رافع ابن عاشور: الأستاذ الشاذلي القليبي, عضوا عــاملا بمجمع اللغة العـربـيـة
يختلف اثنان حول المكانة المرموقة التي حظي بها المنعّم المبرور الأستاذ الشّاذلي القليبي، رحمه الله، لا في تونس فقط ولكن أيضا في كامل أرجاء العالم العربي والإسلامي، بل في كل مكان مرّبه. فقد تميّز بغزارة العطاء وبالتوفيق والفلاح في جميع المناصب التي تقلّدها وفي جميع المهمّات التي أنيطت بعهدته: سواء كأستاذ مبرّز للآداب واللغة العربية، أو كمدير عام للإذاعة التونسية، أو كوزير للشؤون الثقافية، أو كمدير للديوان الرئاسي، أو كأمين عام لجامعة الدول العربية أو كعضو عامل بمجمع اللغة العربية أو غير ذلك من المناصب التي تزخر بها سيرته الذاتيّة.
على أنّ ما يجلب الانتباه في حياة الرّاحل الكريم، أنّه زيادة على الرجل السياسي القدير، المتّزن والمتواضع الذي أرسى بحقّ سياسة ثقافية وطنية، وزيادة على الأمين العام للجامعة العربية الملتزم بالقضايا القومية والذي لم يحد عن المبادئ السامية في أصعب الظروف، كان أوّلا وبالذّات رجل ثقافة بأتم معنى الكلمة. فقد كان، وباعتباره خرّيج المدرسة الصّادقية من ناحيّة، وخرّيج الجامعة الفرنسية (الصربون) من ناحية ثانية، ثنائي اللغة والثقافة، مع تعلّق شديد باللغة والآداب العربية. فقد مسك بناصية اللغة العربية وآدابها دون تعصّب وانزواء. ولمّا تسمعه في خطبه ومحاضراته، يخيّل لك أنّ كلامه سيل هادئ يجري بتأنّ، كلماته تنساب طبيعيا دون تنميق ولا تكلّف، يزيدها رونقا وموسيقى فصاحته التلقائية غير المصطنعة.
وقد أهّله هذا التّعلق بلغة الضّاد لانتخابه، سنة 1970، عضوا عاملا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة بترشيح من أستاذه بالمدرسة الصّادقية الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، ليحتلّ الكرسي الذي كان يشغله المؤرخ حسن حسني عبد الوهّاب. فخلال آخر دورة حضرها الشيخ بالمجمع المذكور، لم يتردّد في اقتراح «ابنه» الأستاذ الشاذلي القليبي لما لمس فيه من النجابة ومن الانفتاح ومن الإشعاع. وقد قدّم الشيخ محمّد الفاضل ابن عاشور مرشّحة لعضوية المجمع بهذه الكلمات البليغة الجامعة التي تختزل مسيرة الرجل: «إنّ من أزكى من تتوفّر فيه خصال الكفاءة للانتساب إلى مجمع اللغة العربيّة، رجلا من ألمع رجالات الثقافة والأدب والفكر بتونس، رجلا قد توفّرت فيه إلى جانب ثقافته المركّزة البعيدة الغور، ميزة الذود عن العربية وآدابها والعزم الراسخ على إحياء أمجادها وتراثها الجليل، وهو إلى جانب ذلك الرجل الذي حقّق لتونس في عصرها الزاهر وثبتها الثقافية الرائدة، وأعني به مرشّحكم ابني الأستاذ الشاذلي القليبي».
وفعلا صادق المجمع على هذا الترشيح ودعي الأستاذ الشاذلي القليبي في فيفري 1971، للمشاركة في جلسات المجمع، وأقيم احتفال رسمي لاستقباله برئاسة الأستاذ زكي المهندس –نائب رئيس المجمع– في حين تولّى البحّاثة المغربي الأستاذ عبد الله كنّون تقديم العضو الجديد. وخلال كلمته، التي استغرقت 45 دقيقة، نوَّه الأستاذ الشاذلي القليبي بدور المجمع وعبّرعن شعوره «بالاعتزاز بالانتساب إلى هذا المجمع الجليل الذي سجّل له التاريخ من الخدمات في الذود عن العربية وإبراز طاقاتها ما جعله بحقّ أولى المؤسّسات الثقافية في العلم العربي». وبعد أن تحدث عمّن زكّى ترشحه – الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور – باعتباره كان «يمثّل الوفاء النيّر للقيم الروحية في أجلى مظاهرها، والذود عن مقوّمات تراثنا الثقافي والحضاري مع التفتّح الخصيب لتيارات الفكر الحديث». كما تحدّث عن سلفه حسن حسني عبد الوهاب وحاضر بإسهاب عن الدور الذي ينبغي للعربية أن تقوم به حضاريا.
ولعلّ من أبرز مناقب الفقيد العزيز الأستاذ الشاذلي القليبي، أنّه كان المبادر سنة 1968 بإحداث «جائزة الرئيس الحبيب بورقيبة» للإنتاج الأدبي واقتراح إسنادها للمرة الأولى لعلمين من أعلام الفكر التونسي: الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور والمؤرخ حسن حسني عبد الوهاب. وألقى الأستاذ الشاذلي القليبي باعتباره كاتب الدولة للشؤون الثقافية والأخبار خطابا بين يدي رئيس الجمهورية وبحضور المحتفى بهما وثلّة من رجالات الفكر والثقافة والأدب، قال فيها، مستوحيا من مقولة أحمد شوقي «إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت»، إنّه يمكن أن نعبّر أيضا على هذه الحكمة بالقول «إنّما الأمم الثقافة ما بقيت في ازدهار ونموّ».
هذا فيض من غيض أردناه تحيّة وفاء وإكبار لرجل من رجالات تونس الأبرار طبع مسيرتها الثقافية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ربطتنا به وشائج محبّة واحترام أصلها ثابت وفرعها في السماء.
تغمّده الله برحمته الواسعة وجازاه الجزاء الأوفى في مقعد صدق لدى عزيز مقتدر.
رافع ابن عاشور
- اكتب تعليق
- تعليق