أخبار - 2020.06.18

محمد إبراهيم الحصايري - التـدخّل التركـي في ليبيا: إنّ وراءَ الأَكَمَـــةِ مـــا وراءَها...

محمد إبراهيم الحصايري - التـدخّل التركـي في ليبيا: إنّ وراءَ الأَكَمَـــةِ مـــا وراءَها...

بقلم محمد إبراهيم الحصايري - لم يكن مفاجئا، في نظري، أنْ يعلن حلف شمال الأطلسي، حينما احتدمت معركة طرابلس بين قوّات حكومة فائز السراج وقوّات المشير خليفة حفتر، أنّه يدعم، أمنيّا ودفاعيّا (يعني عسكريا)، حكومة الوفاق الوطني، وأنّه يؤيّد تدخّل تركيا في ليبيا، لمناصرتها. غير أنَّ اللاّفت في هذا الموقف، هو أنّه جاء بمثابة ردّ على البيان الخماسي الذي أصدرته كلّ من فرنسا واليونان (وهما عضوان أساسيّان في حلف شمال الأطلسي) وقبرص ومصر والإمارات العربية المتحدة، للتنديد بهذا التدخّل. ويبدو واضحا من خلال هذا الموقف المنحاز، أنَّ الحلف رجّح كفّة تركيا على كفّة فرنسا واليونان... فما هو مغزى هذا الترجيح؟ وما هي خفايا وقوف الحلف إلى جانب تركيا، ظالمة لا مظلومة، رغم كلّ الارتجاجات التي عرفتها العلاقة بينهما خلال السنوات الأخيرة خاصّة فيما يتعلّق بالأزمة السورية وما اكتنف وقائعها من ملابسات غامضة، وما تخلّل المواقف منها من التباسات مُحَيِّرَة؟

إنّ الأمر المؤكّد، كما جاء على لسان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، أنَّ أعضاء الحلف قد يختلفون حول مواضيع عديدة، غير أنَّ تركيا، مهما كانت الاختلافات معها، تظلّ عضوا هامّا فيه.

وقد تراكمت خلال السنوات الأخيرة الاختلافات بين تركيا وبين الحلف من ناحية، وبينها وبين الولايات المتحدة خاصّة والدول الغربية عامة، من ناحية أخرى.

فتركيا العضو الهامّ في حلف شمال الأطلسي آثرت، بعد أنْ اصطدمت بروسيا في سوريا في مرحلة أولى، أنْ تعقد معها العديد من التفاهمات فيما يتعلّق بأطوار الحرب السورية، وهي لم تَكْتَفِ بذلك بل أقدمت على اشتراء منظومة «إس 400» الدفاعية الروسية رغم كل التحذيرات والتهديدات الأمريكية والأطلسية.

ثمّ إنّها ذهبت إلى أبعد ذلك حين أسّست لترابط مستقبلي وثيق مع موسكو من خلال إنشاء الأنبوب الذي سيزوّدها بالغاز الروسي، وسينقل عبرها إلى أوروبا قسما من احتياجاتها من هذه المادة الحيوية.

وتركيا المرشَّحَة للانضمام إلى الاتحــــاد الأوروبي ما فتئت تنتهج إزاء أوروبا سياسة يصفها شركاؤها الأوروبيون بــ»الابتزازية»، فهي بعد أنْ تسبّبت لها في أزمة كبيرة سنة 2015 بسماحها لموجة عارمة من اللاجئين السوريين بالهجرة إليها، لا تتورّع عن التلويح بالسماح لموجات جديدة باجتياحها إنْ هي لم تستجب لطلباتها، (مهما كانت مجحفة)، وإنْ لم تدعم تحرّكاتها، (مهما كانت غير مشروعة)، في سوريا، والآن في ليبيا.

وتركيا التي تدّعي البطولة في مكافحة الإرهاب، تريد من الحلف أن يرى ما ترى في تصنيفها للجماعات الإرهابية، حتى إنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتّهمها، خلال القمة السبعين لحلف شمال الأطلسي المنعقدة في لندن في ديسمبر 2019 بـأنّها «تعمل أحيانا مع مقاتلين مرتبطين بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وهي في المقابل «تحارب المقاتلين الأكراد الذين ساعدوا الحلفاء في القتال ضدّ هذا التنظيم»، بل إنّها هدّدت خلال نفس القمّة بعرقلة إجراءات الدفاع في منطقة البلطيق إذا لم يوافق الحلف على اعتبار المقاتلين الأكراد إرهابيين...

