أخبار - 2020.07.14

عبد العزيز قاسم: الثقافة تكرّم مـــن كرّمــها

عبد العزيز قاسم: الثقافة تكرّم مـــن كرّمــها

1

بقلم عبد العزيز قاسم - عشية الخميس 9 جويلية الجاري، بمدينة الثقافة، انتظم حفل أربعينية المرحوم الشاذلي القليبي. وبالمناسبة رفع السيد رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ الستار رسميا عن اللوحة الرخامية التي تطلق اسم الراحل الكبير على هذه المؤسّسة المتألّقة ومنذ وفاة الفقيد انطلقت من الفيس بوك مقترحات بهذه التسمية وسرعان ما تبنّتها الجهات الرسمية وبالتحديد السيدة شيراز العتيري وزيرة الشؤون الثقافية. واستحسن الكثير هذا التكريم إلا أنّ البعض، ممّن لا يعرفون من الرجل إلا تحمّله لمسؤوليات وزارية، تساءل عن جدارته وطرح غيرهم بدائل تنقصها الجديّة. إنّ المبدعين راسخي القدم في كافة المجالات الثقافية يعرفون الشاذلي القليبي  مثقّفا نموذجيا مكتملا ووزيرا للشؤون الثقافية ليس كالوزراء فهو المؤسّس لهياكل هذا القطاع والمنظّر الفاعل للسياسة الثقافية التونسية دون أيّة اعتبارات حصرية ضيّقة أو فئوية. وهو إلى ذلك كاتب كبير ذو إسهامات فكرية وأدبية عالية المستوى وهو كذلك أكاديمي عضو بمجمع اللغة العربية بالقاهرة. وفي الكتاب الممتاز الذي أعدّته المكتبة الوطنية بالمناسبة وما يتضمّنه من شهادات حيّة قدّمها الذين عرفوه ومن ببليوغرافية ثرية فيها إصداراته وتصديراته، مقالاته وخطبه، ما يبرر هذا التكريم بما فيه الكفاية. ولا يفوتني أن أتقدّم، تثمينا لهذا العمل القيم والدقيق، بأحرّ عبارات التقدير والتهنئة إلى الأستاذة رجاء بن سلامة المديرة العامة لدار الكتب الوطنية وإلى مساعديها ومساعداتها من أمثال لمياء بن عمر وهاجر الساحلي.

2

ومن الإنصاف التنويه بالجهة التي أقامت هذا الحفل الذي هو بذاته عمل فنّي متميّز، فضلا عمّا يتضمنه من قيم الوفاء ومن ضرورة التذكّر ومراجعة النفس من أجل وثبة جديدة نحو الإبداع ومن أجل توطيد دعائم العمل في ظلّ الأزمة الخانقة التي نعيشها منذ التغيير. تحيّة إذن إلى وزارة الشؤون الثقافية التي حرصت على تكريم مؤسّسها بما يليق. تحيّة إلى السيدة الوزيرة شيراز العتيري لمبادرتها بإقامة هذا الحفل ولتسخيرها لكل الجهود والطاقات اللازمة لإنجاحه. شكرا لكافة أعضادها وخاصّة المخرج السينمائي المتمرّس هشام بن عمار وكامل طاقمه. شكرا لسدنة المعبد أعني القائمين على مدينة الثقافة من أمثال محمد الهادي الجويني وسفيان الفقيه.

3

لقد سبق أن اجتمعنا مع السيدة شيراز العتيري إعدادا للأربعينية وسرّنا تصوّرُها للعمل الثقافي في إطار التواصل مع جيل الروّاد ولا يسعنا إلا أن نستبشر بعزمها على الاحتفال، السنة القادمة، بستينية بعث وزارة الشؤون الثقافية التي أحدثت في أكتوبر1961، جاعلة من هذه الذكرى فرصة لإحلال الثقافة منزلتها كـ"رهان حضاري" وفق ما كان يسميه الراحل الشاذلي القليبي وذلك بتحديث البرامج والدفع بالإبداع إلى مزيد من الجودة وبحضور تونس في الخارج نحو استعادة ما كانت عليه من تألّق.

4

المؤسف أنّ الدعوات لحضور الحفل تأخّر طبعها فلم تصل إلى كلّ المدعوين. ومع ذلك حضر كثير من المثقّفين كما حضر من الجانب الرسمي إلى جانب وزيرة الشؤون الثقافية، عدد من الوزراء على رأسهم رئيس الحكومة، وعدد من النواب على رأسهم رئيس مجلس نواب الشعب. نعم حضر الشيخ راشد. وتساءل الناس عن غياب رئيس الجمهورية. ولم يجد أحد مبرّرا لهذا الغياب وذهبت التخمينات كلّ مذهب وسط ما يكتنف سماء تونس من سحب لا تبشّر بغيث... وشكرا في النهاية للتلفزة الوطنية التي بثّت الحفل على المباشر فعمّمت الحضور...

