أخبار - 2020.07.17

عندما تطرق الصوفية أبواب العقلانية... قراءة في كتاب »وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحقّ« للكاتبة ألفة يوسف

عندما تطرق الصوفية أبواب العقلانية... قراءة في كتاب  »وجه الله: ثلاثة  سبل إلى الحقّ« للكاتبة ألفة يوسف

قد يبدو من العسير جدّا على الفكر الإنساني أن يتعامل مع الظاهرة الدينيّة بمعزل عن منطق التأويل الذي يستدعي في الغالب مواقف تدّعي القدرة على تفكيك التجربة الدينيّة وقراءة الشّأن الدّيني بنزعة عقلانيّة تسعى جاهدة إلى كسر الأنظمة المعرفيّة المتأسّسة  على قراءات سطحيّة لمجموعة من المتديّنين الرّبوبيين أو الكتابيين مأخوذة أحيانا بالتفسير الفقهي والأسطوري، وهنا تكمن مركزيّة الإيمان العقلي باعتباره السبيل الأكثر فاعليّة في إدراك الوعي الكامل بالخلاص الإنساني في عالمي الشّهادة والغيب.

ولكن قد يتغيّر الفكر في حيازته للعقلانيّة وانضباطه وفق شروط المنطق العقلي فيركن إلى أرضيّة لزجة كحلّ وحيد ونهائي للخروج من دوامة البحث الإشكالي والنقدي المحفوف دائما بالقصور في استيفاء شروط القول بمشروعيّة الحقيقة المطلقة حول مفاهيم جوهريّة هي بالأساس المحرّك الرئيس للظاهرة الدينيّة، ونعني بذلك مفاهيم « الإله، الإنسان، الطبيعة « فتبرز القراءة الروحانيّة الصوفيّة بديلا عن الطروحات العقليّة والمنطقيّة وتتحوّل حقيقة الإيمان من تجربة فلسفيّة علميّة قائمة على فهم عقلاني لمستويات الوجود الإلهي والإنساني إلى تجربة نورانيّة صوفيّة تقدر على تقديم إجابات دينيّة على الكثير من الأسئلة الشائكة والمتعلّقة بقضايا الإنسان في أبعاده الروحيّة ككائن بشريّ أكرمته المشيئة الإلهيّة وكرّمته باستخلافها في الأرض.

في مضمون الكتاب ودلالاته

وفي هذا السياق يمكن تنزيل كتاب الكاتبة التونسيّة ألفة يوسف الصادر حديثا تحت عنوان « وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحقّ» عن دار مسكلياني للّنشر وهذا الكتاب يمثّل مرحلة جديدة من مراحل بحث الأستاذة ألفة يوسف في قضايا الإيمان وإشكالاته الدينيّة على امتداد عقدين من الزمن من خلال مؤلفات عديدة أمعنت فيها الكاتبة النظر في مسائل دينيّة مرتبطة بالأحكام الفقهيّة والتشريعات الدينيّة فضلا عن العودة إلى البحث في أصل الدّين والإيمان الغيبي وذلك من خلال تركيزها على عناوين من قبيل»حيرة مسلمة» و»ناقصات عقل ودين» و»الإخبار عن المرأة في القران والسنّة» و»شوق قراءة في أركان الإسلام» وصولا إلى إصدارها الأخير « وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحقّ» ، وهذا الكتاب وإن مثّل مرحلة جديدة من مراحل التفكير في دراسة الدّين بجميع مكوّناته ومستوياته المعرفيّة الحسيّة والمّاديّة فإنّه جاء معلنا عن قطيعة نقديّة مع التفكير العقلاني في مساءلة التجربة الإيمانيّة التي يعيشها الإنسان أنطولوجيا وايبستيمولوجيا ومحمّلا في الآن نفسه بإجابات تدّعي اليقين المعرفي الكفيل بإزالة القلق المدهش الذي ما انفك يعتري الإنسان في بحثه عن حقيقة الوجود في إطلاقيته ونسبيته «الوجود المطلق والوجود النسبيّ». وبقليل من التمعّن في كتاب « وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحق» للكاتبة ألفة يوسف نستنتج أنّ المقدّمات التي انبتت عليها أفكار هذا الكتاب ترتكز أساسا على الأبعاد الروحيّة في صياغة طبيعة العلائق الجامعة بين الإنساني والإلهي أو بين الكلّي والجزئي وهو مدار اشتغال الصوفي في انشغاله بالإلهيات المجرّدة وإنكاره الإلهيات الحسيّة وفي رحلته أيضا نحو معانقة المطلق وتجميل الطريق المؤدية إلى الله.

الطريق إلى الله بين العقلي والنوراني

لمّا كان الله في المنظور الصوفي أجمل من الطريق إليه، فإنّ الكاتبة ألفة يوسف حدّدت ثلاثة سبل كفيلة بتحقيق الوصول إلى الحقّ الذي هو اسم من أسماء الله الحسنى المدرجة في مدوّنة الفقه الإسلامي ، وهذه السّبل الثلاث هي طريق العمل ، وطريق الرّضا وطريق الذّكر. ولكنّ اللّافت أنّ مجموع هذه الطرق التي أشرنا إليها تطرح سؤالا جوهريا كلّما أخرجناها من سياقها الديني الروحاني والقينا بها تحت وصاية العقل والتفكير . ذلك أنّ التجربة الإيمانية القائمة على العمل تبقى محكومة بقيود الرّضا والقناعة ومدعوّة إلى إنشاد هذا الخلاص في التسبيح والذّكر فلا عمل إذن خارج حدود الرّضا ولا فعل في قلب موازين الواقع إذا ما اقتضى الأمر ذلك، وهي رؤية صوفيّة تحصر تجربة إيمان الفرد في معاني الرّضا والقناعة واستلهام الصبر وتدعوه إلى أن يعمل في حدود الممكن والمتاح له بشروط القاعدة الفقهيّة التي تعطي للإنسان إمكانات العمل على تحسين شروط الحياة دونما تعدّ على حرمة الرّضا بمشيئة الله وتقديره، يعني جدلا العمل في حدود الرضّا وكلّ عمل خارج هذه المقرّرات الفقهيّة المحدّدة لدين الله هي انحراف وسقوط في البدع والهرطقة الموجبتين للعّنة الأبديّة.

