أخبار - 2020.06.18

السياسة الخارجية التونسية في مفترق الطرق: موسم خريف الدبلوماسية التونسية

السياسة الخارجية التونسية  في مفترق  الطرق: موسم خريف الدبلوماسية التونسية صورة للزعيم بورقيبة مع الأمين العام السويدي داخ همرشولد أثناء حفل تدشين اللوحة الجدارية من الفسيفساء التي أهدتها تونس وعلقت في رواق دخول الوفود في مقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك في 12 ماي 1961

بقلم محى الدين الحضري – أستاذ جامعي متميز وخبير مستشار دولي - تتوالى الأحداث والوقائع الصادمة التي تهز الساحة السياسية في تونس  ومن بينها تعالي الأصوات  والاعتصامات المطالبة بحل البرلمان أضافة الى الصراعات داخل البرلمان نفسه وآخرها جلسة المساءلة التي انعقدت يوم الثالث من جوان الجاري حول الدبلوماسية التونسية علاوة على مشروع اللائحة حول تجريم الاستعمار الفرنسي، لتكشف عن عمق الأزمة التي تعيشها البلاد وعن المخاطر الكبرى التي تتهدد أمنها واستقرارها وعلاقاتها  الخارجية  في المستقبل القريب والبعيد. بل أن الأمر أصبح على غاية من الخطورة بالنظر الى الوضع الإقليمي برمته وما يعتريه من مضاعفات نتيجة للتدخلات الأجنبية وخاصة التدخل التركي في ليبيا. وأمام هذه الأوضاع فقد أصبحت كل السيناريوهات مفتوحة على مصراعيها نحو الأسوأ بما في ذلك فرضية عودة الاحتلال الأجنبي. و بعد أن كان الاعتقاد سائدا لدى الجميع بأن مثل هذه الأوضاع تقتصر على المشرق العربي دون المغرب العربي يبدو أن الدور جاء على المنطقة المغاربية لتنخرط هي الأخرى في سيناريو الفوضى والتناحر الداخلي وربما شبح البلقنة والتقسيم. فهل المنطقة بأسرها على أبواب فصل جديد من الأحداث والتوترات؟ وهل نتعظ من دروس الماضي ومآسيه لكي نتخطى هموم الحاضر والمستقبل؟

1- الدبلوماسية التونسية بين الأمس واليوم

لقد سبق لنا في مقالات سابقة أن أشرنا الى الظروف والملابسات التي أحاطت بانطلاقة السياسة الخارجية التونسية على الصعيد الدولي غداة الاستقلال وطوال الستينيات والسبعينيات ضمن استراتيجية فاعلة قوامها الانفتاح والتعاون مع كل الشعوب والأمم والتعامل مع كبار الدول وزعمائها على أساس الوفاق  والاحترام المتبادل، وهو ما منح تونس مكانة مرموقة وسمعة جيدة في المحافل الدولية(1).

ولا يسعني، ونحن بصدد استحضار بعض الصفحات المضيئة في تاريخ الدبلوماسية التونسية، سوى ان أتذكر عندما كنت طالبا في جامعة السوربون بباريس في مطلع السبعينيات كيف كنا نحن التونسيون الوحيدون من بين كل مواطني الدول العربية من يحق لهم السفر والتنقل  في كل الدول الأوروبية من دون تأشيرة. كما لا يمكنني أن انسى ما قاله لي إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني والعربي المعروف، الذي التقيت به في جامعة جورج تاون في واشنطن في ربيع 1982. وكان في بداية صعود نجمه عقب صدور كتابه عن الاستشراق. قال لي بعد أن أخبرني بأنه سبق له أن زار تونس واعجب بها كثيرا، بالحرف الواحد:  "أن تونس بفضل خيارات الزعيم بورقيبة التنويرية هي آخر قلاع الحداثة العربية بعد انهيار المشروع الحداثي الناصري في المشرق العربي نتيجة لهزيمة 1967 ورحيل الزعيم  جمال عبد الناصر نفسه في سبتمبر 1970". وهي شهادة من مثقف عربي كبير لها معناها ووزنها أرويها للأول مرة للتونسيين.

