عبد العزيز قاسم - وداعا سي الشاذلي: خواطر حـزينـة ليـوم حزيـن
صبيحة يوم شاحب أغبر، يوم الأربعاء 13 ماي الجاري، انطفأ رجل التنوير، الشاذلي القليبي، انطفاء مصباح متعب أو منارة مرفئية أطاح بها إعصار. غادرنا المفكّر الكبير ورجل الدولة المتميّز فترك في أحبابه إحساسا باليتم وفي تونس التي خدمها إلى آخر رمق فراغا ولوعة. كانت أحواله الصحية قد تعكّرت منذ مدة ألزمته الحجر شهورا. سألت حرمه السيدة كلثوم عن أخباره قبل أسبوع خلا فكان الجواب غير مُطَمْئِن ورغم إحساسي بأنّ النهاية اقتربت نزل عليَّ نعيه نزول الصاعقة.
قبل الحجر والحظر اللذين فرضهما فيروس الكورونة على الجميع كنت من بين القلائل الذين حَظُوا مرّات بزيارة الراحل الكبير. وكان لتلك الزيارات تعلّة إطلاعه على مراحل نشر كتابه «تونس وعوامل القلق العربي» (دار الجنوب، تونس، جانفي 2020). ورغم ما كان عليه من إرهاق، كان يرتاح لهذه الزيارات القليلة وهو الرجل الذي كان يحبّ المؤانسة. وأذكر أنّه كان سعيدا حقّا لما زرته حاملا مجموعة من نسخ كتابه فور صدوره. وقد اشتغل طويلا على هذا الكتاب، وكان قد شرّفني بقراءة المخطوط وإبداء الرأي فيه وكان لي معه نقاش في محتوياته وكان كماليّ الكتابة صفائيّ الأسلوب يعود إلى النصّ مرات مُهذِّبا مُضيفا حاذفًا وكان الناشر ينتظر فسطوت على المخطوط وقلت له : «لا زيادة ولا تنقيح بعد الآن» فاستسلم لمّا ذكرت له ما جرى للشاعر بول فاليري إذ اختلس أحد أصدقائه قصيدة «المقبرة البحرية» ونشرها مبرّرا ذلك بأنّه لو لم يفعل لقضى الشاعر بقية حياته يكتبها ويعيد كتابتها. لم يكن صاحبنا قصاصا ولا شاعرا ولكنّه كاتب عُرِفَ بدقة تعبيره وجزالة لفظه ويندرج ضمن صاغة الأدب في مفهومه العباسي أو الأندلسي الكلاسيكي. يضاف إلى ذلك منحى فكري واضح ومنهجية فلسفية لا يحيد عنها فالرجل مبرّز في اللغة والآداب العربية من جامعة السربون وحاصل على الأستاذية في الفلسفة. ليس غريبا إذن أن يكون عضوا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة.
عرفت الشاذلي القليبي من خلال ما كان ينشره في الجرائد كالصباح وصوت العمل و«لاكسيون» أو مجلتيْ «الندوة» و»الفكر» وغيرها من الصحف والدوريات العربية من مقالات وفصول ومقابلات تتماهى مع اهتمامات اللحظة الثقافية والاجتماعية. وعملت بالإذاعة منتجا أيّام كان مديرا للإذاعة الوطنية. كان المنصب حارقا والكرسي قاذفا لشدة قربه من الرئيس ومع ذلك أقام الشاذلي القليبي أطول مدة على رأس المؤسّسة أقامها مدير عام في العهد البورقيبي. كان بورقيبة راضيا عنه ولولا أنّه كان يفكّر فيه لمهامّ أخرى لأبقاه حيث هو.
كان بورقيبة يفكّر، على غرار دي غول، في إحداث وزارة للشؤون الثقافية باحثا عن «مالرو» تونسي يوليه أمرها فطلب من ثلاثة مسؤولين كلّ على حدة وبصورة سريّة أن يقدموا له مشروعا مفصّلا لتحقيق هذا الإحداث ففاز الشاذلي القليبي. حتى قيل إنّه الوزير الوحيد الذي دخل الحكومة عن طريق مناظرة.
وملأ الرجل كرسيه. فهو الذي خطّط لتونس سياستها الثقافية وهيكل الوزارة بما يجعلها تشرف على كلّ القطاعات المعنية بالشأن الثقافي من آداب ومكتبات ومسرح وسينما وموسيقى وفنون وآثار ولجان ثقافية ومهرجانات وتعاون وتبادل مع الخارج. كانت الميزانية ضعيفة إلا أنّه كان يعمل بمقولة استيفاء أقصى ما يمكن من أدنى ما يتوفر. وبفضل ما أقامه من علاقات تعاون وتبادل مع الدول الشقيقة والصديقة استطاع أن يوفر للوزارة مددا في شكل منح دراسية لفائدة مختلف العاملين في الحقل الثقافي من كلّ الاختصاصات وفي شكل تمويلات لنشاطاتنا في الخارج كإقامة الأسابيع الثقافية أو العروض والمعارض الفنية بما يضمن لتونس حضورا وإشعاعا خارج الحدود.
وفوق هذا كلّه كانت للوزراء والموظفين السامين في العهد البورقيبي مسؤولية تمثيل تونس تمثيلا لائقا ليس في المحافل الدولية أو المقابلات الرسمية فحسب بل وحتى في اللقاءات العادية، لما في ذلك من مردود معنوي ومادي مباشر وغير مباشر على البلد. وكنا، نحن الإطارات، نقسّم مسؤولينا الذين لهم صلات دائمة أو ظرفية مع نظرائهم شرقا وغربا إلى قسمين: أحدهما مُشرِّف بما له من أناقة هندام وتفكير وتعبير والآخر مُخْجِل لتعاسة المظهر والمنطق. وفي هذا المجال كان الشاذلي القليبي بالنسبة إلينا مصدر فخر واعتزاز.
هذا التألق والإشعاع هما اللذان جعلا ترشيحه لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية غداة انتقالها إلى تونس مقبولا مُرَحَّبا به عربيا. وبفضله كانت عشرية الثمانينات من أزهر عقود الجامعة رغم صعوبة المرحلة. وإنّ ما توصلت إليه الجامعة في عهده من ضبط شروط التعاون العربي المشترك وأبعاده ما زال يصلح نبراسا ينير الطريق أمام أمة فقدت بوصلتها في هذا الزمن الرديء وكانت القضية الفلسطينية على أفضل حال أيام كان محاميها البارع في العالم وخاصّة في أوروبا وأمريكا الجنوبية.
وتعود بي الذاكرة إلى بداية السبعينات حيث دعاني إلى الالتحاق بوزارته وكلّفتي بالإشراف على إدارة كانت في نظره ذات أهمية قصوى لاتصالها بالجماهير وتموقعها في صلب النشاط الثقافي العام، هي إدارة دور الشعب والثقافة. وأوكل إليّ القيام بزيارات ميدانية للتفقد والتنسيق مع المصالح المعنية لإنجاز مزيد من هذه الدور بناء وتجهيزا. قضّيت سنتين مَرَّتَا كالحلم إلى جانبه كواحد من معاونيه المقربين ثم غادر الوزارة وغادرتها بعده إلا أنّ علاقاتنا الودية والثقافية استمرت قائمة إلى النهاية. وأنا شديد الاعتزاز إذ حظيت منه بمقدمة لأوّل مجموعة شعرية أصدرتها بالعربية وبأخرى لآخر كتاب جيوسياسي بالفرنسية نشرتُه بباريس. هذا عدا أنّي شاركت في ترجمة بعض كتبه إلى العربية أو في مراجعة ترجمتها.
ولقد سبق لي أن نوهت بهذه المودة مستشهدا بمقولة لأحد مشاهير كتَّاب القرن السادس عشر هو ميشال دي مونتاني: صداقة الرجل العظيم هبة من السماء.
كان وزيرا للثقافة والإعلام متصلين ومنفصلين، فوزيرا مديرا للديوان الرئاسي فأمينا عاما لجامعة الدول العربية وكان أيضا رئيسا لبلدية قرطاج. خمَّنتُ مرة أنّه كان يشعر في دخيلة نفسه أنّ أهم ما اضطلع به من مسؤوليات هي الإشراف على بلدية مدينة آل بركا العظماء إذ وصل به الإحساس بأنّه الوريث ثقافة وانتماء إلى قرطاج عليسة وحنبعل. أذكر أنّه قرأ هذا الافتراض الجريء من قِبَلِي فأطرق قليلا ثم رفع رأسه وابتسم قائلا: «أنت تفهمني».
وها هي أرض قرطاج تنفتح لاستقبال جسده الطاهر العريق..
عبد العزيز قاسم
- اكتب تعليق
- تعليق