وقد جاء نقل الآلاف من المقاتلين السوريين وغير السوريين إلى ليبيا ليثبت هذا الاتهام، علما بأنّ أنقرة كانت من بين الدول التي شاركت في مؤتمر برلين في جانفي 2020، ووافقت على مقرّراته التي دعت إلى وقف التدخّلات الخارجية في ليبيا، وحظر إرسال السلاح إلى أطراف النزاع فيها...

وتركيا التي أبرمت مع فائز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني اتفاقية التعاون الأمني التي أتاحت لها التدخّل في ليبيا، قبضت، على ما يبدو،مسبقا ثمن مناصرتها له عندما قرنتها بإبرام اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين التي ستضمن لها الفوز بنصيب من ثروات البحر الأبيض المتوسط من الغاز والنفط، وستسمح لها بالتنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحل ليبيا، كما ستضفي الشرعية على عمليات الاستكشاف غير القانونية التي شرعت في القيام بها، منذ سنة 2019، في عرض سواحل قبرص، تحت حماية بوارجها الحربية... وفي تجاهل تامّ لاعتراضات الاتحاد الأوروبي ودول المنطقة على ممارساتها أحادية الجانب...

إنّ جُملة هذه المواقف والتحرّكات التركية وغيرها تجعل من تركيا، على الأقل في الظاهر، شريكا «مستفزّا ومزعجا» لحلف شمال الأطلسي وللولايات المتحدة الأمريكية ولأوروبا، وهي، على هذا الأساس كفيلة، نظريّا، بأن تحشرها في الزاوية، وأن تعزلها، غير أنّ ما حدث ويحدث حتى الآن هو العكس تماما فالولايات المتحدة سرعان ما تتراجع عن تهديداتها لأنقرة، وأوروبا سرعان ما تستجيب لطلباتها، وحلف شمال الأطلسي سرعان ما يصطفّ إلى جانبها...

والسّبب في ذلك، فيما يرى المحلّلون، هو أنّ تركيا تقدّم للولايات المتحدة ولأوروبا والحلف «خدمات» لا يمكن لغيرها أن يقدّمها لها... وقد جاء التدخّل التّركي في ليبيا ليكشف المزيد من خفايا هذه «الخدمات» ومن أسرار اللّعبة التركية الأمريكية الأوروبية الأطلسية في المنطقة العربية، مشرقا ومغربا.
ولقد كنّا خلال العشرية الأخيرة، نشعر، ونحن نتابع أطوار الأزمة السورية، بنوع من الحيرة والاستغراب من خليط الروابط المتضاربة والمتنافرة التي كانت، بالرّغم من تضاربها وتنافرها، تجمع بين الأطراف الإقليمية والدولية المتحرّكة على الساحة السورية، ومن التّوافقات والتّفاهمات غير المنطقية التي تتم بينها والتي تؤدّي عادة إلى نتائج غير مفهومة.

أمّا اليوم فيبدو أنّ الرؤية اتّضحت.

إنّ تدخّل تركيا، بكلّ قوّة، في ليبيا هو جزء مُكَمِّل لأجندة التمدّد «العثماني الجديد» في المنطقة العربية وبالتحديد في مغربها بعد مشرقها وخليجها، وهو يضمن لأنقرة تحقيق العديد من المآرب، إذ أنّه، أولا وبالذات، يوفّر لها حلاّ للتخلّص من جزء من «عملائها» المتجمّعين في إدلب، كما إنّه يسمح لها بترسيخ حضورها في الحوض الغربيّ للبحر الأبيض المتوسّط، وفي بلاد هي إحدى البوابات الهامّة إلى القارة الأفريقية التي باتت مطمعا لكافة القوى الصاعدة في العالم.

أمّا على الصّعيد الثّنائي، فإنّ هذا التدخّل يسمح لأنقرة بضمان التزوّد بالنفط الليبي الذي اعتادت أن تستورد كمّيات هامّة منه طيلة العشرين سنة الماضية، وقد يوفّر لها، بفضل اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، مصدراً جديداً للغاز الطبيعي، ثم إنّه سيمكنها من أنْ تحافظ على مصالح الشركات التركية التي كانت أبرمت مع طرابلس، في أواخر عهد العقيد معمر القذافي، عقودا تقدّر قيمتها الإجمالية بنحو 16 مليار دولار، وربّما أن توسّع دورها في السوق الليبية التي ستكون، عندما تحين ساعة إعادة الإعمار، زاخرة بفرص الاستثمار المُجْزِي.

