دكتور بلقاسم صابري: الحجر الصحي بين ضروريات الصحة العمومية ودواعي دعم الاقتصاد
بقلم دكتور بلقاسم صابري: طبيب صحة عمومية وخبير اقتصاديات الصحة وعضو خلية اليقظة الصحية بالأكاديمية الوطنية بيت الحكمة ومدير سابق لتطوير النظم الصحية بمنظمة الصحة العالمية - تشكل جائحة وباء كوفيد19 ازمة عالمية منقطعة النظير في التاريخ المعاصر دفعت العديد من المفكرين والعلماء لدراسة ابعادها المختلفة وتصور السيناريوهات لمستقبل العولمة الاقتصادية وانحرافات النمو الاقتصادي المبني على الإنتاجية المفرطة وتموقع دور الدولة في الميدان السيادي والاجتماعي والدور الهام للأمن الصحي والصحة العمومية والقضايا الأخلاقية التي برزت اثناء عملية تقنين الحصول على خدمات الإنعاش والعناية المركزة وغيرها.
وباعتبارها ازمة صحية في الأساس فقد تم التركيز على المسائل الوبائية وطرق الحد من انتشار الفيروس والأدوات المتوفرة للعلاج لكن سرعان ما تم التفطن لأهمية المحددات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للجائحة في مختلف مراحلها. ولقد كان للحجر الصحي الاجباري ووسائل التباعد الجسدي تأثير مباشر على الابعاد الاقتصادية والاجتماعية خاصة ما يتعلق بالعمل وتعليق الأنشطة الاقتصادية.
ان النقاشات وتصور مختلف البدائل تتأثر كما هو معلوم بالتوجهات السياسية والمجتمعية لكل بلد وتحاول قدر الإمكان ان توفق بين المعادلتين الصحية والاقتصادية وان تستشرف حصول ازمة اقتصادية شاملة تكون لها ابعاد وخيمة على مختلف المستويات.
ان الرجوع التدريجي للنشاط الاقتصادي والاجتماعي الذي تم اقراره من طرف الحكومة قد تم بناء لتقدير مختلف الابعاد الصحية والاقتصادية والاجتماعية وبعد استخلاص دروس من مختلف البلدان إضافة لما تقدمه المنظمات الدولية من توصيات ودلائل ارشادية وعلى راسها منظمة الصحة العالمية.
الاقتصاد أولا
منذ ظهور الوباء في الصين أواخر سنة 2019 اخذت الاقتصاديات القوية في اليابان والولايات المتحدة الامريكية وأوروبا في الاستعداد لمختلف البدائل بما في ذلك توقف عجلة الإنتاج كما حصل في مقاطعة يوهان بجمهورية الصين الشعبية. وكان الموقف الأمريكي ملفتا للنظر حيث وبالرغم من تطبيق الحجر الصحي الكامل لمحاصرة الفيروس في 19 بلد، الا ان الرئيس الأمريكي قد قلل من خطورة الجائحة وأشار الى عودة الحياة لسالف نسقها في أيام قليلة، وقع تمديدها بعد الموافقة على التباعد الاجتماعي. ولقد كان التركيز أساسا على السعي على المحافظة على مواطن الشغل في سنة الانتخابات ونيته التجديد لولاية ثانية.
اما الرئيس البرازيلي جايير بولسنارو الذي ينتمي لليمين الشعبوي فقد أشار في لهجة تهكمية انه لا يمكن ان نترك نزلة برد تعصف باقتصاد بلاده. ومع ارتفاع حالات الإصابة وزيادة الوفيات ودعوة المسؤولين في قطاع الصحة العمومية لتوسيع الحجر الصحي فلقد واصل في تعنته واعفى وزير الصحة من مهامه بسبب الاختلاف حول موعد إيقاف الحجر الصحي.
كما تشير المعلومات التي أوردتها بعض الصحف المحلية في منطقة لومباردية بشمال إيطاليا والتي كانت اول بؤرة لانتشار الوباء في أوروبا ان ضغوطا قامت بها بعض الجهات الاقتصادية المتنفذة لتأخير موعد الحجر الكامل الى ما بعد إتمام صفقة تجارية هامة للإقليم دون التركيز على مخاطر هذا القرار على الوضع الصحي.
كما تبنى الوزير الاول البريطاني موقفا مشابها يرتكز على نظرية تحصين القطيع بعد إصابة نسبة كبيرة من السكان وهلاك عدد من المواطنين خاصة من كبار السن والمعوقين وذلك تفاديا لتعطيل الالة الاقتصادية وفقدان العديد من الوظائف وخسارة أسواق اقتصادية هامة. ووصل الامر بأحد المسؤولين في احدى الولايات الامريكية القول ان كبار السن في ولايته يحبذون الوفاة تفاديا للركود الاقتصادي اذا ما تم تخييرهم!!!.
لقد تم اعتماد معادلة جنائزية للتكلفة والفائدة تقارن عدد الوفيات بسبب جائحة كوفيد 19 والخسائر الاقتصادية المتأتية عن إيقاف الدورة الاقتصادية وتراجع الناتج الإجمالي الخام مع الإشارة للأثار السلبية على مختلف الاقتصاديات بسبب الركود والازمة الاقتصادية الذي يعتقد عديد الخبراء ان تكون كارثية. و نظرا الى ان الصحة والحياة البشرية لا تقدر بثمن فان هذه المقاربة تضعنا امام موفق أخلاقي صعب حيال هذه المعادلة المعتمدة من طرف بعض السياسيين ورجال الاقتصاد.
ان الازمة الصحية لجائحة كوفيد قد أصبحت مع تواصل الحجر الصحي واغلاق الالة الاقتصادية ازمة اقتصادية حادة. و لقد توقع رجل الاقتصاد والخبير الدولي الأستاذ حكيم بن حمودة ان تؤدي في تونس الى ركود يصل الى أربعة بالمائة من الناتج الإجمالي لسنة 2020مع زيادة عدد العاطلين عن العمل ب 160000 لتصل النسبة الى حدود 18 %.
ومع هذه التوقعات السلبية للأضرار على مستوى الاقتصاد التونسي فان موقف الفاعلين الاقتصاديين ورغم الظروف الصعبة التي يمر بها الاقتصاد التونسي والمالية العمومية قد اتسم بالتعقل وبمساندة الموقف الحكومي الذي يعطي أولوية للحفاظ على الصحة العمومية والأرواح البشرية رغم وجود أصوات من بعض الجهات بما في ذلك داخل القطاع الصحي الخاص تدعوللعودة سريعا لعمل الاقتصاد.
حماية الصحة للحفاظ على التنمية
ان هذه المقاربة تنطلق من العلاقة الهامة بين الصحة والتنمية والتي تأكدت في عديد الدراسات المتعلقة بتكوين راس المال البشري واهتمام منظومة الأمم المتحدة بإدخال الصحة لقياس مستوى التنمية البشرية. ويمثل تقرير منظمة الصحة العالمية لسنة 2001 بعنوان الاقتصاد الكلي والصحة لمجموعة العمل بقيادة أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد الامريكية جيفري ساكس علامة فارقة في هذا الميدان. حيث اشارت الدراسات المقدمة لإعداد التقرير أهمية العائد الاقتصادي الكبير للاستثمار في الصحة وأهمية مشاركته في مقاومة الفقر.
واضافة للعائد الاقتصادي الكبير لمختلف البرامج الصحية الوقائية والتعزيزية مثل اللقاحات والوقاية من الامراض السارية والمزمنة والتشخيص المبكر للسرطانات والانماط الصحية للحياة، فقد أشار التقرير الى ان زيادة سنة واحدة في مأمول الحياة عند الولادة مرتبط بأربعة نقاط في الناتج الإجمالي الخام. وبحساب تطور مأمول الحياة عند الولادة منذ استقلال تونس من 1956الى2017 فان تحسن الوضع الصحي يساهم في الثروة الوطنية بمعدل نقطتين سنويا. كما تجدر الإشارة الى ان قطاع الصحة من اكبر المشغلين و ينتج سلعا و خدمات ويساعد على تحسين المدخرات من العملة الصعبة من خلال مداخيل تصدير الخدمات الصحية و الدواء و السياحة العلاجية.
كما نشير الى ان تقرير البنك الدولي لسنة 1993 بعنوان الاستثمار في الصحة من اجل التنمية قد احتوى عديد الدراسات حول تقييم البرامج الصحية الوقائية في عديد البلدان الافريقية والاسيوية مثل برنامج مقاومة العمى النهري ومقاومة الملاريا وغيرها والتي مكنت من تخليص أراض كبيرة لم يكن من الممكن استغلالها سابقا بسبب توطن الأوبئة والتي تم توظيفها في الميادين الفلاحية والصناعية ولأجل السكن.
ان عولمة الاقتصاد، وخلافا لما تم الترويج لذلك، لم تكن لها دائما نتائج إيجابية على القطاع الصحي و الصحة العمومية. حيث ان اتفاقيات التجارة الدولية المتعلقة بالملكية الفكرية قد حرمت المرضى في عديد البلدان الفقيرة من الحصول على حقوقها الطبيعية في اللقاحات والادوية كما ان الاتفاقيات المتعلقة بتحرير الخدمات الصحية وانسياب الموارد البشرية العاملة في القطاع الصحي قد تسبب في زيادة الفجوة بين دول الشمال ودول الجنوب في توفر الموارد البشرية في القطاع الصحي والى نزيف للكوادر الصحية مثل ما تعاني منه تونس حاليا ومما يشكل تحديا لكل النظم الصحية في الإقليم.
كما ان السياسات النيوليبريالية التي تم تسويقها من خلال العولمة الاقتصادية وسياسات الإصلاح الهيكلي قد اثرت و لاتزال بصفة سلبية على التنمية الصحية من خلال تراجع الانفاق العمومي على الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة والنقل العمومي وتشجيع الخوصصة في مجال تقديم الخدمات الصحية وتراجع الوظائف الاجتماعية والتعديلية للدولة بما في ذلك القطاع الصحي وتسليع الخدمات الصحية و التي أصبحت تقدم بسرعتين مختلفتين حسب الإمكانيات المالية للمرضى مما يشكل انتهاكا للحق في الصحة الذي تضمنه عديد الدساتير بما في ذلك الدستور التونسي.
بعض الدروس المستخلصة
لقد وفرت الازمة الصحية الحالية فرصة لاستخلاص بعض الدروس المستفادة وطنيا وعالميا لتحسين الوضع الصحي والاهتمام بالتنمية الشاملة المستدامة والتي تعيد للعنصر الإنساني مكانته التي يستحق.
ضرورة رد الاعتبار للدور المحوري للدولة في تامين الامن الصحي الوطني وفي الاضطلاع بالوظائف الاجتماعية مع إعادة الزخم للعلاقات الاجتماعية وتطويرها
ان حماية الصحة والحياة يجب ان تكون في محور السياسات العمومية وعلى الاقتصاد ان يتكيف مع متطلبات الانسان في الصحة والحياة والتنمية وليس العكس
من الضروري حماية الخدمات العمومية المتعلقة بالإنسان مثل التعليم والصحة من كل مشاريع التقشف والتأكيد على أهمية الاستثمار في الصحة لخدمة التنمية الشاملة
لقد تأكد للجميع بما في ذلك البلدان الرأسمالية ان القطاع العمومي للصحة هو السند الرئيسي للأمن الصحي في كل مراحل الجائحة ومن الضروري تحصين قطاع الصحة العمومية في تونس من خلال استخلاص ديونه وتوفير الاعتمادات اللازمة والإدارة الجيدة والشفافة.
أهمية تطوير الدور التعديلي والرقابي للدولة مع تطوير الديمقراطية الصحية لتوفير مشاركة فاعلة في مختلف البرامج بما في ذلك المتعلقة بالأمن الصحي ومقاومة الوباء واحترام إجراءات الحجر الصحي و التباعد الجسمي
تطوير العلاقات المجتمعية والمد التضامني بين مختلف شرائح المجتمع وتفعيل دور المجتمع المدني في إدارة الكوارث والجوائح الصحية.
السعي نحو دعم التضامن بين البلدان من خلال منظومة الأمم المتحدة للمساعدة على توفير الادوية واللقاحات الفعالة وضمان توزيعها بشكل عادل بين البلدان. كما يتعين تخفيف أعباء المديونية على البلدان الفقيرة وذات الدخل المتوسط والتي تأثرت اقتصاداتها سلبا بسبب الجائحة.
