عامر بوعزة: نصف الكأس الملآن
بقلم عامر بوعزة - يتابع التونسيون الأزمة السياسية الراهنة بكثير من القلق لما لها من انعكاسات على الوضع الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، فيغلب لديهم التشاؤم على التفاؤل، وتجد التوقعات الأكثر سوداوية طريقها بسهولة إلى نفوسهم، وتتعمق عندهم الحيرة من المستقبل والخوف من المجهول.
ولو سألت أحدهم عن مصدر هذا القلق وسبب الخوف لأشار بإصبعه إلى مجلس نواب الشعب أولا، حيث تنقل الشاشات يوميا صورا لا تشرّف الديمقراطية ولا تناسب قيم الجمهورية، ثم سيشير إلى القصبة ثانيا حيث دُفع رئيس الحكومة إلى الاستقالة دفعا تحت وطأة ما عرف بقضية تضارب المصالح، وفي وقت كان الناس يتطلعون فيه إلى توفير مواطن الشغل وتحقيق التنمية ومقاومة التضخم ومباشرة الإصلاحات الكبرى وإطلاق المشاريع الاستراتيجية، لم تستطع الحكومةأن تفعل شيئا غير مواجهة جائحة كورونا والخروج من العاصفة بأخفّ الأضرار ثم الاقتصار على تصريف الأعمال.
هذه الأزمة السياسية انتهت إليها بلادُنا بعد انتخابات حرة ونزيهة اعتُبرت نتائجُها مؤلمةً ومخيبة للآمال لدى الكثيرين، لكنها تعكس -شئنا أم أبينا- إرادة الشعب واختياراته المصيرية وتصوراته المستقبلية، وهي نتاج ثقافته ووعيه ورؤيته للحكم.ولذلك يمثل الوضع الراهن دليلا قويا لدى بعض جيوب الردة على أفضلية الاستبداد وعدم جدارة الناخب التونسي بحق تقرير مصيره،وهذا الشعور قد ينتهي إليه أيضا المواطن العادي الذي لا تُريه وسائلُ الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي إلا ما يجعله أكثر يأسا من أي وقت مضى: نصفَ الكأس الفارغ من الديمقراطية.
والنصف الملآن من الكأس ماذا يوجد فيه؟
ثمة عدة عناصر يمكن أن تعطي مجتمعةًصورة إيجابية عن التجربة الديمقراطية التونسية وتنشر إحساسا بالطمأنينة، رغم القلق والخوف والتشاؤم، ورغم قسوة ظروف الحياة اليومية وشدّة وطأتها على الفقراء ومحدودي الدخل. أول هذه العناصر: الإعلام الحرّ، فقضية تضارب المصالح التي أطاحت برئيس الحكومة بدأت بحوار تلفزيوني مباشر وسؤال ألقاه الصحفي بوبكر بن عكاشة على إلياس الفخفاخ حول شركاتهوأسهمه، وكذلك قضية سيارة وزير النقلأثارها الصحفي محمد بوغلاب في ركنه الإذاعي اليومي. وهذان المثالان فقط يقيمان الدليل على أن الإعلام أضحى سلطة حقيقية على غرار ما نراه في الديمقراطيات العريقة. العنصر الثاني يتعلق بالدور الرقابي للسلطة التشريعية ويجسده هنا النائب ياسين العياري الذي انطلق من حوار رئيس الحكومة ليقوم باستقصاء حقيقي حوّل الشبهة إلى إدانة، والعنصر الثالث تمثله الحكومة ذاتها بالتمييز بين التضامن الحكومي والتواطؤ، إذ كلّفت الهيئات الرقابية بالتحقيق في ما أثير حول رئيسها من شبهات ونشرت التقارير على رؤوس الملأ. أما العنصر الرابع فهو رئيس الجمهورية الذي لا ينكر أحد أنه يمارس وظائفه الدستورية باستقامة لا نظير لها. وهذه العناصر الأربعة تتحرك بشكل مستقل، لكنها تتكامل فيما بينها لتحقيق هدف واحد هو مقاومة الفساد وإرساء ثقافة جديدة تشترط في ممارسة الحكم أعلى درجات النزاهة والعفّة.
لم تطالب شعارات الثورة بتغيير هوية المجتمع، إنما دعت إلى مقاومة الفساد الذي استشرى في مفاصل الدولة حتى تصدعت أركانها وتداعت للسقوط، وبعد عشر سنوات كاملة من سقوط نظام بن علي ما يزال الفساد يتمدد في شرايينها، وما تزال مكافحته على رأس الأولويات.ولذا يمكن أن يندرج كل هذا الحراك في تلبية استحقاقات الثورة والقطع مع نموذج في الحوكمة قائم على «الزبونية»، ورغم ذلك تبدو الممانعة أشرس من أي وقت مضى داخل طبقة سياسية تزعم أنها مدينة للثورة باعتلائها سدّة الحكم. ويبدو ترويج الصور القاتمة عن الديمقراطية غطاء مثاليا للتعتيم على الفاسدين والتشويش على أي إصلاح، لا سيما بالتركيز المفرط على الاستقطاب الثنائي داخل المنظومة الحزبية، وحصر السياسة داخل هذه الفقاعة الجوفاء وصرف النظر عن كل ما يتصل بالمصلحة العامة.
بتأمل كل مكونات المشهد، يبدو الإعلام لاسيما العمومي منه الطرف المؤهل أكثر من غيره للقيام بدور تعديلي شرط الخروج من هذه الفقاعة والتحرر من إكراهات نسب المشاهدة. فلا أهمية للاستقلالية إذا لم تكن دعامة للمسؤولية المجتمعية وأداة للتربية على الديمقراطية. كما إن المجتمع في حاجة إلى روح معنوية عالية وثقة في المستقبل رغم صعوبة الظرف الاقتصادي واستشراء الفقر. فالتشاؤم سلاح فعال في وجه كل تغيير إيجابي والتركيز المفرط على أسوأ ما في العمل النيابي والسياسي ليسإلا جزءا من مخطط يستهدف التجربة الديمقراطية ويهدّد بتقويضها.
عامر بوعزة
- اكتب تعليق
- تعليق