محمد لسير: الاتحاد الأوروبـي في زمن الكورونا ...والمراجعات الكبرى
بقلم محمد لسير - يعجّ تاريخ الإنسانيّة بالأزمات والمآسي التي خلّفت من ورائها ملايين الضحايا وخسائر ماديّة لا تُحصى: كوارث طبيعيّة وثورات دامية وحروب عالميّة وإقليميّة ومجاعات وأوبئة، وإن اختلفت في طبيعتها إلاّ أنّها غالبا ما تفضي إلى التّغيير ويشكّل بعضها منعرجا في تاريخ الإنسانيّة. ولاشكّ أنّ وباء كورونا-19 المنتشر حاليا في كافّة أرجاء المعمورة يندرج ضمن الأزمات الكبرى التي عرفتها البشريّة في عصرنا هذا وستكون له تأثيرات جغراسياسيّة واقتصاديّة واسعة ستسرّع من وتيرة التّغيير وتفرض نظاما عالميّا جديدا بدأنا نتبيّن ملامحه الأولى.
كيف تعاملت أوروبا مع هذا الوباء وما مدى تأثيره على وحدتها وخياراتها وموقعها في العالم؟
أوّل ما يتبادر إلى الذّهن هو عدم استعداد بلدان الاتحاد والغرب عموما لمواجهة آفة كورونا رغم التحذيرات العديدة التي أطلقها أخصّائيو الأمراض المعدية منذ سنوات بخصوص تواتر حدوث الأوبئة المختلفة، من «أنفلونزا الخنازير» إلى «إبولا» مرورابـ»كورونا -1- و»كورونا -2-»، من ذلك تنبيه اللّجنة الوطنيّة الأمريكيّة للاستعلامات في تقرير لها سنة 2008 إلى خطر انتشار مرض جديد شديد العدوى وقاتل يصيب الجهاز التنفّسي وليس له علاج وهو ما تناقلته أوساط طبيّة وشخصيّات سياسيّة غربا وشرقا. لكنّ المجموعة الدّولية لم تتّخذ الإجراءات الضروريّة لمجابهته وهو ما جعل بلدان العالم تواجه انتشاره في صفوف متفرّقة ودون تنسيق. ولعلّنا نجد في أوروبا خير مثال لهذا التقصير لأنّ بلدانها بلغت من التطوّر العلمي والطبّي والمؤسّساتي ومن الرقيّ الاجتماعي والرّفاه الإنساني ما يسمح لها منطقيّا باستشراف الأزمات والاستعداد لها، لذلك يعتقد الكثيرون أنّ أوروبا ما بعد كورونا لن ترجع إلى سالف عهدها وقد يكون للأزمة تأثير على وحدتها وعلى تفاعلها مع العولمة وسيؤدّي حتما إلى مراجعات حول مفهوم السّيادة الوطنيّة ومتطلّباتها لا فحسب سياسيّا وعسكريّا بل كذلك من النّاحية الاقتصاديّة حيث كشفت الأزمة عن مدى تبعيّة أوروبا للصّين على مستوى الأجهزة والمعدّات الطبيّة والأدوية وغيرها من المجالات الحيويّة.وتجدر الإشارة هنا إلى عامليْن أساسيين كان لهما الأثر الكبير في إرباك المجموعة الأوروبيّة التي انتشر فيها الوباء بسرعة وأصبحت تحتلّ المرتبة الأولى عالميّا في عدد المصابين والوفيات.
العامل الأوّل: يتمثّل في نقص الأجهزة والموادّ المذكورة آنفا حيث اضطرّت البلدان الأوروبيّة التي تمتلك أعْتى الشركات المنتجة للأدوية والمعدّات الطبيّة في العالم إلى استيراد جزء كبير من حاجياتها من الكمامات ومعدّات الوقاية الأخرى ومن المضادّات الحيويّة وغيرها من الصين التي انتقلت إليها كبرى الشركات الغربيّة. ويذكر في هذا الإطار أنّ «ووهان» الصّينيّة تستقطب بمفردها 300 شركة من ضمن الـ500 شركة الأكبر في العالم. هذه التبعيّة في مجال حيوي مثل الصحّة جعلت القيادات الغربيّة تدرك مدى خطورة الوضع بالنّسبة إلى الاتّحاد الأوروبي وأطلقت العنان لانتقادات الرّأي العام والأحزاب الشعبويّة.
