رشيد خشانة: الحكومة ليست على قلب رجل واحد: انضباطٌ في القصبة وقصفٌ بالمدفعية الثقيلة في باردو
تجتاز سفينة الائتلاف الحاكم، هذه الأيّام، منطقة تقلّبات وزوابع، لم تعرف مثيلا لها منذ أن تشكّلت، من مكوّنات غير متجانسة، بحكم نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة. تأتي هذه التقلّبات وسط تحدّيات كبرى، تخصّ إدارة أزمة «كوفيد 19» غير المسبوقة، لكنّ تجلّياتها برزت بقوّة، من خلال المناكفات والاتهامات المتبادلة بين أطراف الائتلاف الحاكم، التي وصلت إلى حدّ التنابز بالألقاب، على قارعة المواقع الاجتماعية وفي وسائل الاعلام التقليدية على السواء.
ولو تمعنّا في المشهد الراهن المتشظّي، لألفينا ثلاثة خطوط بعضها متقاطع وبعضها الآخر متباعد. أحد الأضلاع الثلاثة لهذا المشهد هو الصراع المفتوح بين «حركة النهضة» و«حركة الشعب»، على خلفية معارضة الأخيرة للتحالفات الخارجية لـ»النهضة»، وخاصّة دفاعها عن علاقة وثيقة مع أنقرة والدوحة. وألقى الخلاف بظلاله على عمل مجلس النواب وعلى لجانه، وخاصّة لدى مناقشة مشروعي اتفاقين مع كلّ من تركيا وقطر. ويُعتبر هذا الخلاف جزءا من تباعد كبير في الرؤى، بين الحزبين، سواء بشأن الصراع في سوريا أم في ليبيا، زيادة على ملفّات أخرى إقليمية ودولية.
خارطة في القصبة وأخرى في باردو
مع ذلك كان يمكن محاصرة الخلاف واستيعابه داخل الأطر المؤسسية، لكنّه انزلق إلى تبادل للشتائم بين الأمين العام لـ«حركة الشعب» ورئيس كتلة «النهضة» في مجلس النواب. وكان الأنسب عرض مشروعي الاتفاقيتين على المجلس والقبول بنتائج التصويت، مع ضرورة التأكّد سلفا من أنّ بنود الاتفاقين تخدم مصالح تونس والطرف الأجنبي على السواء، فعندها لا تهمّنا طبيعة النظام السياسي في البلد المعني، لأنّنا لسنا أوصياء على الشعوب الأخرى. غير أنّ الانزلاق إلى السباب يُخفي في الواقع حنقا مكتوما لدى «الحليفين» ضدّ بعضهما البعض، وجد فرصته ليطفو على السطح. وإذا ما أضفنا هذا القصف المتبادل إلى التقارب القائم بين «حركة الشعب» و»حزب التيّار»، نلحظُ أنّنا إزاء خارطتين مختلفتين في القصبة وباردو: فعلى صعيد الحكومة يوجد حدّ أدنى من الانسجام والانضباط بين وزراء الأحزاب الثلاثة، التي تشكّل النواة «الصلبة» للحكومة، وهي «حركة الشعب» (16 مقعدا) و»حركة النهضة» (54 مقعدا) و»حزب التيّار» (22 مقعدا)، لكن تلك النواة أصبحت رخوة بفعل المعارك الداخلية.
أمّا في مجلس النواب فالخريطة مختلفة، إذ بتنا نشعر بأنّ «النهضة» أقرب إلى غريمها السابق حزب «قلب تونس» (38 مقعدا قبل الاستقالات الأخيرة)، منها إلى حليفيها المفترضين في القصبة. أكثر من ذلك هناك «اشتغال» على نوّاب «قلب تونس» من جهات مختلفة للفوز بما تيسّر من تركة الحزب، في ظلّ أزمته الراهنة. وفي الجهة الأخرى ليست العلاقة بين «النهضة» و«التيّار» سمنا على عسل، فهما ليسا على قلب رجل واحد، بل حاول رئيس «التيّار» تسجيل نقاط على حساب «النهضة» في موضوع الفساد، فتلقى إنذارا بـ«التزام الانضباط».
مسطرة للجميع؟
قد يعتبر البعض هذه المناكفات أمرا طبيعيا في حكومة ائتلافية، مُتحججين بتجارب بعض الحكومات، في إيطاليا مثلا، وآخرها حكومة ماتيو رينزي، التي جمعت اليسار مع اليمين. لكنّ هؤلاء كانت لديهم مساطر تسير على هديها الحكومات، والخارجُ عنها يستقيل من تلقاء نفسه.
بالعودة إلى قراءة محاور الخلاف بين «النهضة» و«حركة الشعب»، تبدو علامات الاصطفاف داخل المحاور الإقليمية بيِّنة لدى الجانبين، مع محاولة جرّ تونس إلى هذا أو ذاك من المحاور المتصارعة. في هذا السياق أثارت زيارة رئيس حركة «النهضة» إلى تركيا واجتماعه على انفراد مع رئيسها رجب طيب إردوغان لغطا كثيرا داخل المجلس وخارجه. وهناك من حرَم عليه القيام بمثل تلك الزيارات بعيدا عن عدسات الإعلام.
