أخبار - 2020.06.17

عبد العزيز قاسم: مُحاسَباتٌ قـاسـية

عبد العزيز قاسم: مُحاسَباتٌ قـاسـية

1

بقلم عبد العزيز قاسم - يوم الأربعاء 3 جوان وطوال عشرين ساعة أي إلى مشارف فجر الخميس، انعقدت بمجلس نواب الشعب جلسة هي الأولى من نوعها في تونس المستقلة، جلسة استماع أو مساءلة حتى لا نسمّي المسميات بأسمائها. فلقد كانت محاكمة أو محاسبة على الأقلّ. وكان المُحاسَب هو رئيس البرلمان الموقّر الشيخ راشد الغنوشي «زعيم الإخوان بالمنطقة».  لست أدري لماذا يتضايق الشيخ راشد من مواجهته بهذا الانتماء الذي تشهد به تصريحات وصور وفيديوات...

2

أما المآخذ الموجبة لهذا الاستجواب فهي عديدة أهمّها تجاوز صلاحيات وتستّر على اتصالات تورط المجلس وتخابر مع قوى أجنبية تتدخل عسكريا في الشأن الليبي لصالح شقّ دون آخر بما يتنافى مع مصلحة تونس العليا ومع حسن الجوار إزاء شعب شقيق من حقه أن ينتظر منّا التدخّل بالحسنى بين فرقائه المتحاربين. المدعي العام في هذه القضية امرأة عنيدة مشاكسة هي عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحرّ.

3

كلّ الأحزاب وكلّ الكتل تكنّ للسيدة عبير كراهية ما بعدها كراهية لأنّها من «الأزلام» لم تطلب العفو والغفران بل تتحدى ولا تبالي بمعارض أو معترض بل إنّ جانبا كبيرا من رفقائها القدامى يشاطرون «الثورجيين» و»المتبروطين» عداءهم لها لأنّها لم تغفر لهم «طلب المغفرة» على عتبات «مونبليزير». لقد بذل التائبون جهودا مضنية لإحياء التجمّع تحت مسمّيات مختلفة فلم يفلحوا بسبب تناقضاتهم ولحبّ الزعامة المتأصّل عند الجميع وتأتي هذه المرأة الثابتة فتستولي على الحزب أصلا وفرعا بكامل تاريخه المئوي. لقد حاولوا أن يجدوا لها اختلاس دينار واحد من أموال الدولة أو الحزب فباؤوا بالفشل. المخيف في هذه المرأة أنّها اجتثّت من دخيلة نفسها غريزة الخوف.

4

السيدة عبير موسي محامية بارعة تحسن حبك مداخلاتها وتقدّمها بفصاحة نادرة ويلام عليها صلابة مواقفها ورفضها لأيّة مرونة سياسية. دخلت البرلمان في ستّة عشر نائبا فشوّشت على الجميع علاقاتهم التوافقية وأعلنت الحرب على النهضة وتوابعها وفيهم من هو سليط اللسان غليظ الذهن يقابل حجاجها بالبذاءة والفحش والعنف فلا تتراجع. هي التي كانت وراء إفشال تمرير اتفاقيتين مع تركيا وقطر تمسّان بالسيادة الوطنية وهي التي حرمت الشيخ راشد من أن يتمتع يوما واحدا بحلاوة الرئاسة. ولأنٌها بالمرصاد لحركاته وسكناته لجأ إلى السرية.

5

لما فشل الحبيب الجملي مرشح النهضة لرئاسة الحكومة، هرع الشيخ إلى تركيا للتشاور مع السلطان أردوغان. ولولا متابعة عبير لنشاطه لمر المجلس على الحدث مرور الكرام. ولكنّ القطرة التي أفاضت الكأس هي تهنئته التليفونية لفائز السراج بتحرير قاعدة الوطية العسكرية على أيدي مرتزقة تركيا الدواعش. كانت التهنئة سريّة وما كان لأحد أن يعلم بها إلا أنّ رئيس حكومة طرابلس أبى إلاّ أن يشكر رئيس مجلس النواب التونسي على تأييده للتدخّل الأجنبي في القطر الشقيق فانكشف الأمر...

6

كانت جلسة المساءلة مهولة تعرّض فيها الشيخ إلى أقسى أنواع التوبيخ والتقريع لا من قِبَلِ عبير وحدها بل من نواب آخرين أيضا ليسوا من أنصارها: منجي الرحوي، مبروك كرشيد، فيصل التبيني، طارق الفتيتي وغيرهم... كانت نتيجة التصويت على لائحة إعلان رفض البرلمان التدخل الخارجي في ليبيا ومناهضته لتشكيل قاعدة لوجستية داخل التراب التونسي قصد تسهيل تنفيذ هذا التدخل 94 نعم 07 احتفاظ و68 لا. ولكنّها كسب غير منتظر لعبير ولولا امتناع كتلة التيار الديمقراطي عن التصويت لحصلت اللائحة على الـ 15 صوتا التي تنقصها. تلك كانت مشيئة السيد محمد عبو وللرجل حساباته نرجو له أن تكون صحيحة...