5

يحسن التذكير، ونحن في مجال الأربعينية، بالأسس الفكرية التي قامت عليها السياسة الثقافية التونسية كما جاءت على لسان مخطّطها الشاذلي القليبي في مقالاته ومحاضراته وكتبه وخاصّة في كتابه الأخير المنشور، بضعة أشهر قبل وفاته، أعني "تونس وعوامل القلق العربي" (دار الجنوب للنشر) الذي هو بمثابة وصيّته الثقافية والسياسية، وطنيا وعربيا. وفيه يركّز على أنّ "الرئيس بورڨيبة أنشأ وزارة، من رسالتها المساهَمة في نشر الوعي المجتمعي، والمساعَدة على تثبيت عقليّة التطوّر، في مختلف فئات المجتمع، سمّاها وزارة الشؤون الثقافيّة، حمّلها رسالة حضاريّة لم يسبق لها مثيل، في البلاد الساعية إلى النموّ والتطوّر". وفي تقييمه للعمل الثقافي، بعد قيام الثورة يرى أنه " لا يزال، إجمالا، دون الممكن، ودون ما يحتاج إليه المجتمع – رغم ما تحقّق من إبداعات مرموقة، جديرة بالتنويه. أمّا الفِكر، فالمنتظر منه تقييم الواقع الوطني، وسَبر مدى ارتباطه بالقِيم الحضاريّة؛ ثمّ تهيئة المنافذ فيه لِطموحات المستقبل. وإنّما بعملية السبر هذه والتقييم، يتأكّد تطوّر الشعب، أكثر فأكثر، إلى مجتمع واع وفاعل.

6

لقد كان الشاذلي القليبي يبني وزارته لبنة لبنة وسط تساؤلات لدى مثقّفي المرحلة ممّن كان لهم مفهوم حصري ضيّق للثقافة وكثيرا ما كان يجتهد في الردّ على هؤلاء مشيرا "إلى أنّ الوزارة الجديدة مدعوّة إلى تقويم بعض المسلـّمات الشائعة في المجتمع : مثل حَصْر صفة "المثقّف" في حاملي الشهادات العليا، وكذلك اعتبار صنوف الفنّ، جميعا، من مبتذل اللهو، وغير جديرة بالانتساب إلى الثقافة." ولم يكن من السهل عليه أن يقنع النخب التقليدية بأنٌ الفن "بتوفير سَعة الانشراح، وإيقاد الخيال، وتحريك المشاعر المنعشة، حوار مع أعماق الذاتيّة الجماعيّة، وإثراء لأريحياتها الجماليّة، وتحريك لِطاقاتها الإبداعيّة، مع ما ينبغي من الحفاظ على التلاؤم مع أصالتها التليدة." ذلك أنّ "العمل الثقافي مَعينُ طاقاته فِكر وفنّ، مع سعة بيان." ولاحتضان وزارة الشؤون الثقافية في عهده للفنون الشعبية شاع بين "المتثيقفين" تسميتها بوزارة زينة وعزيزة وهما اسما راقصتين شعبيتين مهذبتين اشتهرتا في تلك الفترة. إنّ مفهوم الثقافة السائد اليوم في شموله ومضامينه يعود أساسا لما عمل على تحديده الوزير المؤسّس.

7

يؤكّد الشاذلي القليبي أن يديه لم تكونا مغلولتين فلقد فوّض له الرئيس الحبيب بورقيبة أمر العمل الثقافي إلا أنّ الوزير كان ينطلق من الرؤية البورقيبية العامّة في هذا المضمار، إذ "كان حريصا على جعل العمل الثقافي، معا، متوجّهًا إلى الحداثة، ومنصهرا في النهر العظيم الآتي من أعماق تاريخنا. ذلك أنّ العمل الثقافي، في نظره، ينبغي أن يُسهّل الإطلال على الحداثة العالميّة، وأن يتولـّى، في نفس النسق، إحياء مختلف الروابط بالتراث، على اختلاف أحقابه، إذ كان مقتنعا أنّ إليه الانتماء، ومنه المدد، للنهوض بالمجتمع، وإصلاح أوضاعه."

8

اضطلع الشاذلي القليبي عن جدارة واقتدار بمهام الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في أصعب الظروف وفي الشهادات التي تضمّنها الحفل أقوال للرئيس الفلسطيني محمود عباس، والأمين العام الحالي للجامعة أحمد أبو الغيط، ولوزير الخارجية اللبناني ناصيف حتي، وأخيرا وليس آخرا شهادة الأمين العام المساعد الأسبق عدنان عمران الذي شهد بقدرة الفقيد على رأب الصدع العربي مركّزا على ثقافة الرجل الواسعة وكيف استغلّها بكفاءة عالية لفهم المشاكل وتذليلها.
وتبقى الثقافة هي الحلّ..

عبد العزيز قاسم

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.