ومن المؤسف حقا أن هذا الرصيد الهائل من الاحترام والتقدير لتونس في الخارج قد تراجع  كثيرا يعد الثورة. ولازلت أستحضر ذلك اللقاء الذي جمعني في جنبف على أثر العمليات الإرهابية في باردو وسوسة عام 2015 بصديق سويسري، وهو سفير سابق عاش في دول عربية عديدة. كان هذا الرجل متألما جدا تجاه ما يحدث في تونس. وقد كان يسألني بحرقة صادقة قائلا " ما الذي جرى لكم أنتم التونسيون. فهل أصبحتم مجانين؟ وحدثني كيف كانت الجالية التونسية في سويسرا أفضل جالية عربية بامتياز طوال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وكيف تدهور الوضع الحالي رأسا على عقب وتحولت تونس المستقرة والجادة الى أكبر بلد مصدر للإرهاب في العالم وفق ما تردده الصحف الغربية، حسب قول السفير السويسري، وأصبح مواطنوها في كثير من الأحيان محل ريبة وشك". تلك بعض من الذكريات  وهي كثيرة العالقة في ذهني حول صورة تونس الجميلة في عيون العالم شرقا وغربا شمالا وجنوبا أردت ان أرويها تباعا في سياق هذا  الحديث عن السياسة الخارجية التونسية بين الأمس واليوم.

2- الدبلوماسية التونسية على طريق الغروب في عهد الترويكا 

لقد كان وصول الترويكا الى الحكم في نوفمبر 2011 بداية مسلسل الانحراف عن ثوابت الدبلوماسية التونسية حيث أظهر المسؤولون الجدد جهلا صارخا بأبجديات العمل الدبلوماسي والشؤون الدولية مما تسبب في ارتكاب أخطاء جسيمة . ويجدر التذكير في هذا المقام بالمواقف المرتجلة لرئيس الدولة في عهد الترويكا ،السيد المنصف المرزوقي، الذي دأب على التدخل في شؤون الدول العربية الشقيقة بما في ذلك من أعلى منبر الأمم المتحدة في نيويورك، الأمر الذي أربك أسس سياستنا الخارجية المعروفة بتقاليدها  في احترام الأعراف الدبلوماسية ومبادئ حسن الجوار والقانون الولي. بل أنه أساء لبلاده تونس عندما فشل تماما في تمثيلها بشكل لائق في المحافل والقمم العالمية وإظهار عدم درايته  بقواعد البروتكول الدبلوماسي فضلا عن تخليه عن مبادئ التحفظ الذي يقتضيه منصبه  في التصريحات والأحاديث الصحفية.

 

صورة المشاركين في القمة الأفريقية بأديس أبابا في جانفي 2012 ويظهر فيها الرئيس  المنصف المرزوقي في الزاوية اليسرى في الصف الأخير الى جانب سيلفا كير رئيس دولة جنوب السودان التي تأسست في عام 2011

وبالفعل، فقد تراجعت صورة تونس في المحافل الدولية نتيجة للقرارات الخاطئة لعل أسوأها كان  ذلك المؤتمر البائس الذي انعقد في تونس بأذن من تركيا  تحت شعار "أصدقاء سوريا" والذي أدى الى قطع العلاقات الدبلوماسية المفاجئ مع سوريا الشقيقة  وما رافقه من انعكاسات درامية ومعاناة رهيبة لعشرات الألاف من التونسيين المقيمين في هذا البلد العربي الذي كانت تجمعنا بع علاقات طيبة.. ولازلت أتذكر ما أخبرني به  موظف أممي  تونسي مقيم في سوريا ألتقيت به في مؤتمر في كوبنهاجن  عام 2001 بان السوريين معجبين بالشعب التونسي أيما أعجاب وهم يكنون احتراما خاصا لتونس.