7

وبصرف النظر عمّا جرى داخل المجلس من تجاذبات ومساومات وتهديدات حصل ما حصل وأذعن الشيخ راشد وفي كلمة الختام كان متعبا ومتواضعا شكر جميع المتدخلين على «نصائحهم» وعلى انتقاداتهم باعتبارها «نصائح أيضا». وفي الآخر انتابني ما يشبه التعاطف مع رجل في الشوط الأخير من حياته السياسية جرّ على نفسه هذا الوابل من التأنيب المذّل. ولكنّ السيدة سمية الغنوشي تداركت استسلام الوالد للأمر فكتبت على صفحتها الفيسبوكية للرفع من معنوياته المنهارة : «دوّخ دكتاتوريتين حكمتا عليه بالإقامة الجبرية والمؤبّد والإعدام.. وها هو مازال ثابتا يناطح السحاب. رجاحة عقله وطول نفسه وهدوء أعصابه كانت ولا تزال سلاحه الذي هزم به خصومه، يرمقهم من عليائه شامخا اذ يتبارون في البذاءة والصراخ والتحريض وبثّ الكراهية.. سيمرّ الناعقون، مرور العابرين، ويبقى الغنوشي وميراثه الفكري والسياسي حيّا نابضا في وجه الطغاة والمهرّجين».

8

لقد مرّ الشيخ بيوم عصيب وكنت أودّ أن أقف بالمقال عند هذا الحدّ ولكنّ رجلا آخر يمر بأيام عصيبة هو دونالد ترامب. ستمائة مدينة أمريكية تستشيط غضبا بعد مقتل مواطن أمريكي من أصل أفريقي على يد شرطي أبيض متطرّف طرحه أرضا ونزل بركبته على رقبة ضحيّته. في حين كان ثلاثة من الأعوان يمسكون ببقية الجسم حتّى لا يتحرّك. دام الضغط 8 دقائق و47 ثانية والمسكين، جورج فلويد، اسم سيبقى في البال، يحشرج ويكرّر «لا أستطيع أن أتنفّس» حتى لفظ النفس الأخير. كان ذلك يوم 25 ماي الماضي فخرجت مظاهرات غاضبة لم تشهد لها أمريكا مثيلا وبدل أن يعالج السيد ترمب الأمر بالحكمة ظهر على الشاشة وهو يرفع كتاب الإنجيل أمام كنيسة «القديس دجون» القريبة من البيت الأبيض وهو يتوعّد «قطّاع الطرق والإرهابيين والمارقين» فازدادت المظاهرات عنفا. وهكذا المتدينون غير موفّقين أبدا. السيد ترمب يرغي ويزبد ويتّهم إيران وحزب الله وفنزويلا بالوقوف وراء الأحداث بإضافة الصين التي أرسلت وباء الكورونا إلى أكبر دمقراطية بيضاء في العالم وهكذا تتبنّى الإدارة الأمريكية نظرية المؤامرة والإنجيليون، دواعش المسيحية المتشدّدة، في حيرة من أمرهم، وما زالت العواقب غير معروفة...

9

يوم 30 ماي، في الولاية الحادية والخمسين، إسرائيل، في القدس الشرقية، تطلق الشرطة الرصاص بدم بارد على شاب فلسطيني للاشتباه في كونه يحمل سكّينا. هذا الشاب تصفه أمه بواحد من الملائكة فهو مصاب بالتوحّد ويمرّ يوميا أمام مركز الشرطة التي قتلته وهو في طريقه إلى مدرسة مختصّة بالمتوحّدين. الدمقراطية الإسرائيلية اختصّت من زمان في قتل ذوي الاحتياجات الخاصة من الشيخ ياسين إلى هذا الولد واسمه إيّاد الحلاق وبكاه أهله في وسط عربي يموج بين مدافع عن لقمة العيش وبين مطبع ساء طبعه...

10

منذ أن داهمتنا الكورونة وأنا أخصّها بما يجود به القلم فلا بدّ لي من أداء هذا الواجب نحو فيروس أقعد الدنيا ولم يقمها. في يوم 2 جوان، قبل إخضاع شيخنا للمساءلة بيوم، قام مواطن تقي صالح من الريف المصري باستقدام طبيب إلى بيته بغرض تطعيم بناته المراهقات الثلاث ضدّ الكوفيد 19. وكان ذلك ففقدن الوعي «وعندما أفقن فوجئن بأنّ أرجلهن مقيّدة، وشعرن بآلام في أعضائهن التناسلية، فأخبرن والدتهن المطلّقة التي أبلغت السلطات المختصة بالواقعة.» كانت عملية ختان بالغدر ولكنّه غدر مبارك محمود فالأب حريص على تطبيق «سنّة نبوية» يروّج لها وجدي غنيم تخفيضا من حساسية المرأة الجنسية وبالتالي حفاظا على الفروج. وفي 3 جوان أحال النائب العام المصري الجانيين إلى محاكمة جنائية عاجلة. القانون المصري الظالم الكافر يقضي بسجن الأب التقي بثلاث سنوات وبسجن الطبيب الحامل لزبيبة الصلاة بسبع سنوات. آه لو كان محمد مرسي العياط ما زال في الحكم لوزّع جوائز على بطلي العفّة الإسلامية. جزئية مستخرجة من التحقيق: بينما كان الطبيب يقوم بالجريمة كان الأب يقوم مقام الممرّض يعاين ويمسح الدم، ولا حياء في الدين...

عبد العزيز قاسم

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.