أخبار - 2020.07.24

رافع ابن عاشور - الباجي قائد السبسي: مسيرة حكم وفق مبادئ وخيارات وطنية

رافع ابن عاشور - الباجي قائد السبسي: مسيرة حكم وفق مبادئ وخيارات وطنية

بقلم رافع ابن عاشور

أحبابي الأدنين مهلاً واعلموا
أن الوشاة تفرّق القرباء
إلّا يكن عطفٌ فردّوا ودّنا
ردّاً يكون على المصاب عزاء

نحيي الذكرى الأولى لرحيل رئيسنا وزعيمنا الباجي قائد السبسي، طيّب الله ثراه، وقد عاش قرابة القرن مناضلا وطنيا دستوريا إلى جانب أحد أبرز زعماء حركات التحرر من الاستعمار في القرن العشرين وباني الدولة الوطنية المستقلة، المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة، الذي جعل من تحرير المواطن التونسي من الجهل ومن المرض ومن التخلف ديدنه، فسار تلميذه ورفيقه الباجي قائد السبسي، على دربه لمّا تولّى مختلف المسؤوليات منذ الاستقلال، في الحكومة وفي التمثيل الدبلوماسي وفي الحزب، جاعلا هو أيضا من هيبة الدولة ورفعة منزلة تونس بين الأمم وتقدمّها وعلوّها على جميع الهياكل والتنظيمات، وخاصّة منها الحزبية شعاره.

ولم يتوان عن مخالفة المجاهد الأكبر لما تبيّن له انحرافسياسته عن المبادئ التي رباه عليها، فاستقال من خطته كسفيرللجمهورية التونسية لدى الجمهورية الفرنسية، وتوجّه إلى الرئيس، بكامل المحبّة والاحترام، برسالة تاريخية، نشرها بصحيفة لوموند، يوم 12 جانفي 1972، أكّد فيها، بشجاعة وتبصّر ضرورة دمقرطة النّظام واحترامه الحقوق العامّة داعيا إلى "إعادة النظّر في نظامنا السياسي وأساليبنا في الحكم {....}. فبعد خمس عشرة سنة من الحكم، أصبح النظام السياسي مثل أي نظام آخر، في حاجة إلى إصلاح يأخذ بعين الاعتبار التطوّرات الضروريّة".

وعلى إثر تغيير النظام سنة 1987، انخرط في المنظومة الجديدة،ظنا منه وبحسن نيّة وطنية، أنها ذات بعد إصلاحي لكن، تبيّن له، بعد مضي ثلاث سنوات فقط، البون الشاسع بين النوايا المعلنة والممارسة، فجاء في كتابة ما يلي حول هذه الفترة " لقد فتح إعلان 7 نوفمبر 1987 آفاقا واسعة أمام تطلّعات الشعب التونسي الأكثر اتساعا" لكنّ انتخابات 1989، مثّلت لديه خيبة أمل أولى إذ يقول في كتابه "الأهمّ والمهمّ": "قرّرت أن أؤدي مهمّتي النيابية حتى نهايتها وأن أعود إلى مزاولة مهنة المحاماة مثلما كان الأمر في جانفي 1972، لما غادرت منصب السّفارة في باريس" ويضيف إنّ "الإصلاح يستوجب أكثر من تعديل شكلي وأكثر من تكيّف على مستوى الخطاب، بل هو في حاجة إلى رؤية وإرادة  {....} وفي اعتقادي أن سنة 1991 كان بمثابة بداية توقف طويل".

انقطع الباجي قائد السبسي عن كل عمل سياسي من سنة 1994 إلى سنة 2011، وشاءت الأقدار أن يكون، إثر ثورة الحريّة والكرامة، الرّجل المناسب لانتشال الثورة من المأزق التي آلت إليه إثر اعتصام القصبة II. قبل التحدي، كما يقول في حديثه مع أرلات شابو، "شعورا بأنّ فرصة أتيحت لي لأطبق ما القناعات التي كنت عبّرت عنها سنة 1970 " .

استجاب الباجي قائد السبسي لنداء الواجب والوطنية فقبل، وقد بلغ من العمر 83 سنة، مهمّة الوزارة الأولى برباطة جأش وعزم راسخ على الإنجاز، في وقت اندثرت فيه مقوّمات الدّولة وهيبتها.ويقول في حوار تلفزي واصفاالوضع الكارثي الذي وجد عليه التلاد، لمّا قبل الأمانة: "وجدنا البلاد محروقة والمؤسسات متوقّفة عن العمل والسجّون مفتوحة وقد فرّ منها 11000 منحرف، وهاجر 22000 مواطنا نحو لمبدوزا فاحتلّوها وكانت الحدود مع ليبيا مفتوحة دخل منها أكثر1.300.000 لاجئا".  ويضيف في حديثه آنف الذكر مع أرلات شابو "كانت المخاطر تحدق بالبلاد من كل جانب، وأصبح من المتحتّم علينا إنقاذ الدولة والثورة من الفوضى التي كانت تهددهما".

