كلمة فضيلة الشيخ هشام بن محمود في تأبينه لمعالي الأستاذ الشاذلي القليبي
ألقى فضيلة الشيخ هشام بن محمود الإمام الأوّل لجامع الزيتونة المعمور يوم الخميس 21 رمضان المعظم 1441 / 14 ماي 2020 من على ربا قرطاج كلمة في تأبين فقيد تونس والأمة العربية المرحوم الأستاذ الشاذلي القليبي جاء فيها:
بسم الله والحمد لله والله اكبر ولا الاه إلا الله
الله اكبر الله اكبر الله اكبر
نودع في هذه اللحظات الخاشعة . ونحن نعيش خواتم شهر القرآن والإحسان. وبين أيام المغفرة والعتق من النار . رجلا عزيزا. ومناضلا كبيرا .وأديبا متميزا.ومثقفا لامعا ..... انّه هامة من هامات الأمة التي نفقد: إنّه أستاذنا الشاذلي القليبي برد الله ثراه.
وكأني بالأمة قد أخذت تفقد يوما بعد يوم رجالا افذاذا أثبتت الأيام قدراتهم ونظافة أيديهم وثباتهم على المبدأ واعتزازهم بخدمة وطنهم أنى كانت مواقعهم وذودهم عن حياض الأمة وعروبتها وإسلامها، وما سجلته أقلامهم وأثارهم من مواقف وإبداعات.....
وأني إذ أقف في هذه اللحظات المليئة بمعاني الوفاء لهذا الرجل . فما ذلك إلا اعترافا لفقيدنا ببعض من الجميل والعرفان . ولما لقيناه من معاليه من مواقف مشرفة شدت إزرنا يوم دارت علينا ظلما وعدوانا الأيام.
لقد شاء القدر أن يسعدني بالقرب منكم أيها الراحل الكريم . بل التتلمذ عليكم وذلك عبر مواصلة صلة جمعت بينكم وبين والدنا الراحل . من خلال التتلمذ عليه في معهدنا الصادقي ... وتتواصل هذه الصلة بأشكال عدة إلي أن سعدت وزارة الثقافة بطلعتكم وسامي شرافكم عندها جددتم العهد مع أعلام الزيتونة وبخاصة بين والدنا والشيخ الفاضل ابن عاشور ومعاليكم.
ولقد أشرتم إلى ذلك في المقدمة التي تفضلتم بها يوم اطلعتكم في جلسات متعددة ببيتكم العامر . أيام اعدادنا لكتاب ًعلم وشاعرً قلتم فيها تحديدا : انعقد بيني وبين الشيخ المختار منذ تلك الأيام صحبة ومودة ... فلما انقلبت الأيام وأل الامر إلى خروجي من الحكومة . فأول زائر أتاني مساء هو الشيخ المختار...
ومرت الأيام ورحل الأعلام ويشاء الله أن تتواصل هذه الروابط والعلاقات والتي يرجع الفضل فيها إلى شيخي وأستاذي ومقام والدي العلامة الشيخ العميد محمد الحبيب ابن الخوجة والذي واصل السير بي علي نهج الأعلام يوم رحلوا.
كان يومها الأستاذ الشاذلي القليبي مديرا للديوان الرئاسي . وكانت تربطه بشيخنا الحبيب روابط دعمتها سنوات إشرافه علي دار الكتاب وإصداراتها الرائقة وذلك قبل توليه العمادة . ثم عبر مجمع اللغة العربية بالقاهرة التي احتلا فيها العضوية بعد رحيل الأعلام يومها.
سعي راحلنا إلى أن يتولى شيخنا العميد الإمامة بجامع قرطاج. تم ذلك ... رافقت شيخنا الذي أبدع أيما إبداع في خطبة الجمعة التي حضرتها جموع كبيرة . كان أستاذنا الشاذلي من أبرز هؤلاء الحضور قبل حلول الجمعة الموالية وكنت يومها ملازما للشيخ العميد ما بين الكلية والبيت ومواكب التحرير والتنوير.
