منجي الزيدي: شباب العدم، قتلى الزمبريط
بقلم د. منجي الزيدي - فاجعة أخرى تُخَطُّ في سجلّ المآسي المفتوح في مجتمعنا. أكثر من ستِّين شخصًا أغلبهم من الشّباب أُصيبوا بحالة تسمّم جماعيّ جرّاء تناولهم مشروبًا اعتادوا على تعاطيه كمادّة مُسكِرة. تُوفيّ منهم ثمانية، من بينهم ثلاثة أشقّاء من أسرة واحدة، وفقد آخرون البصر. جدّت الحادثة في منطقة ريفية تتقاسمها القيروان والقصرين وهما من أقلّ الولايات حظاّ وأكثرها فقرا. وكان ذلك أيّام عيد الفطر. هذا المشروب اسمه »الزمبريط«. هو مُركّبٌ كيميائي من الكحول المستعمل في العطورات الشعبية المعروفة باسم »القوارص« يتمّ مزجه بالماء ليتحوّل إلى شراب مُسكِر رخيص الثّمن سريع المفعول قويّ الأثر. وكان هذه المرّة مغشوشًا.
هذه الحادثة تكشف غطاء القاع الخفيّ الآسن، وتُسلِّط الضّوء على دهاليزه المظلمة، وهي ليست الأولى. و«الزمبريط» ليس المشروب الوحيد فهنالك أنواع أخرى. وكلّها مواد كيميائيّة قاتلة تُذهب الوعي وتُدمّر الجسد. ويُعرف المدمن عليها بـ «الزبراط»؛ مثلما تُعرف ممارسة شمّ المادة اللاصقـــة القــويّة la colle forte بـفعل«يكلفر»...الشّباب الفقير المُعدم يجد في هذه السّموم ما يساعده على أن يغيب عن الوجود ولو لحين.. وعدد كبير منهم يفقد الحياة إن عاجلا أم آجلا.
الأشقّاء الثّلاثة الذين راحوا ضحيّة السّم المغشوش يعيشون في بيت خَرِبٍ مع والدَيهِم. أحدهم متزوّج وله طفل والاثنان الآخران أعزبان. السّن بين الثّلاثين والأربعين وهي مرحلة الشّباب المتأخّر، ذلك أنّ الشّباب أضحى فترة انتظار آخذة في التّمدّد بحكم تأخّر وصول القطار المؤدّي إلى الكرامة. يسكنون في منطقة «الشّوايحية»..دشرة معزولة غير بعيد عن جبال «مغيلة» حيث اختبأ الإرهاب، تعيش على اقتلاع الحلفاء والحَجَر. نعتها الوالد المكلوم حرفيًّا، لمَّا سألته الصّحافة، بأنّها «منطقة وحشية» ووصفت الأمّ الثكلى الحياة هناك بأنّها «أحوال ضَنكَا» و«ظروف حادّة». وقالت عن نفسها بأنّها «محروقة».
ليس جديدا على هؤلاء الشّباب تعاطي كحول «القوارص». فذلك دأب أغلب النّاس هناك. إنّه ممارسة جماعيّة يَنشُد فيها المنسيون الغياب بسرعة ولأطول وقت ممكن. هم لا يطلبون السُكْر بل يسعون إلى التّلاشي. يدركون أنّ المشروب سمٌّ زعاف ولكنّهم لا يأبهون بالهلاك. صرخ أحدهم في وجه المجتمع بأنّه حيّ ميّت وأنّه لن يتوقّف عن شرب الكحول المسموم وقد بلغ منه حدّ الثمانية لترات يوميا.
لم يكن الأشقّاء الثّلاثة يَسكَرون ليلة عيد الفطر بل كانوا يدقّون أبواب العدم. كان الوالد والوالدة شاهدين صامتين. عندما تعكّرت حالة أولادهم اعتبرا أنّ الأمر لا يعدو أن يكون سَكرة من سَكَرات الحياة الميّتة. نوبة صراع مع القهر والمقت والحرمان. لم يكن في الأمر انتشاءً كان في الأصل انتهاءً...شقيقهم الرابع صرّح أنّه لو كان بحوزته وقت الحادثة ديناران لكان التحق بأشقّائه في قعدة الموت الأخيرة.
أزاح قتلى «الزمبريط» السّتار عن كواليس تراجيديا المعدمين. ونزعوا الأقنعة عن كمبارس النّفاق السّياسي والاجتماعي. أولئك الذين تغنّوا بالكادحين، ومدحوا الشّباب ونزعوا عليه حُلَل البطولة، وأغرقوه وعودًا،واستخدموه سيوفًا من خشب في مبارزاتهم؛ وبعد انتهاء العرض وضعوا نصّ المسرحية في الدرج في انتظار المسرحية القادمة... وعاج المنسيون يبحثون عن خمّارة الموت الأسود.
إغراق الهموم في برك المُسكرات المغشوشة شأن أغلب شباب الأرض المقهورين والضائعين في أدغال عالم الحيف والظلم. تقضي هذه السّموم على أكثر من 3 ملايين و300 ألف ضحيّة سنويا، أي ما يعادل 133 مليون سنة حياة مهدورة، منظّمة الصحّة العالمية تؤكّد أنّ ربع استهلاك العالم من المُسكِرات يتمّ في القطاع غير المنظّم، وأن ثمّة عادات شرب سيّئة بصدد التّفشّي ترمي إلى فقدان الإدراك والوعي بسرعة Bing drinking وهــي تُتلف الكبــــد والأعضاء الحـــيوية بســـرعة فائقــــة. في كينيــــا على سبيل المثال هنالك مشروب جعة يُصنع في الأحياء الفقيرة يحمل اسم Changaa ومعناه «اقتلني بسرعة»!
تُعربد العولمة المتوحّشة ويدفع الشّباب ثمن الأقداح المكسورة. هنالك اليوم فئة آخذة في الاتساع يطلق عليها في الأوساط الأكاديمية والمنظّمات الدولية مصطلح: NEET ومعناه الشّباب خارج التّعليم والعمل والتّدريب.
أيّ شباب خــارجَ دائرة الحياة...شباب العــــدم. مـــــاذا نعرف عنهــــم في بـــــلادنا؟ ...لا شيء!
نَزَل الحرمان بثقله على رقبة الشّباب فلم يعد قادرا على التّنفّس. وها هو يعيش صراعا دراماتيكيا بين كونه الفارس الأسطوري الحامل لشعلة الحرية والكرامة، وبين كونه كائنا تطحنه “الحقرة»، يسير وحيدا أعزلا معزولا في عتمة اللاّيقين وانعدام الأمان.
تحمل حادثة «الزمبيرط» القاتل، نُذُرا اجتماعية تلوح في الأفق، وعلى المجتمع أن يصحو ويفيق. التّعامل مع مآسي المُعدمين وفق منطق أخلاقي أو سياسوي أو شعبوي هو إمعان في «الحقرة»، وتعميق لجهل المجتمع ومؤسّساته بجيل خُلق ليعيش فوجد نفسه إلى الموت أقرب...
م.ز.
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق