عبد الحفيظ الهرڤام: من يقدرعلى تجميع صفوف التونسيين؟
بقلم عبد الحفيظ الهرڤام - منذ أن انقضت فترة الحجر الصحّي الذي فرضته جائحة كوفيد- 19 وبدأت الحياة تسترجع نسقها الطبيعي في أغلب المجالات، تعيش تونس على وقع "عودة سياسية" سابقة لأوانها تزامنت مع أزمة جديدة في علاقة بشبهة تضارب المصالح التي تحوم حول رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، في حين أنّ هذه العودة التي لا تخلو من قوّة رمزية توافق، كما هو معلوم ، بداية سبتمبر من كلّ عام. وبحلول هذا الشهر يكون أهل السياسة والقائمون على تصريف الشأن العام قد استمتعوا بمباهج الصيف واستجمعوا قواهم استعدادا للتصدّي لما هو مطروح من كبريات الملفّات والقضايا عقب العطلة. غير أنّ الزمن السياسي في تونس أضحى مختلفا عمّا هو سائد في بلدان أخرى، فالأيّام والفصول عندنا تتشابه بما تشترك في حمله من مظاهر انحدار مخيف في جميع المستويات ، في ظلّ تفاقم أزمة خانقة متعدّدة الأبعاد تعصف بالبلاد منذ عدّة سنوات وتدهور مستمرّ للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية واشتداد ضراوة المعارك السياسية التي بلغ فيها الانحطاط الأخلاقي والعنف اللفظي درجات مؤسفة.وخير مثال على ذلك الأجواء المسمومة داخل المجلس النيابي الذي تحوّل إلى حلبة صراع بين عدد من كتله، يُذكي نيرانَه تبادل التهم والشتائم بأقذع النعوت وسعيٌ محموم إلى تسجيل النقاط على حساب الخصم من خلال حرب اللوائح، ممّا أثّر سلبا في أداء المجلس وحال دون تركيز اهتمامه على قضايا البلاد المصيرية.
واتّجه المشهد السياسي تبعا لذلك نحو حالة من الاستقطاب الثنائي الحادّ المنذر بمخاطر جمّة على استقرار البلاد وأمنها الداخلي، مع احتدام العداء بين حركة النهضة والحزب الدستوري الحرّ وانحسار دور معظم الأحزاب التي لم يلاحظ لها أيّ حضور على الميدان ولا تفاعل مع شواغل المواطنين وتطلّعاتهم.
وممّا زاد الأمور تعقيدا، في الآونة الأخيرة، تأزُّم العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب على خلفيّة إدارة ملفّات السياسة الخارجية ولا سيّما الملفّ الليبي وعجز منظومة الحكم الحالية عن التعامل مع التحديّات الداخلية والإقليمية بنجاعة ووفق مقاربة موحّدة، علاوة على غياب الرؤية المتجانسة داخل الائتلاف الحكومي.
عندما قدّم إلياس الفخفاخ أمام البرلمان حصيلة المائة يوم من عمل حكومته، كان التونسيون ينتظرون منه أن يعرض خارطة طريق واضحة المعالم لاستحثاث نسق الإصلاحات الرامية إلى تعزيز الأداء الاقتصادي وتطوير مناخ الأعمال وضمان استدامة التوازنات المالية ودفع الاستثمار والنهوض بالتشغيل وتحسين الظروف المعيشية خاصّة للفئات الهشّة،.. بعدما نال من واسع الصلاحيات ما لم ينله أيّ رئيس حكومة في السابق ، فبالإضافة إلى صلاحياته الدستورية، حصل على تفويض من مجلس نوّاب الشعب لإصدار مراسيم قصد مواجهة جائحة كورونا، تطبيقا للفصل 70 من الدستور، بيد أنّ الحصيلة كانت دون المؤمّل ، باستثناء النجاح في الحدّ من الوفيات بسبب الجائحة. وفي حقيقة الأمر لم يلح من خطاب الفخفاخ ما يعزّز الاقتناع بامتلاك حكومته لبرنامج جليّ ومتكامل سواء لما تبقّى من هذه السنة أو للمستقبل، بل طغى عليه هاجس الدفاع عن النفس ودحض شبهة تضارب المصالح.
وأمام تشظّي المشهد السياسي الحالي وتنامي الفرقة والتباغض بين أبرز مكوّناته وتعطّل لغة الحوار بين مختلف الأطراف الفاعلة في الساحة الوطنية، أصبح هذا السؤال مطروحا بإلحاح: من يقدر اليوم على توحيد صفوف التونسيين وحثّهم على إرساء أرضية للتعايش المشترك صونا للوحدة الوطنية التي باتت مهدّدة؟
تتّجه أنظار عدد من الملاحظين والفاعلين السياسيين نحو رئيس الجمهورية قيس سعيّد، الذي يعتبرونه الشخصية الأقدر على المبادرة بالدعوة إلى حوار وطني، بحكم ما حظي به من شرعية شعبية واسعة على الرغم ممّا شهدته من تراجع في المدّة الأخيرة بسبب افتقاده لسند سياسي متين داخل البرلمان وخارجه يمكّٰنه من تنفيذ برنامجه، على أن يتمّ خلال الحوار الذي يضمّ كلّ القوى السياسية والاجتماعية بلورة مشروع للإنقاذ الوطني، بعد إجراء تقييم موضوعي للحصيلة منذ 2011 والوقوف على المعوّقات التي حالت دون تحقيق الطموحات الوطنية، بما في ذلك طبيعة النظام السياسي والقانون الانتخابي اللذين يعتبران في نظر عدد من السياسيين وخبراء القانون الدستوري سببا من أسباب حالة الشلل التي أصابت البلاد في السنوات الأخيرة.
ولعلّ من بين الأسئلة الجوهريّة التي يتعيّن عرضها على بساط الدرس : هل يجب إجراء تعديل دستوري أم لا؟ وإن كان هذا التعديل ضروريّا ففي أيّ اتّجاه ينبغي إجراؤه وبأيّ وسائل وتدابير؟ أم أنّ المشكل السياسي الذي تواجهه تونس اليوم - وعوارضه اقتصادية واجتماعية- إنَّما مردّه "أزمة الدولة" حسب عدد من علماء السياسة؟
ومهما كانت الأجوبة عن هذه الأسئلة فإنّ مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلاد من تردّ يتحمّلها بالأساس السياسيون الذين عليهم أن يقوموا بمحاسبة النفس بدل التستّر وراء إشكاليات منظومة الحكم أو البحث عن مبرّرات أخرى لممارساتهم. فلا بأس من أن يستحضروا هذه الأبيات البليغة للإمام الشافعي :
نُعيــــب زمــــاننا والعيــــــب فينـــــــا
ومــــــا لــــــزماننا عيـــــــــبٌ سِـــــوانا
ونهجـــــو ذا الزمان بغــــــير ذنـــــــــب
ولـــو نطـــــق الزمـــــان لنـــا هجـــانـــا
وليـــــس الذئـــب يأكـــل لحــم ذئـــب
ويأكـــــل بَعضُـــــنَا بعـــضا عٓيـــــانا.
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق