أخبار - 2020.05.21

أحمد الهرڤام: رحيل الرجل الصالح، الشاذلي القليبي

أحمد الهرڤام: رحيل الرجل الصالح، الشاذلي القليبي

نزل عليّ خبر رحيل الأستاذ الجليل، الصالح، الشاذلي القليبي نزول الصاعقة، فزلزل كياني وأفقدني بعض توازني.. فبالرغم من كونه خبرا منتظرا، عن الأجل المحتوم «ولكلّ أجل كتاب» فإنّني كدت أعتقد لفرط معرفتي بالرجل ومودّتي نحوه، أنّه «لن يموت» بعد هذا العمر المديد..

فقد كان رحمه الله عميق الثقافة، واسع الأفق فكريا ودينيا وإنسانيا، وهي صفات يتزيّن بالقليل منها الإنسان العادي ويفخر بها..  إِلَّا أنّ الاستاذ القليبي من شدّة ورعه وتواضعه كان يخفيها بتلقائية، ويطويها في صمته وهمّته العالية..

عاش الرّجل في مفترق القرنين، وخاض غمار أحداث وأهوال ميلاد دولة الاستقلال وتطوّرات الأوضاع السياسية طيلة الحقبة البورقيبية. وشارك في بناء صرح السياسة الثقافية فيها. فأدخل الأساليب العصرية لنهضة الثقافة التونسية الحديثة، وأشاع بالخصوص ثقافة السينما والمسرح في عموم الأرياف والمدن البعيدة وفتح المكتبات العمومية وجعلها في متناول الأجيال في كلّ مكان .وكان بذلك وزيرا وطنيا رائدا، وصديقا لأهل الفكر والقلم طيلة عقود.

ثم  شاءت الأقدار أن ترشّحه تونس في ظرف دقيق لأمانة جامعة الدول العربية فكانت فرصة فريدة ليكشف الرجل عن مواهب حقيقية مارس بفضلها السياسة العربية والدولية بعقلية المثَقّف الواعي بواجباته الوطنية والقومية. فكان يعالج أدقّ القضايا وأعقدها، من الحرب العراقية – الإيرانية إلى الحرب الأهلية اللبنانية إلى إنجاز اتّفاق الطائف الشهير. وكان دؤوبا في سعيه المضني لإيجاد أبسط قطعة أرض من «الوفاق العربي» ليقف عليها ويحاول توسيعها ويبني انطلاقا منها جسور التوافق المستحيل بين الرجال والسياسات المتناقضة..

وكانت الأمانة العامّة في عهده في تونس خليّة حيّة يجد فيها كل أبناء الوطن العربي مواقعهم، ممثّلين لجنسياتهم وأجناسهم وثقافاتهم المختلفة..

كانت جولاته واتّصالاته الواسعة والنشطة خيمة تتّسع لمحاولة إنشاء أسس لديبلوماسية عربية مشتركة – وإن كانت متواضعة - ، انبثق عنها في حينه العديد من الإنجازات نذكر منها: 

الحوار العربي الأوروبي وما جلبه من منافع واعتراف دولي بشرعية القضية الفلسطينية،
والتعاون العربي الإفريقي وما رافقه من إنشاء بنوك وصناديق تنمية عربية في إفريقيا وكذلك مثلها في آسيا وأمريكا اللاتينية.

وكان من أهمّ إنجازاته «رحمه الله» العمل على إقناع قادة الدول العربية بإرساء دورية دائمة وثابتة لانعقاد القمّة العربية، وتدعيم منظّمات العمل العربي المتخصّصة، ثم تولّى تجميع العديد من فرق الخبراء العرب في مختلف التخصّصات وجمعهم في تونس للعمل في ورشات تنكبّ لعدّة أشهر بغية تعصير أعمال ومؤسّسات هياكل الجامعة العربية وإنشاء محكمة العدل العربية واقتراح مناهج جديدة للتعاون المشترك على غرار ما جرى في منظّمات الاتّحاد الأوروبي.

وبعد كارثة الزلزال الذي حلّ بالوطن العربي إثر غزو العراق للكويت وما تلاه من انفراط لأحلام الوفاق العربي، وما جدّ من كوارث أدّت فيما أدّت إليه من أهوال إلى الواقع العربي الراهن استقال الأمين العام من مهامّه في تونس، وانزوى الرجل في بيته وتفرّغ للكتابة والتأمّل لكنّه لم يستسلم لمنطق الهزيمة السائدة من حوله فكان يجمع أوراقه ويكتب ويفكّر وينشر آراءه في كتب ومقالات مختلفة.

وكان في الأثناء يستقبل زائريه ومحبّيه في بيته بودّ حقيقي وبابتسامة غامضة، فلا يلقي برأي متهوّر، ولا يذكر اسما، مهما كان، بسوء، وكان أغلب الحوار معه يدور حول الكتب والأفكار والتحوّلات السياسية في العالم وما يتّصل منها بالعالم العربي وبتونس على وجه الخصوص..

كان عفيف اللسان وكثيرا ما يترك الانطباع عند سامعيه بأنّه  لا يستمتع – مثل غيره –بإذاية الآخرين والحطّ من قدرهم .. ولكن كثيرا ما يكتشف الزائر عنده خفّة الرّوح وسلاسة الدعابة الرفيعة التي يتمتّع بها بأسلوب ساخر فيه نظرة عالية الذوق، كلّ ذلك دون إسفاف أو تجاوز للأعراف. ومن الأكيد أنّه كان مقدّسا لروح الصداقة و«العشرة»، بدون تملّق أو إصرار. كان دقيق الملاحظة في تحليل الشخصيات من حوله دون أن يلجأ إلى سهولة التحقير والتشفّي حتّى مع من عاداه وأضرّه.. سوف يحفظ التاريخ للأستاذ الشاذلي القليبي نصاعة وطنيّته وحبّه المكين لتونس وأهلها وحرصه على تقدّم  الدولة التونسية الحديثة ومناعتها.

رحم الله الرجل الصالح ،الصبور الوفيّ الذي عرفته واشتغلت تحت إمرته طيلة عقدين من الزمن، فقد كان إنسانا بكلّ ضعفه وعنفوانه ورقّة قلبه ونصاعة سريرته، رحمه الله رحمة واسعة..

أحمد الهرڤام


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.