والأدهى من ذلك ان قطع العلاقات مع سوريا تسبب في  الزج بآلاف الشباب التونسي في محرقة الحرب السورية التي كانت مؤامرة دولية حسب تصريحات رولان دوما، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق في عهد ميتران. ويعتقد أن عدد القتلى من التونسيين في سوريا والعراق بلغ أكثر من ثلاثة آلاف تونسي بحسب بيانات معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى  بتاريخ 2018(2) أضافة الى  المفقودين والمساجين بالمئات الذين يقبعون في السجون السورية. أننا أمام أرقام مخيفة أذ تعادل مرتين عدد القتلى التونسيين في الحرب العالمية الثانية  وتفوق خمسة مرات عدد الشهداء التونسيين الذين سقطوا في حرب الجلاء من أجل تحرير بنزرت في جويلية 1961.

ومختصر القول، فقد تحولت تونس في عهد الترويكا وهي التي عرفت بكونها أرض الأمان والاستقرار الى واحدة من أكبر البلدان المصدرة للإرهاب في العالم بحسب العديد من مقالات الصحف الغربية ومن بينها صحيفة "الواشنطن بوست" الأمريكية ولومند الفرنسية.

3- الدبلوماسية التونسية لازال يكتنفها الغموض

لقد سعى المرحوم  الباجى قائد السيسي خلال عهدته الرئاسية وحتى مماته الى ترميم ما يمكن ترميمه  من الشروخ  والتشققات الحاصلة في بنيان الدبلوماسية التونسية. وقد نجح أحيانا وأخفق أحيانا أخرى في هذا المسعى أمام التركة الثقيلة الموروثة عن حكومة الترويكا. ومن بين اخطائه الكبرى أنه  تغاضى عن التحركات والزيارات التي  كانت شكلا من أشكال  الدبلوماسية الموازية التي مارسها الغنوشي في عهده. و الأكثر من ذلك، أنه  دافع عن الإسلاميين التونسيين في القمم الدولية وبيض وجههم على أمل أن يعودوا الى  رشدهم وان يتوبوا عن أخطائهم وأن يضعوا نصب اعينهم وطنهم تونس قبل كل شيء. ولكن شيئا من ذلك لم يحصل ومات الرجل غيضا وكمدا من جراء الخذلان السياسي الذي تعرض له.

وكان ألأمل قائما على أن تكون العهدة الجديدة للرئيس قيس سعيد الذي حظي بانتخاب شرائح واسعة من الشعب التونسي فرصة سانحة للاستعادة المبادرة وانتهاج السيل القويمة في السياسة الخارجية التي منحها له دستور البلاد. ألا أن البداية كانت ولازالت متعثرة ودون المأمول  والمطلوب. وبالفعل، وخلافا لكل التوقعات، فقد كان تغيب  رئيس الجمهورية المتواتر منذ توليه الحكم في شهر أكتوبر الماضي عن أربعة قمم دولية كبرى بداية  الارتباك للدبلوماسية الجديدة في عهده ومبعثا للتساؤلات لدى الرأي العام الوطني والدولي. وهذه القمم الدولية التي غاب عنها رئيس الدولة والتي كان يمكن له استغلالها وتوظيفها على الوجه الأكمل لتحقيق انطلاقة دبلوماسية فاعلة لتونس على المسرح الدولي، فضلا عن كونها فرصة سانحة للتعريف بنفسه كرئيس جديد للبلاد وربط العلاقات مع نظرائه من الرؤساء  الأفارقة  والأجانب هي التالية:

1- المنتدى الاقتصادي الروسي - الأفريقي المنعقد في سوتشي يومي 23 و 24 أكتوبر 2019 والذي حضره 46 رئيس دولة وحكومة أفريقية، علما أنه المنتدى  الأول من نوعه الهادف الى تحقيق انفتاح روسيا على التجارة والاستثمار في القارة السمراء.