والعامل الثاني يتعلّق بغياب التّضامن بين البلدان الأوروبيّة التي تعاملت بصفة فرديّة مع الجائحة واتّخذت إجراءات مختلفة غاب عنها التّنسيق بلغت حدّ تعليق اتفاقيّة «شنغان» حول حريّة التنقّل وإغلاق الحدود. كما أنّ تردّد الاتحاد الأوروبي وبعض من أعضائه إزاء طلب المساعدة الذي تقدّمت به إيطاليا لمواجهة أزمتها الصحيّة الحادّة أدّى إلى توتّر شديد داخل المجموعة وأحدث شرخا في صفوفها حيث انقسمت بين جنوب داعم لإيطاليا في سعيها لتحقيق مدّ تضامني أكبر بين الأعضاء وشمال تقوده ألمانيا حريص على الالتزام بقواعد الاتّحاد وبالصّرامة في التّسيير وهو ما أثار غضب رئيس الوزراء الإيطالي ومسؤولين أوروبيين آخرين متعاطفين معه وأدّى إلى مناكفات تقلّل من شأن الوحدة الأوروبيّة وتحذّر من إمكانيّة تفكّك الاتّحاد. وفي هذه الأثناء طلبت الحكومة الإيطاليّة دعما خارجيّا واستجابت لطلبها بلدان مثل روسيا والصّين وكوبا التي قدّمت مساعدات عينيّة وفرقا طبيّة وهي مبادرة لم يشهدالاتّحاد مثلها من قبل.
هذا التطوّر غير المتوقّع يأتي في ظرف عانى فيه الاتّحاد من تأثيرات خروج المملكة المتّحدة من عضويّته ومن تنطّع وعدم التزام بلدان حديثة العضويّة فيه مثــل بولونيا والمجر بقواعد المجموعة إضافة إلى تبعات أزمة «منطقة الأورو» والعلاقة المتقلّبة مع الحليف الأمريكي. هذه الأحداث ساهمت في دفع المؤسّسات الأوروبيّة إلى تدارك الأوضاع بعرض إجراءات ماليّة وجبائيّة تهدف إلى مساعدة البلدان الأعضاء على مجابهة الحالة الصحيّة وتدهور الأوضاع الاقتصاديّة للمؤسّسات والأفراد حيث تشير التوقّعات إلى هبوط حادّ في الناتج القومي الخام في سائر بلدان الاتحاد يصل إلى قرابة 14 % في إسبانيا و8 % في فرنسا على سبيل المثال ستكـــون له تبعـــــات سلبيّة على التّشغيل والقــــدرة الشــــرائيّة للمــــواطنين. من ضمن هذه الإجراءات العاجلة إنشاء احتياطي استراتيجي من الموادّ والأجهزة الطبيّة بميزانيّة تقدّر بـ50 مليار أورو وبرنامج لشراء ديون بلدان منطقة الأورو من قبل البنك المركزي الأوروبي تصل اعتماداته إلى 1050 مليار أورو إلى جانب ما يوفّره صندوق الإغاثة الذي تمّ إنشاؤه في 2012 خلال أزمة الدّيون تحت مسمّى «الآليّة الأوروبيّة للاستقرار» وتقدّر طاقة إقراضه بـ410 مليار أورو.