وهذه المقرّرات المحمولة على الرّضا بمشيئة الله والتي لا يحقّ للفرد مجرّد التفكير في تجاوزها، إنّما هي مقرّرات فقهيّة صادرة عن مشارب دينيّة ربطت إرادة الإنسان بأغلال تفسيريّة أودعته في غياهب الجهل وحصرت سعادته وشقاءه في مدى التزامه بتلك المشروطيات المألوفة لدى المحيط الفقهيّ والأصولي، فالجمع بين طريق العمل، وطريق الرضّا هو نسف لطرفي التفاوض بين الفعل الإنساني والإرادة الإلهيّة. وتزداد النزعة الصوفيّة في كتاب «وجه الله» للكاتبة ألف يوسف عمقا واتّساعا في حديثها عن طريق الذّكر سبيلا مؤدّيا حتما إلى الله الحقّ من خلال عزوف النّفس عن الشهوات والتجافي عن الدنيا التي هي في نظر الصوفيّ دار فانية وزائلة، فالذّكر بما هو قطع علاقة القلب بالحياة الدّنيا وانصرافه إلى الشقاء من أجل الوصول إلى دار الخلود والبقاء، هذا الطريق بمثابة طريق العزلة والمجاهدة بتصفية القلب لذكر الله وتزكية النّفس وتهذيب الأخلاق، وهي الطريق التي سلكها الإمام أبي حامد الغزالي في آخر حياته بعد ما انتبه إلى قصور العقل عن إدراك جوهر الإيمان وحقيقته أثناء رحلته مع العقلانيّة والمعتزلة. وهو ما جعل الخروج عن منطق العقل في الوصول إلى فهم حقيقي لأسرار الإيمان ممكنا بالركون إلى التسليم بنور مشكاة النبوّة، وما الإيمان إلاّ نور يلقى به في الصدور وما الإيمان إلاّ تجربة فرديّة ذاتيّة معلّقة بالقلب لا بالعقل.

فهل وقفت الكاتبة ألفة يوسف على مشارف النهاية التي توّقف عندها أبو حامد الغزالي في كتابه « المنقذ من الضلالة» وهي الباحثة التونسية المختصّة في اللغة العربيّة واللسانيّات تعدّد المعنى في القرآن والمهتمة بالمقاربات النقديّة للفّكر الإسلامي؟

من المؤكّد أن كتاب «وجه الله ثلاث سبل إلى الحقّ» لا يعتمد لغة كتب المتصوّفة التي يعسر فهمها من قراءة أولى وتتطلّب جهدا كبيرا لفكّ رموزها التعبيريّة وأسرارها الدلاليّة وإنّما جاء الكتاب في لغة مألوفة وفي متناول القارئ العادي تتوفّر على تبسيط للمفاهيم وتفاسير تساعد على استرسال الفهم لمتن الكتاب ومضامينه. وبمقدور القارئ أن يتعقّب أطروحات الكاتبة كما انعكست في عنوان الكتاب» وجه الله ثلاثة سبل إلى الحقّ» وهو عنوان يكشف عن المسارات الممكنة المؤدّية إلى المطلق والمقترنة بتضمين آخر وهو أنّ «وجه الله» هو تصوّر ذهني من إنتاج نزعة عقليّة محكومة بالحاجة لإشباع رغبة  المؤمن في الانصراف إلى الذّات الإلهيّة المطلقة عبر فعل إصباغ المعنى على صورتها ونتبيّن ذلك من خلال استحضار الكاتبة لعبارة وجه الله الواردة في السرديات التاريخيّة للحضارات القديمة والتي تشمل أيضا الحضارات البابليّة والكنعانيّة والتوراتيّة وصولا إلى إله محمّد وإله عيسى وإله إبراهيم وموسى . فالله نفسه يتحوّل إلى وجهة مخصوصة يتعيّن على المؤمن البحث عن السبل المؤدّية للوصول إلى تلك الوجه المعيّنة، فالله واحد ولكن الطريق المؤدّية إليه عديدة وكثيرة بحسب عدد الأنفـــس على حــــدّ تعبير ابن القيم الجوزيّ.

ومهما يكن من أمر يبقى هذا الكتاب إضافة نوعيّة وكميّة للمكتبة العربيّة في جهودها إلى اغناء الفكر الديني وتنويعه ولكن ليس بالعقل وحده يستطيع الإنسان أن يحيا بفكرة الاستخلاف على الأرض بل يحتاج كذلك إلى نزعة روحانيّة تمنح الإنسان القدرة على بلوغ حسن البقاء . فهل كان لا بدّ من التجربة الصوفيّة النورانيّة ليكتمل الإيمان بإحياء القلب وإيقاظه من سباته التاريخي العميق؟ وهل أنّ قدر العقلانيّة يكمن في إنتاج الحقيقة في حين تظلّ النزعة الروحانيّة نورا يضيء الطريق إلى تلك الحقيقة؟..

د. الأسعد العياري
كاتب وشاعر وإعلامي
 
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.