 

صورة للمشاركين في قمة سوتشي في روسيا ويظهر فيها يوسف الشاهد في الزاوية اليمنى  من الصف الأخير وهو يحي بيده في حركة  غير لائقة بالمشهد

2- قمة "ألمانيا- أفريقيا  للاستثمار "  لمجموعة العشرين التي انعقدت في برلين في 19-20نوفمبر 2019 بحضور 14 رئيس دولة أفريقية، علما أن تونس سيق لها أن شاركت في الدورات السابقة لهذه القمة عامي 2017 و2018 ممثلة في شخص رئيسها المرحوم الباجي قائد السيسي. وقد أكتفى الرئيس قيس سعيد بإيفاد كاتب دولة لتمثيل تونس في هذا الموعد الهام الذي أعلنت ألمانيا خلاله عن تخصيص سبعين مليار يورو للاستثمار في أفريقيا

صورة المشاركين  ألأفارقة في قمة برلين الثانية في نوفمبر 2018 ويظهر فيها الباجي قائد السبسي الى جانب المستشارة الألمانية أنجلا مركل

3- منتدى السلام في باريس  في 8-9 نوفمبر 2019 حول التنمية المستدامة الذي شارك فيه عدد كبير من رؤساء الدول والحكومات الأفريقية والعالمية.
4- القمة الأفريقية  الثالثة والثلاثين في أديس أبابا في 9-10  فيفري 2020 والتي تغيب عنها الرئيس قيس سعيد  في آخر لحظة بسبب نزلة برد وفقا للتصريحات الرسمية. ونحن نذكر في هذا المقام كيف قاد الرئيس الأمريكي روزفلت الحرب العالمية الثانية وهو مصاب بالشلل وعلى كرسي متحرك . بل أن هذا الرئيس تحول في عمر 75سنة  من واشنطن الى  البحر الأسود للمشاركة مع ستالين وتشرشل في قمة يالطا الشهيرة في 8-11 فيفري 1945، الأمر الذي استغرق أكثر من ثلاثين ساعة  من الطيران على متن طائرة عسكرية قادته من واشنطن الى طنجة ومنها الى القاهرة ووصولا الي يالطا. وفي طريق عودته الى واشنطن، نجح روزفلت في عقد قمة مع الملك عبد العزيزآل سعود في البحر الأحمر في 14 فيفري 1945 وفي توقيع اتفاقيات سرية معه تمكنت شركات النفط الأمريكية بمقتضاها من  وضع يدها على مقدرات وثروات النفط في الشرق الأوسط كله  منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.  وقد توفي روزفلت في 12 أفريل 1945 أي بعد شهرين  فقط من انعقاد تلك القمة  التي مثل فيها بلاده أحسن تمثيل في تقسيم العالم  ورسم ملامح  مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية  .ولنا  جميعا في مثل هذه المواقف  من تاريخ الشعوب والأمم عبرة لمن يعتبر. 

 

صورة عن  مؤتمر يالطا الشهير حيث يظهر "الثلاثة الكبار" وهم ونستون تشرشل على اليسار، فرانكلين روزفلت في الوسط وجوزف ستالين على اليمين 

وخلاصة القول، فأن تلك الغيابات لرئيس الجمهورية المتكررة في أقل من خمسة أشهر  يضاف اليها ضعف فريق عمل رئاسي متكامل يسهر على وضع أسس ومتابعة أهداف رئيس الجمهورية على الصعيد الدولي ،فضلا عن افتقار وزير الخارجية الجديد لطول الخبرة والتجربة، كل ذلك يساهم في الوهن  الذي أعترى مفاصل وأركان النشاط الدبلوماسي التونسي حيث  أن العديد من سفاراتنا في عواصم هامة من العالم لازالت شاغرة الى اليوم هذا .وقد ظهر ذلك جليا في فشل المبادرات التونسية الأخيرة في الأمم المتحدة سواء فيما تعلق بالملف الفلسطيني أو ملف وباء كورونا الذي عرض على مجلس الأمن بمبادرة من رئيس الجمهورية  . 