كانت المفاجأة أنّ فضيلته حملني أمانة الإمامة منذ الأسبوع الثاني . وهنا يحصل اللقاء . كنت مرتبكا حقا فكيف لي أن أصعد علي منبر كان يعتليه منذ أسبوع أحد أكبر علمائنا.... ولكنها مشيئة القدر .جلست جلسة الخطيب فإذا بي المح رجلا محاطا برجال ينظر إلي نظرة ارتسمت في ذهني ولم تفارقني إلى اليوم .لا أقول نظرة ازدراء . إنّما هي نظرة تعجب؟؟ كانت لحظات شعرت فيها برهبة ولكنها جرأة الفتوة والثقة في الله.
إثر الصلاة تقدم راحلنا إلي المحراب .نظر الي ثم شكرني بكلمات قليلة ولكنها مطمئنة . سألني عن اسمي... ولما اخبرته .قال : فهمت الآن . من يومها توالت اللقاءات وتمتنت العلاقات. وفتح لي مجال رحب جديد لأسعد باللقاء بهذه الهامة الكبري الجامعة بين العلم ورفعة الذوق وسلاسة العبارة وجمال الصوت واستحضار أمهات القضايا ولطائف الفكر وإبداعات المبدعين .تواصلت بحمد الله هذه الروابط بشكل جعلني أقف حقا علي ما لهذا الرجل من رجاحة عقل وجمع بين روعة الحديث وجلال القلم...
كان الفقيد يتابع مسيرتي ويشد أزري خاصة يوم ابتلينا بمظلمة كبري أترك لله سبحانه أن يكون الحكم فيها . وصل الأمر الي أن طلب مني راحلنا كتابة رسالة توضح ما حلّ بي ... سلّمها مباشرة للرئيس السابق رحمه الله . ولقيت القبول والإجابة بسرعة ... رفعت المظلمة بإرادة الله . عدنا إلى رحاب الأستاذية والتعليم ...
وكم كان راحلنا يعلق علي إسهاماتي الإعلامية خاصة منها المرئية وآخرها "باب الشفا" عبر القناة الوطنية الأولي . حيث أعلمتني أسرته الكريمة بالأمس تحديدا أنّه كان منبسطا وهو يتابعني...
الله اكبر الله اكبر الله اكبر لا الاه إلا الله
أيها الفقيد العزيز: حرصت علي إبراز بعض من الجوانب وما أكثرها للتأكيد علي رقّة مشاعرك ونبل عواطفك وصدقك ووفائك لمن تحب.
لم ارد ان أتحدث عن المناصب التي شرفتها ولا عن الكتب التي أبدعت في كتابتها شكلا ومضمونا ولا عن المهام السامية التي تحملتها في أعلي هرم المسؤوليات في وطننا العربي وفي فترات كانت فيها الأمة علي وشك الانهيار. كنت أمينا وكنت وفيا لبلادك ولأمتك وللقضية الكبري قضية فلسطين وذلك أعلم أنها ستذكر ويشاد بها . ولكنني أردت وأنا أقف مودعا لك الوداع الأخير أن أسجّل للتاريخ بعضا من كمالاتك وبعضا من الدين الذي لك علي.
واستسمج شاعرنا ـ وأنت رجل الفكر والأدب ـ المنعم مصطفي خريف في أبيات أبّن بها الشابي وذلك لأنك قدمت هذا الكتاب وشرفتني بذلك لتكون معبرة عن ما في النفس من ألم وحسرة. لأنه بفقدانك أفقد ركنا كبيرا كنت أشعر بالطمأنينة والأمان لوجوده ولكنه قضاء الله وقدره والله يفعل ما يريد.
وطيفك بعد الموت حي مبارك *** كريم السجايا طيب الذكر محمود
وعمرك موصول طويل علي المدي *** له في امتداد الفكر نسل وتوليد
وروحك أني طاف فينا تحوطه *** من الملأ الأعلى احتفاء وتمجيد
فيا ثاويا في كل قلب مكرما *** عزيزا أحق أنت في الترب ملحود
سلام وذكر عاطر وتحية إليك *** وشوق خافق.... وتناهيد ...
والله أسأل ان يتقبلك بعفوه ورضاه وأن يجازيك أحسن الجزاء وان ينزلك منزلة الأتقياء . والله اكبر ولاالاه إلا الله.
- اكتب تعليق
- تعليق