وإذا كان حلف شمال الأطلسي يغضّ الطرف عن كل ذلك، وربّما لا يرى مانعا من دعمه فلأنّ تركيا بصدد تمكينه من تحقيق أهداف استراتيجيته في الشرق الأوسط، فهي توفّر له البيئة الملائمة لولوج المنطقة والعمل فيها، وتفتح له أبواب التدخّل في أزماتها وصراعاتها الداخلية والبَيْنِيّة على مصراعيها.
والمقصود بالبيئة الملائمة التي توفّرها تركيا للحلف بتدخّلها في ليبيا،هي البيئة التي تتحوّل فيها ليبيا إمّا إلى دولة تابعة لا تستطيع التحكّم في مصيرها (في حالة تمكّن حكومة الوفاق الوطني، بالاعتماد على الدّعم التركي، من تثبيت تفوّقها الحالي كليا ونهائيا على الجيش الوطني الليبي)، أو في حالة عودة الصراع إلى الاحتدام والتعقّد من جديد، إلى دولة فاشلة يرتع فيها الإرهاب، وتزدهر فيها الجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية، وقد تنقطع الإمدادات النفطية منها إلى أوروبا، ممّا سيدفع الحلف إلى التدخل فيها تحت ذريعة مساعدتها على إعادة بناء مؤسساتها.

ومن المهم في هذا السياق أنْ نذكّر بأنّ استراتيجية حلف شمال الأطلسي في المنطقة وفي العالم عرفت، مع انتهاء الحرب الباردة، تطورا مفصليا، إذ انتقلت خلال العشرية الأخيرة من القرن العشرين وبالتحديد بين سنتي 1991 و2001، من عقيدة تقوم على «الردع» إلى عقيدة تقوم على «الدفاع عن المصالح الجماعية» للدول الأعضاء خارج أراضيها خاصّة في منطقة حوض البحر المتوسط.

ودون الدّخول في التفاصيل، فإنّنا نشير إلى أنّ مجال التدخّل الأطلسي في الأزمات ظلّ منذ نشأة الحلف وحتى الحرب الباردة، مقتصرا على أراضي الدول الأعضاء، ومرتبطا بوقوع عدوان على إحداها، غير أنّ التحولات التي شهدها العالم منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي وما نجم عنها من تهديدات مستجدّة، دفعت بالحلف إلى اعتماد استراتيجية جديدة تقوم، أولا، على وجوب أن «يضع الحلف في اعتباره الإطار الكوني، إذ يمكن أن تتأثر مصالحه ومصالح الدول الأعضاء الأمنية بسبب مخاطر تتجاوز مجرد العدوان على أراضي أحد أعضائه، بما فيها الأعمال الإرهابية، والجريمة المنظمة، وإعاقة تدفّق الموارد الحيوية إلىالدول الأعضاء»، كما تقوم ثانيا على اعتبار أنّ «البيئة الأمنية لم تعد تقتصر على أراضيه، إذ أن الصراعات والاضطرابات التي تشهدها الدول الواقعة خارج حدوده قد تلقي بظلالها على أمن دوله ذاتها، ويقع ضمن هذا الإطار قضية أمن الطاقة، حيث أنّ الجزء الأكبر من الاستهلاك العالمي من إمدادات الطاقة يمر عبر أراضي مختلف بلدان العالم، وبالتالي فإن تلك الإمدادات قد تكون عرضة للمخاطر والهجمات والانقطاع» ثمّ إنّ «الأزمات والصراعات التي تدور خارج أراضي الحلف قد تهدّد مصالحه بشكل مباشر، وبالتالي يتعين عليه التدخل حيثما أمكنه وحيثما اقتضت الحاجة ذلك للحيلولة دون اندلاع الأزمات أو لإدارتها حال وقوعها، ثم،بعد انتهائها، لإعادة الاستقرار والمساعدة على إعادة إعمار المناطق التي تندلع فيها».