4- الأزمة الليبية تدق ناقوس الخطر الداهم

ولقد جاءت مضاعفات الأزمة الليبية الأخيرة لتكشف عن غياب الوضوح  في السياسة الخارجية التونسية التي باتت تفقد أوراقها الواحدة بعد الأخرى . وفي حين  كانت تونس في عهد الباجى قائد السبسي صاحبة مبادرة وساطة في الملف الليبي ومشاركة في كل اللقاءات والقمم حول ليبيا،  فأنها فقدت  اليوم هذه المكانة كوسيط  ذو مصداقية  قادر على  تبني مواقف محايدة بين فرقاء الأزمة الليبية وبعد أن أصبحت تونس محسوبة على طرف ليبي دون غيره. وها هي المبادرات حول الملف الليبي تخرج نهائيا من أيدي تونس لتتلقفها أطراف دولية وعربية أخرى دون أن يكون لتونس أي دور أو موقع، والحال أن بلادنا هي من تحمل العبء الأكبر والأثقل في الأزمة الليبية منذ اندلاعها عام 2011 وذلك باستقبالها مئات الآلاف من الأشقاء الليبيين على أرضها  وبتقديمها  كل أشكال العون والتموين والعلاج  لهم.

والأدهى  أن الأمر وصل الى حد تجاهل تونس في مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية في 19 جانفي 2019 في حين حضرت الجزائر الشقيقة  التي لم يمضى على انتخاب رئيسها سوى بضعة أيام ، الأمر الذي عكر صفو العلاقات بين تونس وبرلين وتسبب في أزمة من سوء الفهم والاحتجاج غير اللائق وذلك للأول مرة منذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين تونس وبرلين في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.

وعلى صعيد آخر، فقد جاءت تحركات رئيس مجلس النواب، السيد راشد الغنوشي ضمن  ما يسميه بالدبلوماسية البرلمانية وأسفاره المتكررة ومقابلاته للسفراء الأجانب وتعامله مع رؤساء الحكومات والدول مثل ما حصل مع الرئيس التركي رجب أردوغان نفسه ليزيد الطين بلة ويضاعف في ضبابية المشهد برمته من حيث تجاوز واضح لصلاحيات رئيس الجمهورية  بالرغم من محاولات هذا الأخير النأي بنفسه عن هذه المواقف والتصريحات و رفع الالتباس عن ازدواجية المواقف والصلاحيات.

 

الرئيس التركي أردوغان  مستقبلا  لراشد الغنوشي، رئيس مجلس النواب ،خلال زيارته الأخيرة الى أنقرة وسط تجاهل العلم التونسي

وبمرور الوقت، تتكشف الأطماع التركية  في ليبيا شيئا فشيئا، بدءا من توسيع النفوذ العسكري وانتهاء بالأطماع الاقتصادية لأنقرة في ليبيا. وآخر هذه الإشارات، ما أوردته وكالة أنباء "الأناضول" التركية الرسمية، التي قالت إن أنقرة في طريقها للاستحواذ على جزء كبير من الاستثمارات المتوقعة في ليبيا خاصة في مجال إعادة الإعمار، بقيمة تصل إلى 120 مليار دولار فضلا عن النوايا المعلنة للسيطرة على الغاز الليبي من قبل الشركات التركية.