افاق تخفيف الحجر الصحي والعودة لحركة الاقتصاد
ان الإجراءات التي اعلنت عنها الحكومة للعودة التدريجية للحياة الاقتصادية من خلال تدابير موجهة قد اخذت بعين الاعتبار تقييم الوضعية الوبائية و تقدير المخاطر وكذلك البناء على المنجزات التي تحققت بسبب الإجراءات الاستباقية المتمثلة في اقفال الحدود و الإجراءات الوقائية المبكرة .
ولقد اشارت منظمة الصحة العالمية ومعهد "انمباريل كولج" في لندن في نشرة حديثة لأهمية اتباع مبادئ أساسية لإدارة علمية العودة التدريجية لعودة الاقتصاد ومنها على وجه الخصوص
تقييم متواصل للوضع الوبائي
بما في ذلك متابعة حالات العدوى الجديدة ومؤشر العدوى. ان ارتفاع المدة الزمنية لتضاعف الحالات من أسبوعين الى شهر واكثر يؤشر على منحى تنازلي في العدوى مما يساعد على قرار العودة التدريجية للعملية الاقتصادية كما ان نسبة الحالات الإيجابية للتحاليل المخبرية باقل من5% تساعد في نفس الاتجاه. كما تتم المتابعة الميدانية للحالات المكتشفة باستعمال برمجيات على الهواتف الذكية للمتابعة و عن طريق خدمات الصحة عن قرب مع مشاركة فاعلة للمجتمع
التفاعل المجتمعي مع وسائل الوقاية الشخصية والعمومية والصعوبات الاقتصادية
أهمية احترام قواعد التباعد الجسدي و استعمال الأقنعة الواقية و غسل اليدين و التعقيم مع منع التجمعات الرياضية والثقافية والعائلية وإعادة هندسة وسائل النقل والفتح التدريجي للمدارس مع مقاربة بيداغوجية لأقناع المواطنين بالتأقلم مع الضغوطات الاقتصادية مع مساهمة الدولة من خلال اليات الحماية الاجتماعية ومجلة الشغل للتخفيف من أعباء البطالة.
تطوير منظومة الامن الصحي وبرامج الوقائية العمومية
تطوير قيادة العمل الوقائي ودعم المرصد الوطني للأمراض الجديدة والمستجدة وفروعه الجهوية و دعم امكانياته التحليلية و الاستشرافية لصياغة النماذج الرياضية لتطور الوباء الحالي و توقع موجات جديدة و التنسيق مع المؤسسات المثيلة على مستوى المغرب العربي و إقليم شرق المتوسط لمنظمة الصحة العالمية. كما يجب التركيز على الإحاطة بالشرائح الهشة مثل المهاجرين و المشردين بالتنسيق مع مختلف الجهات الوطنية و المجتمع المدني.
دعم المنظومة الصحية
ان الدروس المستفادة من تجارب البلدان مثل سنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية في تعاملها مع جوائح سابقة مثل "سارس" و "مارس "اكدت على أهمية تطوير إمكانيات التوقي ضد الأوبئة و وضع الخطط الوطنية لإدارتها و توفير احتياطي استراتيجي لأسرة الإنعاش و العناية الفائقة لا يقل على 20%. وفي صورة موجة جديدة من المهم ان تحدد مستشفيات مخصصة لاستقبال المرضى تتوفر على وسائل الوقاية والعلاج مع أهمية التركيز على التنسيق بين مختلف خطوط تقديم الخدمة الصحية. اما بالنسبة للموارد البشرية والتي تمثل المكون الأساسي للمنظومة الصحية فمن الممكن الاستفادة من خبرات المتقاعدين من العاملين الصحيين في مختلف الجهات. كما تشير منظمة الصحة العالمية الى أهمية تدريب الكوادر الصحية وطلبة كلية الطب على الخدمات الوقائية والعلاجية عند الجوائح وخاصة في ميدان الإسعاف والعناية المركزة.
دكتور بلقاسم صابري
طبيب صحة عمومية و خبير اقتصاديات الصحة
عضو خلية اليقظة الصحية بالأكاديمية الوطنية بيت الحكمة
مدير سابق لتطوير النظم الصحية بمنظمة الصحة العالمية
أتقدم بالشكر للزملاء أعضاء خلية اليقظة الصحية لملاحظاتهم القيمة وآرائهم لتطوير الورقة
- اكتب تعليق
- تعليق