أبوابكَ فذلك لا محالة مكشوفٌ للعامّة ظاهرٌ عنكَ...فتقدَّم في إحكام ذلك من نفسك وسَدِّ خلله عنكَفإنَّه ليس أحدٌ أسرعُ إليه سوءُ القالةِ ولغَطُ العامّةِ بخيرٍ أو شرٍّ ممّن كان في مثل حالكَ ومكانكَ الذّي أصبحتَ به» .
خصال السّائس في عمله ومهامّه
مدارُ هذه الخصال على فصاحة اللّسان، ويقظة الذّهن، والحرص على إقامة العدل، والجرأة في اتّخاذ القرار، والإعراض عن أصحاب الوشاية والسِّعاية، وتجنّب العمل العفويّ المرتجل. وفي هذا الصّدد يقول الفارابي: «... ثمّ أن يكون جيّدَ الفطنة ذكيًّا، إذا رأى الشّيءَ بأدنى دليل فطن له على الجهة التّي دلّ عليها الدّليل ... ثمَّ أن يكون حَسَنَ العبارة يُؤاتيه لسانُه على إبانة كلّ ما يُضمره إبانةً تامّةً ... ثمّ أن يكون بالطّبع محبًّا للعدل وأهله ، ومبغضا للجور والظّلم وأهلهما، يُعطي النَّصَفَ من أهله ومن غيره ويحثّ عليه، ويُؤتي من حلَّ به الجَوْرُ مؤاتيا لكلّ ما يراه حســـنًا وجمـــيلًا ... ثمَّ أن يكون عدلا غير صعب القياد، ولا جموحا ولا لجوجا إذا دُعي إلى العدل، بل صعب القياد إذا دُعي إلى الجَوْر وإلى القبيح... ثمَّ أن يكون قويَّا لعزيمـــة على الشّيء الذّي يـــرى أنّه ينبغــــي أن يُفعلَ، جسورًا عليــــه، مقداما غير خائِفٍ ولا ضعيــــف النّفس».
وبخصوص قطع الطّريق أمام الوشاة والسّعاة وسدّ الأبواب في وجوههم يقول عبد الحميد الكاتب على لسان مروان بن محمّد: «واعلمْ أنّ أقواما سيُسرعون إليك بالسّعاية ويأتونك من قِبل النّصيحة ويستميلونك بإظهار الشّفقة ويستدعونك بالإغراء والشّبهة... فلا يصلنَّ إلى مشافهتك ساعٍ بشبهة ولا معروفٌ بتُهمةٍ ولا منسوبٌ إلى بدعةٍ» .
ومن حُسن التّدبير أن لا يُزاول السّائسُ حوائج من يتولّى عليهم ومطالبَهم على نحو مباشرٍ وإنّما يحسُنُ أن يُنيط بأحد أعوانه وكتَبَتِه النّظر فيها قبل إحالتها عليه حتّى يتهيّأ لها ويُحكم تفحّصها ودرسها فلا يعالجها عفوا وبديهة، وذاك ما أشار به مروان بن محمّد على ابنه: «ثمّ إيّاك أن يصل إليك أحدٌ من جندك وجُلسائك وخاصّتك وبطانتك بمسألةٍ يكشفها لك أو حاجةٍ يَبْدَهُكَ بطلبها حتّى يرفعها قبل ذلك إلى كاتبك الذّي أهدفتهُ ونصبتهُ لهُ فيعرضها عليك ... فإن أردتَ إسعافَه بها ونجاحَ ما سأل منها أذنتَ له في طلبها مقبلا عليه بوجهك مع ظهور سرورك بما سألك...وإن كــــرهتَ قضاء حاجته وثقُل عليك إجابتُهُ إليها وإسعــــافُه بها أمرتَ كاتبك فصفحهُ عنها ومنعه من مواجهتك بها فخفَّـــتْ عليكَ في ذلك المؤونةُولم يُنشر عنك تجهُّمُ الرّدّ ويَنَلْكَ ســــوءُ القـــــالةِ في المنع وحُمل عــــلى كاتبكَ في ذلك لائمــــةٌ أنت منهــا بريءُ السّاحة» .
معاملة الخصوم والمخالفين
تتّفق أغلب نصوص الفكر السّياسيّ على ضرورة الاستناد إلى العقل والرّصانة والحِلم والحجّة في مقارعة الخصوم وعلى الأخذ بآراء المخالفين من العقلاء وإن كان في العمل بها مشقّةٌ وعــــنــــاءٌ. ففي معاملــــة العدوّ يقول ابن المقفّــــــع: «لتكـــــن غايتُكَ فيها بينكَ وبين عدوّكَ العدلَ ... وذلك أنّ العدوَّ خصم تصرعُهُ بالحجّة وتغلبه بالحكّام»، ويُضيف في موطن آخر من «الأدب الكبيــــر والأدب الصّغير» : «والْبَسْ لهؤلاء القوم الذّين هم أعداؤك سلاحَ الصحّة والاستقامة ولزوم المحجّة فيما تُسرُّ وتُعلن ... وإن ذكرك ذاكرٌ بسوء في وجهك أو في غيبتك فلا يُرَينَّ منك اختلاطٌ لذلك ولا اغتياظ ولا ضجرٌ، ولا يقعنَّ ذلك في نفسك موقع ما يكرثُكَ، فإنّه إن وقع منك ذلك الموقعَ أدخلَ عليكَ أمورا مشتبهة بالرّيبة مذكِّرة لما قال فيك العــــائبُ. وإن اضطرّكَالأمرُ من ذلك إلى الجـــــواب فإيّاكَ وجــــوابَ الغضب والانتقام وعليكَ بجـــــواب الحجّة في حلمٍ ووقارٍ، ولا تشكنَّ في أنَّ الغلبة والقــــوّة للحلم أبدًا.»
وأمّا في الأخذ برأي المخالفين فهو ينصح رجل السّياسة قائلا : «عوِّدْ نفسك الصّبرَ على من خالفك من ذوي النّصيحة والتّجرّع لمرارة قولهم وعذلهم، ولا تسهّلنّ سبيل ذلك إلّا لأهل العقل والسّنّ والمروءة لئلّا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه أو يستخفّ به شانئٌ».
ويؤكّد هذه الدّعوة إلى طلب النّصح والمشورة حتّى من الأعداء المخالفين : «فإنّ ذا العقل لا يدعُ مشورةَ عدوّه إذا كان ذا رأي في الأمر يُشير بما فيه نفعُه أو ضرُّه».
وهو ما يذهب إليه أبو حيّان التّوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة» حين يقول في نصح الوزير: «ولا تبخلْ على نفسك برأي غيركَ وإن كان خاملا في نفسكَ قليلا في عينكَ، فإنّ الرّأي كالدرّة التّي ربّما وُجدت في الطّريق وفي المزبلة».
معاملة العامّة
لعلّ أهمّ النّصوص التّراثيّة في هذا الباب هو ما جاء في الجزء الثّالث من كتاب «الإمتاع والمؤانسة» للتّوحيدي ( اللّيلة 34) عندما أبدى الوزير ضيقه وغيظه لما بلغه عن خوض العامّة في شأنه وذكرِها أمورَه وتتبّعِها لأسراره وكان يهمّ بقطع ألسنة وأيدٍ وأرجلٍ وتنكيل شديد ، فكان من جواب أبي حيّان : «ليس ينبغي لمن كان اللّه عزّ وجلّ جعله سائس النّاس (...) أن يضجر ممّا يبلغه عنهم أو عن واحد منهم لأسباب كثيرة منها أنَّ عقلَهُ فوق عقولهم وحِلْمَه أفضلُ من حلومهم وصبرَه أتمُّ من صبرهم، ومنها أنّهم إنّما جُعلوا تحت قدرته ليقوم بحقّ اللّه تعالى فيهم ويصبر على جهل جاهلهم ويكون عمادُ حاله معهم الرّفقَ بهم والقيامَ بمصالحهم (...) ولو قالت الرّعيّة لسُلطانها: لم لا نخوض في حديثك ولا نبحث عن غيب أمرك؟ ولمَ لا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك ومصالِحُنا متعلّقةٌ بكَ وخيراتُنَا متوقَّعةٌ من جهتكَ...؟ما كان جوابُ سلطانها وسائسها؟ أما كان عليه أن يعلم أنّ الرعيّة مصيبةٌ في دعواها، بلى واللّه الحقُّ معترفٌ به وإن شغبَ الشّاغبُ وأعنتَ المعنِتُ. ولو قالت الرّعيّة أيضا: ولم لا نبحثُ عن أمركَ؟ ولم لا تسمع كلَّ غثٍّ وسمين منَّا وقد ملكتَ نواصينا وسكنتَ ديارنا وصادرتَنا على أموالنا وقاسمتَنا مواريثنا وأنسيتَنا رفاغة العيش وطيبَ الحياة وطمأنينةَ القلب ... ما كان الجوابُ أيضا عمّا قالت ولم تقل هيبة لك وخوفا على أنفسها من سطوتك وصولتك؟ (...) ألا تدري أنّ أحدًا من الرّعيّة لا يقول ما يقول إلّا لظُلم لحِقَه أو لحق جاره وداهيةٍ نالته أو نالت صاحبا له؟».
فإذا كان سلاطينُ الأمس الغابر وملوكُ الماضي البعيد وخلفاؤه وأمراؤه يلتمسون حُسْنَ المؤازرة ومبذول النّصيحة ويُغلَظُ لهم القولُ وتُشدَّدُ لهم الموعظة وهم من أُطلقت أياديهم في التّصرّف وجرت إرادتهم على ما يشتهون فكيف بحكّام الحاضر الذّين يحتاجون في كلّ وقت إلى ثقة شعوبهم ورضاها عنهم وقوّة أملها فيهم. فهل من مدّكر؟
د. الحبيب الدريدي
- اكتب تعليق
- تعليق