وفي إطار هذه الاستراتيجية الجديدة اندرج الحوار الذي أطلقه الحلف سنة 1994 مع سبع دول متوسطية، هي تونس والمغرب، وموريتانيا، ومصر، وإسرائيل، والأردن، والجزائر، وذلك للتعاون في محاربة تهديدات محتملة لأعضاء الحلف، مثل الهجرة غير الشرعية، وتهريب المخدرات، والأنشطة الإرهابية.

كما اندرج لاحقا تدخّله في كلّ من كوسوفو سنة 1999 وأفغانستان سنة 2003.

وإلى ذلك، فقد اهتمّ الحلف في فترة تالية بتطوير التعاون الأمني الثنائي بين دول الحلف وبلدان الشرق الأوسط الموسّع، فكان أن طرحت في جوان 2004 مبادرة اسطنبول للتعاون الاستراتيجي التي شكّلت بداية لهذا التعاون الذي يشمل ستة مجالات يمكن للدول الاختيار فيما بينها وهي: الإصلاح الدفاعي والتعاون العسكري، ومكافحة الإرهاب، والتصدي لانتشار أسلحة الدمار الشامل، وأمن الحدود، والتخطيط لحالات الطوارئ المدنية وإدارة الأزمات.

وقد انضمّت إلى هذه المبادرة أربع دول خليجية هي الكويت، والإمارات، وقطر، والبحرين، بينما بقيت كلّ من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان خارج إطارها.

والجدير بالملاحظة في هذا السياق أنّ الحلف حاول أن ينتهج سياسة مغايرة للسياسة التي اختارتها الولايات المتحدة الأمريكية، فيما سمّته «الحرب على الإرهاب»، والتي شنّت بموجبها حربيها على أفغانستان(2001) والعراق (2003)، فأطلق مبادرات للشراكة في إطار ما سمّاه «الأمن الناعم»، الذي يشمل التدريب والاستشارات، وإدارة الأزمات...

ومع ذلك فقد ظلّت صورة الحلف سلبيّة في المنطقة العربية، وظلّ من جانبه يتحيّن الفرصة الملائمة لتنفيذ استراتيجيته الجديدة فيها، وقد منحه هبوب رياح ثورات ما سمّي بــالربيع العربي هذه الفرصة، إذ أتاح له التدخّل في ليبيا سنة 2011، بالاستناد إلى مرجعية إقليميّة (قرار جامعة الدول العربية رقم 7298 بتاريخ 2 مارس 2011) ودوليّة (قرارا مجلس الأمن رقم 1970 ورقم 1973)، وبدعوى الإسهام في تجسيد السياسة بعيدة المدى التي كان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أعلن عنها «لدعم الإصلاح الديمقراطي والتنمية الاقتصادية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث ستشكّل المؤسّسات الدفاعية والأمنية الحديثة الخاضعة بشكل كامل للمساءلة من جانب سلطات منتخبة ديمقراطيا، أولوية حيوية أمام ليبيا والكثير من الدول الأخرى بالمنطقة».

وما يُخشى اليوم هو أن يرى الحلف فيما يجري الآن على الساحة الليبية فرصة جديدة لكي يحاول أن يحقّق في ليبيا وفي المنطقة المغاربية ما لم يستطع تحقيقه في التدخّل الأول...

ومثل هذا الاحتمال يبقى واردا لأنّ تدخّل تركيا في ليبيا، وإنْ استطاع أنْ يقلب ميزان القوى بين الطرفين الليبيين المتصارعين، من المتوقَّع أن يؤسّس، لا سيّما في حالة تحوّله إلى وجود تركي دائم على الأرض الليبية، لمرحلة جديدة ولشكل جديد من الصراع الليبي الليبي.

والمهمّ في ضوء ما تقدّم أنْ يدرك الذين يتوهّمون أنّ خطورة الوضع في ليبيا على أمننا الوطني والمغاربي والعربي متأتية فحسب من التدخّل التركي، أنّ وراء أكَمَةِ هذا التدخّل ما وراءها من تدخّلات صريحة أو خفيّة ممكنة أخرى قد تحوِّل ليبيا إلى حلبة حقيقية لتدافع مدمّر بين الأطراف الإقليمية والدولية التي تصادمت من قبل على الساحة السورية والتي يبدو أنّها تريد أن تصفّي حسابات بعضها البعض على الساحة الليبية وربما أبعد منها. 

ولكلّ ذلك فإنّنا ندعو إلى التحلّي بأكبر قدر ممكن من اليقظة والحذر...

محمد إبراهيم الحصايري
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.