هذه المبالغ الكبرى التي تدلّ على تحرّك مؤسّسات الاتحاد بقوّة ولو بشيء من التأخير تأتي لتعزيز البرامج الوطنيّة الخاصّة بالأعضاء التي تصل إلى حدود 550 مليار أورو من القروض خصّصتها ألمانيا لحماية مؤسّساتها الاقتصاديّة في حين أقرّت فرنسا برنامج مساعدات لدعم مؤسّساتها الاقتصاديّة وأجرائها يناهز 45 مليار أورو. وكذلك الحال بالنّسبة إلى إيطاليا وإسبانيا اللتين اعتمدتا إجراءات استعجاليّة لدعم الاقتصاد ومساعدة العمّال والمواطنين المتضرّرين تقدّر بعشرات المليارات. لاشكّ أنّ الأزمة الصحيّة التي سبّبها فيروس الكورونا ستعرف انفراجا نسبيّا في أوروبا حسب السيناريوهات الأكثر احتمالا بحلول فصل الصّيف من هذه السّنة وسيخفّف الحجر الصحيّ في سائر البلدان الأوروبيّة وقد استأنف بعضها النّشاط منذ أواخر الشهر الماضي إلاّ أنّ خطر الانتكاس يبقى قائما ما لم تتوصّل المخابر الطبيّة إلى لقاح. أمّا على الصّعيد الاقتصادي وفي إطار الخيارات الاستراتيجيّة الكبرى فإنّ الآثار لن تزول مع نهاية الأزمة وستستمرّ تداعياتها لزمن غير محدّد. ما يمكن استنتاجه في هذا الإطار بالاعتماد على تفاعل الاتحاد وبلدانه مع الأزمة وتصاريح المسؤولين الأوروبيين ذات الصّلة يندرج بصفة إجماليّة في الملاحظات التالية:
بقطع النّظر عن قرار الاتحاد تكوين احتياطي استراتيجي من الأدوية والمعدّات الطبيّة لاستعماله عند الضرورة هناك توجّه نحو التّقليص من تبعيّة أوروبا لقوى أجنبيّة في مجال الصّناعات الحيويّة والاستراتيجيّة. تلك التبعيّة التي برزت بوضوح خلال استيراد الحاجيات الطبيّة من الصّين لمجابهة الوباء هزّت صورة أوروبا وعكست هشاشة موقعها على الصّعيد الاقليمي والدّولي. وينتظر أن يدخل الاتحاد الأوروبي في مشاورات حول ترحيل عدد من الأنشطة الصّناعيّة ذات الطابع الحيوي والاستراتيجي المنتصِبة بالصّين إلى أوروبا أو في جوارها (المغرب العربي، إفريقيا جنوب الصحراء)، وذلك على غرار اليابان الذي أعدّ خطّة متكاملة لتمويل عودة الشركات اليابانيّة من الصّين.
هذا التوجّه يندرج في إطار المراجعات التي ستقوم بها مؤسّسات الاتحاد وبلدانه التي أدركت إبّان الأزمة أنّ العولمة وشروط المنافسة وإغراءات السّوق الصينيّة أدّت إلى هجرة أعداد كبيرة من المؤسّسات الاقتصاديّة الأوروبيّة إلى الصّين ممّا أضعف النّسيج الصّناعي في بلدان الاتحاد وفاقم العجز في توفير بعض الموادّ والأجهزة الأساسيّة. ولعلّ ما يخيف الاتحاد الأوروبي هو أن تسعى الصّين التي نجحت في جلبكبرى الصّناعات الغربيّة واستفادت من تقنياتها العالية إلى توظيف موقعها الحالي كأبرز قطب صناعي عالمي للضّغط على الاتحاد وابتزازه بعد أن تبيّن أنّها تمتلك المقوّمات الضروريّة لتصبح القوى الأعظم في المستقبل القريب، لذلك سيحتلّ موضوع التصنيع الذي تقهقر خلال العشريات الأخيرة مع إفلاس العديد من الصّناعات أو شرائها من قبل رأس المال الأجنبي (صناعة السّفن، التعدين، الفولاذ، النسيج، الموادّ الطبيّة ...) موقعا جديدا في استراتيجيات أوروبا التنمـــويّة وسيقترن مستقبلا بموضوع الأمن القومي وبسيادة الدّول الأوروبيّة.
ومع إدراك هذه الدّول أنّ العولمة فاقمت من تبعيّة البلدان التي لم تحرص على ضمان أمنها في مفهومه الواسع وأنّ الدولة فقدت دورها الاستراتيجي بحكم ما تفرضه إيديولوجيا الليبراليّة الجديدة ينتظر أن تشهد أوروبا مراجعات تسمح بالتوفيق بين شروط العولمة ومتطلّبات السّيادة. ولاشكّ أنّ بلادنا ستتأثّر بما سيقرّره الاتحاد من سياسات وهو ما يستوجب الاستعداد لامتصاص الآثار السلبيّة التي ستنتج عن الأزمة الاقتصاديّة وتنامي التيّارات القوميّة واقتناص فرص التّعاون والاستثمار التي سيوفّرها ترحيل العديد من الصناعات الأوروبيّة المقيمة حاليّا في الصّين..
محمد لسير
رئيس «المنتدى الدّبلوماسي»
- اكتب تعليق
- تعليق