وقد أكدت التطورات العسكرية المتسارعة في ليبيا طموحا تركيا واضحا  للاستعادة  أمجاد الإمبراطورية العثمانية بالعمل على الاستيلاء على "مجال حيوي" جديد لتركيا - وفقا للمقولات والنظريات  التوسعية  للنظم الفاشية والصهيونية. وبالتالي فقد بات واضحا أن هذه الأطماع  في البحر المتوسط  والعالم العربي  لا تقتصر على ليبيا وحدها  بل تتعداها لتشمل العراق أين يعتبر الأتراك أن الموصل تابعة لهم  وسوريا التي أحرقها الأتراك وانتهكوا أراضيها وحدودها ودمروا اقتصادها . أما في تونس التي زارها أردوغان أكثر من مرة منذ 2011  فالرئيس التركي  ينظر اليها كإيالة عثمانية سابقة، وهذا ما يفسر سلوك الاستعلاء الذى أبداه تجاه  حكامها  سواء في عهد الباجي قائد السبسي أو خلال زيارته المفاجئة ألأخيرة في جانفي الماضي حيث لم يتردد بكل صلف أن يفصح، وهو في  عقر دار مضيفه،  عن انزعاجه من "الروائح الكريهة"  المزعومة في قصر قرطاج. سلوك مخالف للآداب  الترحاب ومنتهك لقواعد البروتكول والأعراف الدبلوماسية.

أن الزعيم بورقيبة، رائد الكفاح الوطني ضد الاستعمار ومؤسس النظام الجمهوري، لا بد أنه ينتفض في قبره اليوم أمام هذا المشهد من الضعف والهوان والارتباك  الذي وصلت اليه البلاد .وقد سبق له أن حذر في خطاباته وأقواله  أكثر من مرة  حول ما قد يتهدد تونس من مخاطر التفريط في مكاسبها واستقلالها  حينما قال يكفي أن نرتكب غلطة واحدة لكي ينهار كل ما بنيناه على مدى السنين والأعوام مضيفا بأن تونس لن ينالها مكروه أو فساد الا من صنع أبنائها.  وها هي الأيام تثبت صحة توقعاته وهواجسه. ومن هذا المنطلق، فقد كانت المعركة التي خاضها الحزب الدستوري الحر ورئيسته  عبير موسي في مجلس النواب باردو في 3 جوان الماضي ومساءلة الغنوشي عن مواقفه الخارجية  ومساعيه الزج بتونس في سياسة المحاور  في محلها تماما  وبالرغم من عدم تمرير هذه اللائحة ، فقد نجح هذا الحزب  في فضح التحركات والنوايا المشبوهة  لجر تونس الى مستنقع الحرب الطاحنة في ليبيا وهي التي تنذر بتطاير لهيبها الى المنطقة كلها، الأمر الذي يستوجب دعم هذا الحزب الوطني  ومؤازرته من قبل كل التونسيين.

أنه زمن الاحتلال والهيمنة الأجنبية  يعود في أبشع تجلياته ومظاهره في أكثر من أرض عربية وفي ليبيا الشقيقة  والمجاورة لنا! وهو درس قاسي يتعين على جميع  التونسيين استخلاصه والوقوف عنده والاستعداد لمجابهة كل تداعياته على مستقبل البلاد واستقلالها وحريتها. أنه زمن التحولات الكبرى  والانهيارات المتوقعة  في كامل المنظومة السياسية  والاقتصادية في عالم ما بعد كورونا والتي نبه لها  العديد من كبار المفكرين من أمثال المفكر الأمريكي  نعوم تشومسكي والفيلسوف الفرنسي أدغار موران. فهل نعي هذا الذي يحدث وهل نستيقظ؟

محى الدين الحضري
أستاذ جامعي متميز وخبير مستشار دولي

(1)أضواء حول سنوات  التميز الدبلوماسي والتألق  الخارجي  مجلة ليدرز بتاريخ 2و3 ماي 2020   " راجع مقالاتنا السابقة
(2) Aron Zeline, Tunisian foreign fighters in Irak and Syria ,Policy Notes 55, 2018 https://www.washingtoninstitute.org/uploads/Documents/pubs/PolicyNote55-Zelin.pdf

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.