ولئن كانت مقابلة الرؤساء الأجانب جزءا من نشاط أيّ رئيس برلمان في الأنظمة الديمقراطية، فإنّ ما حفَ بزيارة رئيس «النهضة» من زوايا مُعتمة، هو ما أثار عاصفة الاحتجاجات والانتقادات. ويمكن رصد تلك الزوايا في النقاط الثلاث التالية، بحسب العرف الجاري العمل به في مثل هذه المواقف:
• أن تكون الدعوة موجّهة من نظيره رئيس البرلمان التركي، وأن تكون الجلسة الرئيسية خلال الزيارة مع رئيس البرلمان، بحضور وسائل الاعلام من البلدين.
• أن يكون اللقاء مع رئيس الدولة أو الحكومة لقاء بروتوكوليا، مع التغطية الإعلامية الضرورية، وأن يحضر رئيس البرلمان اللقاء، إلى جانب حضور الوفد الزائر.
• أمّا إذا كان رئيس مجلس نواب الشعب قد أدّى الزيارة إلى تركيا بوصفه رئيس حزب سياسي، فهذا يقع في خانة المكروه، أقلّهُ في وضعنا الراهن، لأنّ الفائدة الوحيدة منه هي سكــــب الزيت على نار المناكفـــــات، التي ما فتئت البلاد تصطلي بنارها، وتعميق الاستقطاب بحشر تونس في متاهة التجاذب بين المحاور الاقليمية. ولذا فإنّ من انتقدوا غياب رئيس البرلمان التركي والسفير التونسي مُحقّون في ملاحظتهم. وعليه فإذا كان رئيس مجلس النواب يُخطّط لزيارة قادمة إلى قطر، فمن المستحسن أن يأخذ في الاعتبار عاصفة التعاليق التي أعقبت زيارته لتركيا.
«نيران صديقة»
تكاد تلك العلاقة المزدوجة بين «النهضة» و»حركة الشعب» تنطبق أيضا على علاقتها مع الحليف الآخر: «التيّار»، الذي كثيرا ما يطلق «نيرانا صديقة» على «النهضة»، مُركّزا على موضوع الفساد، مثلما أسلفنا. وقد أجاب رئيس الحزب على سؤال لصحيفة «لابراس» حول طبيعة العلاقة بين الحزبين، بقوله «نحن على خلاف مطلق مع «النهضة» وقيادييها ورؤيتهم للدولة، وهو ليس خلافا عقائديا، فنحن لم نكن خصومهم في الماضي أبدا (...) وأقول للتونسيين إنّ النهضويين يخدعونكم بتقديم أنفسهم بوصفهم حزبا عقائديا، وهذا غير صحيح، فهم حزب براغماتي يمكن أن يتبنّى أية رؤية اقتصادية واجتماعية، لذا فخلافاتنا تنصبّ على أسلوب الحوكمة ومكافحة الفساد. وجميع المعارك التي خاضوها ضدّ خصومهم في السنوات الأخيرة غير مقبولة بالمرّة. حتى لمّا كنّا بصدد التفاوض كانوا أحيانا جيّدين وأحيانا أخرى يُطلقون علينا جحافل الجيش الافتراضي. بتعبير آخر كانوا يستخدمون نفس الأساليب المقيتة التي استعملها بن علي» (لابراس 25 نوفمبر 2019).
علاقةٌ هذه عناوينها ونسغُها لا يمكن أن تثمر بناء ديمقراطيا صلب العود، متين الأركان، بل ستُورِثُ الريبة والمُداهنة. ولعلّ هذا ما قصده من توقّعوا ألا تصمد الحكومة بعد معركة الجائحة. لكنّ الأرجح، في ظلّ النتائج الجيدة المُسجلة في تونس، قياسا على الجيران، بل حتّى على الدول المصنعة، أنّ خطة المجابهة المُعتمدة حتى اليوم ستوضع في ميزان حسنات الفريق الحكومي، من دون التغافل عن الدور الشخصي لوزير الصحة، بوصفه قد أحسن قيادة فرق الأطباء والعلماء والإطار شبه الطبي، الذين قدّموا تضحيات جمّة يستحقّون عليها تكريما لائقا. ومن العيب إنكار دور أيّ كان في تلك المجازفة الكبرى، أو التهوين منه، لمجرد الاستجابة لدوافع أيديولوجية.
مراهنة خاسرة سلفا
أما الحرب الكلامية الأخرى، التي حمي وطيسُها أيضا في الأيّام الأخيرة، فيعود اندلاعها إلى الشكوى التي رفعها «الحزب الدستوري الحرّ» إلى القضاء ضدّ رئيس مجلس النواب، وعنوانها العمل على إسقاط الحكومة، واستطرادا الإطاحة بالبرلمان، وهذه مراهنة خاسرة سلفا، فضلا عن كونها ضربا من المزايدة التي لا يحتاجها بلدٌ ينشد الاستقرار.
غير أنّ «النهضة» تستثمر الشعور بالمسؤولية لدى الآخرين لطلب المزيد من المكاسب السياسية، بالعمل دوما على توسيع حصّتها من الفيء، وهو المغزى من مطالبتها مؤخّرا بزيادة عدد وزرائها ومستشاريها، فضلا عن الطواقم المُساعدة لرئاسة مجلس النواب. أكثر من ذلك، هي تُعيدنا إلى مناخات «الوحدة القومية»، بطرحها شعار «الوحدة الوطنية»، التي تراها «شرطا للنجاح في مواجهة التحديات الاقتصادية في المرحلة القادمة».
هكذا بعد أن كان شعار «الوحدة القومية» غطاء لاستبداد الحزب الواحد في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ستغدو «الوحدة الوطنية» مطيّة لهيمنة الحزب الأوّل في نظام تعدّدي. واللافت للانتباه هاهنا أنّ «النهضة»، أخرجت من الدرج سرديّة المظلوميّة، مجدّدا، لجعل الرأي العام يبتلع لُقية «الوحدة الوطنية»، بادّعاء أنّ «البرلمان مُستهدفٌ من قبل حملات وخطاب يدعو التونسيين إلى إسقاطه». وجدير بالتوضيح هنا أنّ مفهومي «الوحدة القومية» و«الوحدة الوطنية» يتعارضان تماما مع أساس الديمقراطية، القائمة على الاختلاف، وعلى وجود أحزاب تحكم وأخرى تعارضها.
جيش فيسبوكي
مثلما عُرفت الحملة على «كوفيد 19» بالدور الذي لعبه فيها الجيش الأبيض، عُرفت حملات «النهضة» على خصومها، بالجيش الفيسبوكي الذي يُعهد له بتلك الحملات، فيُشوّه من يُشوّه ويغسل بالماء والجفال من عظمت ذنوبه ثم استأهل عفو الحركة. على سبيل التذكير تمّ إحصاء أكثر من 7 ملايين حساب على الفيسبوك في تونس عام 2018، من بينهم 41 في المئة تُراوح سنهم بين 13 و24 عاما، فيما تُراوح سنُ 33 في المئة منهم بين 25 و34 عاما. وتُجنّد «النهضة» قسما غير معروف من هذا الجيش الافتراضي، لكنّه جيش حقيقيٌ، ومعظم جنوده متفرغون لهذا «الشغل»، بحسب ما يظهر من تدويناتهم المتطابقة تقريبا، ومن حملاتهم الجماعية.
على أنّ العائق الأساسي أمام تقبّل تلك الخطابات الفيسبوكية المتلوّنة، يتمثّل في أنّ معظم القياديين الذين يتصدّون للدفاع عن مواقف الحركة، مُنفرون لسامعيهم ومشاهديهم. ومن أمثلة ذلك طريقة الدفاع غير الصائبة عن الاتفاقين مع تركيا وقطر، ومشروع الاتفاق بين «الخطوط التونسية» و«القطرية»، مع أنّ الأخير كان بساط إنقاذ للناقلة الوطنية المفلسة، من دون السماح للطرف الثاني بالاستحواذ على غالبية الأسهم، وهي صيغة لجأت لها كبريات الناقلات العالمية، لتجاوز أزماتها بأقلّ الخسائر. بهذا المعنى، قد يتسبّب دفاع «النهضة» غير الموفّق عن الحكومة في إرباكها وزيادة صعوباتها، إذ لو نجحت (الحكومة) سيكون ذلك، في الدرجة الأولى، نجاحا لرئيسها، بوصفه قائد الفريق. وإذا حصل العكس ستُلقى المسؤولية على «النهضة» لأنّها الحزب الأوّل في الحكومة (وزراء ومستشارون) وأيضا لكثرة دفاعها المهزوز عن الحكومة، الذي تفوح منه رائحة التشبّث بالمغانم الفئوية والشخصية.
مؤتمر مؤجّل
هذا الارتياب الذي يُرافق خطاب «النهضة» يُحيل إلى المؤتمر المقبل للحركة، الذي يُفترض أن يكون موعدا لمراجعة الخطاب وتوضيح الأهداف وبلورة الشعارات. وكان مقرّرا أن يلتئم المؤتمر هذا الشهر. لكنّ هجمة «كوفيد 19» وهبت هدية من السماء للمطالبين بتأجيله، وتأخير ساعة التداول. غير أنّ التأجيل لن يكون بلا سقف... وسيُطرح موضوع التداول على معنى القرار المُتّخذ في المؤتمر الأخير، بتحديد عدد الفترات الرئاسية، وهو في جميع الأحوال مثارٌ للجدل حاليا، داخل هياكل الحركة وفي كواليسها....
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق