مختار اللواتي : صفاقس فريسة الدمامة والخواء

مختار اللواتي : صفاقس فريسة الدمامة والخواء

كنت أخذتكم رَفاقة لي، بما حكيت لكم، في خرجتي إلى المدينة منذ أسبوعين. وها إني أكرر الخرجة هذه المرة مستأنسا بحضوركم في خاطري منذ أغلقت باب شقتي عند الخروج وحتى فتحه عند العودة ! وإن كان للذاكرة في خرجتي هذه، حضورٌ أكثفُ من المشاهدة المباشرة التي اجتنبت فيها إعادةَ سرد نفس المشاهد المتكررة التي مرت أمامي وعشتها في الخرجة الماضية.

امتطيت خنفوستي، وقد سبق أن أغدقت عليها من الماء ما أزال ماعلق بها من غباروأعاد إليها بريق شبابها الأول، ووليت وجهي ووجهها مركز المدينة، مدينتي صفاقس التي مازالت تنتظر اليوم الذي يعاد إليها فيه بريقها ووهج الحياة الجميلة التي عرفتها في عهود غابرة.

في حديث كتابيٍّ خاطفٍ لي، داخل الشبكة العنكبوتية، مع الزميل الصديق جميل الدخلاوي منذ أيام، ونحن نسأل لنطمئن عن حال كل منا بعد بعاد دام سنوات طويلة، أخبرته أنّ المطاف قد انتهى بي أخيرا في صفاقس العليلة التي اكتسحتها الدمامة، وها إنّي أسكنها من جديد بكامل المازوشية. ! فتعجّب جميل، وهو الفنان رقيق الإحساس ومطرِّزُ المعاني قبل الكلمات في بطاقاته التلفزية السحرية التي بقيت تضيء خبايا من الذاكرة، وكتب مندهشا معلقا على كلامي،"صفاقس الحياة Sfax La vie" ! وأضاف بإيجاز يكتنز كمَّ الحسرة الذي سرى في أحاسيسه بفعل ماكتبت، "أعشق هاااااااااااااااااا J’adooooooooooooooooore" !! هكذا.. فتيقنت أنّه لو كنا نتخاطب صوتيا، لخرجت الكلمة صرخةً، دمعة، آهةً ! ولكنها لا تغيّر من الواقع شيئا.. ودون أن ألطِّف من صدمته، مضيتُ في سرد مرثية مدينتي مطمئنا لتقاسمنا اللوعة ذاتها، وكتبت له "لم تعد المدينة كما كانت ياجميل.. فقد وقعت فريسة الدمامة والخواء بعد سحرها وزخم حراكها الثقافي والفني، وحتّى السياسي في منحاه ومنزعه التقدمي الحضاري.. على كل، فلنبق متفائلين خيراً، أو متشائلين .."

وأنا أسرد عليكم حواري ذاك مع زميلي جميل الدخلاوي، عادت بي الذاكرة إلى يومٍ دعاني فيه زميلي وصديقي الدكتور رضا القلال منذ ثلاث سنوات بالتمام والكمال لتقديم كتابه الكنز الذي اشترك في وضعه مع الفنان والباحث الصديق، الدكتور خليل قويعة، بعنوان "البلاد العربي بصفاقس- إثنا عشر قرنا من التاريخ والحضارة".. ومما صدَّرتُ به تقديمي للكتاب يومها، قولي "مسرورٌ لحضوركن ولحضوركم.. وحزينٌ لِكَمِّ الغُبن الذي يقبض على أفئدة ومُهَج الشباب منكم!
لست أعني حالَ البلاد، بلدِنا، في معنى الوطن هنا، فذلك حقلُ ألغامٍ داخلُه مفقود والناجي منه مولود. وإنّما أقصد ما فعله في نفوسكم وسلوكاتكم حالُ البؤس الذي تلبّس مدينةَ صفاقس منذ نحو أربعة عقود.. فأنتم الشباب، لم تعرفوا للمدينة وجها آخر غيرَ وجهِها الشاحبِ المعتلّ، ولم تتنفسوا في رحابها هواءً ثانيا غيرَ اختناقِكُم بغازاتٍ، رماديةٍ حينا ومصفرةٍ أحيانا، نفثوها في سمائها لتصبح إحدى أبرزِ سمات رئاتكم الصحية..

أعرف أنكم لم تتوقفوا عن الاستغراب كلما ذُكِر لكم أنّ مدينتكم هي إحدى أجمل عرائس البحر، تتدلى جدائلها على شطئانه، وأنتم الذين ماعرفتم شواطئه وما لهوتم وأطفالُكم على رقصات أمواجه إلا خارج مدينتكم!

في مدينتكم، لم تألَف عيونُكم غيرَ القذارة والدمامة والفوضى في كل باحةٍ وزاويةٍ وشارعٍ  وطريق..كثيرون من سكان مدينتكم/ مدينتِنا، هم رهن العلاج الجسدي والنفسي.. وكثيرون هجروا المدينة..وأكثرُ من الكثيرين، سلَّموا بأنّ الجمالَ والنظافةَ ونقاوةَ الهواء والنظامَ وماتبعها كلها، من مقومات الحياة الآدمية الكريمة، هي أيضا لابدّ أن تكون فقط من موعودات جنة الخلد. أو هي لبشرٍ غيرِهم في أمكنةٍ أخرى، قريبةٍ أو بعيدة..

هذا عن المدينة ككل.. فما عساني أضيف إليكم عن المدينة العتيقة، أو البلاد العربي، كما نسميها كلُنا، وكما فضل صديقاي الدكتوران رضا القلال وخليل قويعة، عنونةّ كتابِهما الجديد قصداً بذات التسمية "البلاد العربي بصفاقس".. لكنهما لم يكتفيا بهذا العنوان مجردا هكذا، بل عززوه بعنوانٍرافدٍ يبعث على الدهشة وحُبِ المعرفة : "قصة 12 قرنا من التاريخ والحضارة".. وهو الكتاب الذي اجتمعنا هذه الأمسية للاحتفاء بصدوره، وبصاحبيْه! قد يكون كثيرون سمعوا وقرأوا عن ملامحَ أو محطاتٍ من تاريخ مدينة صفاقس والبلاد العربي بالذات.. ولكن القليلين من الشباب من غاصوا في مفاصل ذلك التاريخ منذ اثني عشر قرنا، حين تأسيس الأغالبة في القرن التاسع ميلادي هذه المدينة التي كان بدؤها ومنطلقُ مجدها وعنفوانِها.. البلاد العربي.. أصغرَ المدن وأعلاها كثافةسكانية وأمضاها أثرا.. وبهذا الأثر البحثي القيّم أشرع الأستاذان رضا القلال وخليل قويعةأبوابَ أمل مضيئة أمام أعين فريق رحلة البحث والسؤال في غياهب ذلك التاريخ، الأكيد أن شحناتها الإيجابية ستغمر قارئي الكتاب، وبالأخص الشبابَ منهم، فيدركوا أنّهم ابناءُ وبناتُ مدينةٍ هي مبعث عزّ وفخار.. وأنّهم أحفادُ قاماتِ علمٍ ومعرفة ونضال، مثل كامل جهة صفاقس، طبَق صيتُهم وصيتُها الآفاق، من مصر وبلاد الشام شرقا إلى بلاد المغرب غربا وبلدان إفريقيا جنوبا، وصولا إلى أشهر جامعات ومتاحف بلاد الغرب شمالا حيث مازالت مخطوطاتٌ قيمةٌ كثيرة لعلماء من صفاقس معروضةً فيها.."

إستعدتُ مذعورا وعيي بواقعي على مداهمة شاحنة قاطعة الطريق بالعرض لتمرّ من أحد الزقاق الجانبية إلى غيره على الضفة المقابلة للطريق الرئيسي. ففرملت منحرفا يسارا لأتجنّب بأعجوبة حادثا، تخيلته كارثيا، لاقدرالله، ولكن لم يبدُ، لا على صاحب الشاحنة ولا على من هم على جانبي الطريق أي علامةٍ من ذعر أو حتى اكتراث.. فكظمت غيضي واستأنفت مسيري.