وبفضل حنكته ونظرته البعيدة تمكن الباجي قائد السبسي منذ تولّيه مقاليد الوزارة الأولى، فكّ اعتصام القصبةII الذي استعصى حلّه على الحكومة السّابقة، وعاد إلى ممارسة السلّطة من المقرّ الرّسمي للوزارة الأولي، أي من قصر الحكومة بالقصبة، بعدما هاجرها الوزير الأوّل، السيد محمد الغنّوشي، إلى قصر قرطاج، واستتب الأمن تدريجيّا داخل البلاد وانكبّسي الباجيبالأساس على توفير كل الظّروف الملائمة لتنظيم انتخابات ديمقراطيّة وشفافة، انبثق عنها مجلس وطني تأسيسي وحكومة، تسلّمت مقاليد السلطة في موكب، قلّ نظيره،يوم 26 ديسمبر 2011.

على أنّ ما ميّز مداولات المجلس التأسيسي من بطء و من إصدارمشاريع رجعيّة، وما نتج من تقويض لمقوّمات الدولة خلال حكم "الترويكا"، فرضا على سي الباجي الخروج مرّة أخرى من عزلته الذاتيّة، وتوجّه بنداء إلى القوى الدّيمقراطيةيوم 26 جانفي 2012،  للمّ الشّمل وإعادة التوازن للمشهد السياسي، فأقدم بشجاعة وجرأة على تكوين حزب سياسي منفتح على الجميع، وهو حزب نداء تونس الذي كان له الدّور البارز في إعادة التّوازن للمشهد السياسي، والتّصدي لمحاولات الإقصاء المختلفة، ونجاح اعتصام الرحيل، وتنظيم الحوار الوطنيوإنجاحه، والتعجيل بإصدار الدستور، وتولي حكومة كفاءات وطنية مقاليد السّلطة لتنظيم أول انتخابات رئاسية وتشريعية سنة 2014.

في ظرف وجيز تمكّن حزب نداء تونس بفضل تبصّر رئيسه ومؤسّسه، من قلب الأوضاع، ففاز المرشّحالباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية وتحصّل حزبه على الأغلبية النّسبية بمجلس نواب الشعب.

ومنذ تولّيه رئاسة الجمهورية، حرص الرئيس الباجي قائد السبسي على إرساء سياسة التوافق، رافضا إقصاء من كانوا بالأمس يريدون إقصاءه، وأرجع للسياسة الخارجية بريقها الآنف، ووقف في وجه الإرهاب فكان محلّ المحبّة والاحترام والتقدير في الدّاخل والخارج.

وما شهدته تونس يوم تشييع جنازته من خروج الشّعب بكامل مكوّناته إلى الشّارع لتوديع "البجبوج"، كما درج على تسميته بنو وطنه، وما وفد على تونس من رؤساء دولوبعثات رسميّة كان اعترافا بجميل الرجل. فقد آنى على نفسه، كما كان يقول، أن يموت واقفا، فحرص أيّاما معدودات قبل الوفاة على إمضاء أمر دعوة الناخبين إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019.

إننا نفتقد اليوم الباجي قائد السبسيوكلّنا حسرة وأسى عليه لما نلاحظه من تردّللأوضاع.  السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد كان الرئيس الباجي قائد السبسي رجل دولة يأتمّ معنى الكلمة، وكان شعاره الدائم "الصدق في القول والإخلاص في العمل"،تشبّث طوال حياته بمبدأ هيبة الدولة وحرمتها واستقلاليتها، أحبّ وطنه وأحبّ شعبه واستطاع بفضل حنكته وبعد نظره تجنيب البلاد مخاطر عديدة. ولقد كان لي الشّرف الأثيل بمرافقة وبصحبة وبمصاحبة سي الباجي بعد الثورة، وواكبت مختلف المسؤوليات التي اضطلع بها من 2011 إلى 2019، فتبنّاني وفزت بالبنوة الروحيّة، وها أنا اليوم أحييهذا الصّرح الشامخ، تحيّة إجلال وتقدير ومحبّة، عساي أوفّيه حقه عليّ، وأدعو له بالجزاء الأوفى عمّا عمل وقدّم وأنجز لوطنه ولشعبه ولدولته.

قال تعالى: "قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " (سورة المائدة الآية 119)

رحمه الله ورزق أهله وذويه وأحبّته الصبر الجميل.

رافع ابن عاشور
وزير معتمد لدى الوزير الأول (2011) ،
عضو المكتب التنفيذي لحركة نداء تونس (2013 – 2015) ومستشار خاص لدى رئيس الجمهورية (2015).

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.