كانت أكداس الزبالة تفيض بها حاوياتها في أركان الأحياء التي عبرتها فغطى عَطَنها على عطر الزهور المتسلل من حدائق الجيران. كما كانت حركة السير كثيفة على الطرقات وفي الشوارع، وقد عادت إليها طوابير السيارات وهي تنفث أبخرتها في أرجائها.

وصلت المدينة وتحديدا "باب بحر"، قلب المدينة المتعب وقد ضاق بمواقف السيارات القسرية أكثر من البشر. ركنت "خنفوستي" لصق الكرنيش المطل على قطعة ماء آسنٍ مليء أوساخا تزكم أنوف المارين والعاملين الساكنين في الجوار، بعد أن كان في زمنٍ، مضت عليه سنواتٌ طويلة، مرفأً بحريا صغيرا بديعا، يعجّ بالحياة كل صباح بالبحّارة القادمين بمراكبهم من قرقنة وهي مملوءة خيرا عميما، منه ما ينتهي بالسوق المركزي قبالة المرفأ، ومنه ما يأخذه أصحابه إلى سوق بيع السمك في باب الجبلي. ثم ينشرون شباكهم على الرصيف المحاذي تحت أشعة الشمس.

قصدت أحد المقاهي وقد فتحت أبوابها لمرتاديها المتيَّمين بقهوة المقهى التي يرون فيها قمة النكهة التي تردّ الروح برغم كل جهدٍ يُبذل لجعل قهوة البيت لذيذة.. صحيح إنّ سكب القهوة في كأس كرتوني يذهب بكثير من أبهتها، ولكنه لايذهب بسحر المقهى تماما، ولايثني المدمنين عن عشقها..فقصدت مقهى، هو كافتيريا بلا كراسي من الأصل، ولكن لقهوته لذة لاتوصف. علما وإنني لم أذق قهوة، حتى في البيت، منذ أكثر من شهرين.. دخلت المقهى، وتبادلت من بعيد التحية والترحاب مع نادلها النشيط وراء الـ"كونتوار". دفعت ثمن القهوة وأخذت مكاني في طابور قصير. غير إنّ الكونتوار كان على صغره يتراص أمامه أربعة أشخاص لم يكن أي منهم يحمي أسفل وجهه بِواقٍ. فبدوت أنا شاذا بكمامتي وراءهم . وأنا على تلك الحال من الدهشة والريبة، إذا بشخص يتخطى الطابور مناديا على أحد المتراصين أمامي، باسمه، فيلتفت المنادَى عليه هاشّاً باشّاً لصديقه. ويأخذهما عناق حار وبوسٌ يشي باشتياق مبرح. فلا تباعد ولا هم يحزنون..

فالشعب يريد..التلاصق والتلاحم ويكره التباعد، يا إخواننا.. إفهموه وأجركم على الله.. تردّدت في أخذ قهوتي "المعصورة". ولكنني غالبت ظنوني وهواجسي وزققتها مسرعا، تاركا المكان راجيا الستروأنا أتذكر كلمة جزار الخرجة الماضية، "لاباس لاباس ياحاج". فقصدت من هناك نيابة إحدى شركات الاتصال القريبة، لتجديد شحن واصل شبكة الإنترنت ببيتي، بعد أن نضب رصيدي به قبل أوانه بأسبوع، قد يكون لارتفاع معدل الاستعمال في فترة الحجر الإلزامي، مثلما أرادت إقناعي موظفة فرع الشركة. ثم تركت المدينة وعينايَ تبحلقان في قصر البلدية المنيف وبقايا أدوات حضيرة أشغال الأشهر الماضية لترميم وتجميل جدرانه وأرصفته الملاصقة، كأولوية للمجلس البلدي برئيسه الهمام، مثل شراء سيارة جديدة فخمة له، هي من مستلزمات الأبهة لمدينةٍ بحجم صفاقس. وما بقية الاحتياجات والمحتاجات إلا تفاصيل. فقطعت إلى هنا خرجتي وقفلت عائدا إلى البيت، راجيا السلامة لشعبي الأبيّ.

مختار اللواتي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.