أخبار - 2020.05.19

عبد الحفيظ الهرڤام: أيّ موقع لتونس في النظام العالمي الجديد؟

عبد الحفيظ الهرڤام: أيّ موقع لتونس في النظام العالمي الجديد؟

لئن اختلفت السرديّات عن جائحة فيروس كورونا وتعدّدت زوايا النظر إلى تداعياتها الوطنية والإقليمية والدوليّة على مختلف أوجه الحياة البشرية فإنّه ثمّة ما يشبه الإجماع على أنّ الأزمة المزلزلة الناجمة عن الجائحة قد قوّضت أسس النظام العالمي الموروث عن الحرب الكونية الثانية ثمّ عن سقوط جدار برلين وأنّ فرصة فريدة باتت مواتية لبناء نظام جديد على أنقاض النظام المتهاوي الذي أدرك أقصى حدوده.         

وإذ نقرّ بأنّ العديد من المؤشّرات تحمل على الاعتقاد أنّ متغيّرات هامّة ستشهدها الخارطة الجيو-سياسية والجيو-استراتيجية  للعالم في المرحلة المقبلة، فإنّنا قد نجانب الصواب إذا ما اعتبرنا أنّ إرساء هذا النظام البديل سيكون أمرا يسيرا، وإنّما عملية ولادته وتوليده ستستغرق وقتا طويلا وستتحكّم فيها بلا ريب الإرادات المتصارعة والمتناقضة للقوى في العالم التي ستسعى جاهدة إلى المسك بزمام المبادرة حتّى يتشكّل العالم الجديد وفق توجّهاتها ومصالحها.   

لقد طفق الخبراء في العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية  وسائر المجالات الأخرى يرسمون منذ انتشار وباء كوفيد-19 ملامح النظام العالمي ما بعد الجائحة، كلّ حسب تصوّره.  

أحد هؤلاء، وهو إدوارد فيشمان، العضو السابق في فريق تخطيط السياسة بوزارة الخارجية الأمريكية والعضو  بالمجلس الأطلسي، يعتبر في مقال نشرته منذ أسابيع مجلّة «بوليتيكو الأمريكية» أنّ أمام قادة الولايات المتّحدة فرصة تتاح مرّة أو مرّتين في القرن لبناء نظام جديد قادر على التعامل مع تحدّيات المرحلة المقبلة، المتمثّلة،  في تقديره، في مواجهة التغيّرات المناخية والتهديدات السيبرانية وتعزيز الصحّة العامّة  ويسمح في الآن نفسه بتبادل ثمار العولمة والتقدّم التكنولوجي على نطاق واسع. وحسب رأيه على القادة الأمريكيين الاقتداء بالرئيس فرانكلين روزفلت الذي بدأ التخطيط لتسوية ما بعد الحرب العالمية الثانية قبل أن تدخلها بلاده، حيث أصدرت أمريكا وبريطانيا الميثاق الأطلسي الذي حدّد أهدافهما لنظام ما بعد الحرب في أوت 1941 أي قبل أربعة أشهر من واقعة بيرل هاربور. كما انعقد في جويلية 1944 مؤتمر بريتن وودز وبانتهاء الحرب بعد سنة كانت مبادئ النظام الاقتصادي الجديد المنبثق عن المؤتمر قد وُضعت بالفعل، ممّا مكّن الحلفاء من التركيز على التفاصيل الحاسمة للصيغ التنفيذية لهذا النظام.

ويعتقد فيشمان أنّ أمريكا التي أنفقت ألفي مليار دولار لإخراج اقتصادها من أزمة كورونا عليها أن تكون سخيّة في دعم مؤسّسات النظام الجديد تعزيزا لسلطتها الأخلاقية وأن تتجنّب بالخصوص البحث عن كبش فداء لمحاولة التقليل من هول الجائحة  التي تسبّبت في وفيات تجاوز عددها عدد القتلى في حرب الفيتنام وذلك من خلال معاقبة الصين أومحاولة إذلالها باتّهامها بحجب حقيقة الوضع الوبائي داخلها، مثلما أُذلّت ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى، ممّا ولّد لدى شعبها نزعة إلى الأخذ بالثأر استغلته النازية في ما بعد. 

ولإضفاء طابع قيمي وأخلاقي على النظام الجديد يرى هذا الخبير ضرورة أن تجتمع  الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا وآسيا في «رابطة ديمقراطيات» ، لتوسيع الدفاع الجماعي خارج المجال العسكري بغية مواجهة التهديدات الأكثر مكرا مثل التدخّل في الانتخابات ، والتضليل ، والإكراه المالي، مع إعطاء الأولوية ، على الصعيد الاقتصادي، لرفاهية الإنسان بدل المراهنة على النمّو  من أجل النمّو ، فضلا عن إبرام اتفاقيات اقتصادية جديدة تيسّر مزيد الوصول إلى الأسواق «جنبًا إلى جنب» مع القضاء على التهرّب الضريبي وحماية خصوصية البيانات وإنفاذ معايير العمل.

لكنّه يرى أنّه سيكون من الحماقة التوقّع أن يقود الرئيس دونالد ترامب ، وهو أحد أسباب فشل النظام الدولي اليوم ، التخطيط لنظام جديد. ممّا يستوجب انتظار رئيس أكثر انفتاحا على الصعيد الدولي لتشكيل مؤسّسات النظام الجديد.، معتبرا حضور ترامب لا يعني أنّ تقدّما جيّدا لا يمكن أن يحدث في الأثناء.

يمكن أن نستخلص ممّا تقدّم عرضه جملة من الاستنتاجات بخصوص ما يجوز اعتباره نموذجا للفكر الاستراتيجي الأمريكي في تحويل الأزمات إلى فرص . وأوّل هذه الاستنتاجات أهميّة التمشّي الاستباقي في رسم السياسيات لعالم ما بعد الكورونا حتّى تبقى الريادة لواشنطن في تشكيل النظام العالمي الجديد الذي سيقوم على مؤسّسات جديدة وعلى قواعد أخلاقية واقتصادية مغايرة ، وثانيها تجاهل الدور الذي يمكن أن تنهض به دول من خارج دائرة حلفاء أمريكا في أوروبا كالصين وروسيا على وجه الخصوص إلى جانب قوى إقليمية وازنة ، وأخيرا اعتماد الرابط الديمقراطي المشترك رافعة لتوسيع الدفاع الجماعي ضدّ كلّ ما من شأنه أن يهدّد قيم الديمقراطية وقواعدها.

وعلى تونس أن تعمل من الآن على استثمار ما تتيحه أزمة كوفيد-19 من فرص لتبوّؤ موقع لها في العالم الجديد من خلال رسم سياسات عموميّة تستجيب لمقتضيات المرحلة القادمة، تستند إلى منوال اقتصادي وتنموي مجدّد يستفيد من طاقة  الإبداع والابتكار التي تتميّز بها الكفاءات التونسية ويراهن على مهن المستقبل التي لها علاقة بالخصوص بتكنولوجيات الاتصال والذكاء الاصطناعي وكذلك على القطاعات التي من المؤكّد أن تضعها الدول، بعد الخروج من الجائحة، في صدارة اهتماماتها  كالصحّة العامّة والصناعات الدوائية والبحث العلمي والبيئة والأمن الغذائي والتحويلات الاجتماعية...     

ولا شكّ أنّ مخرجات فرق الخبراء التي أعلن عن تشكيلها رئيس الحكومة لرسم السياسة وإعداد سيناريوهات ما بعد الكورونا في تونس والدراسة الأولى التي أنجزها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية وعنوانها «تونس في مواجهة «الكوفيد-19 في أفق 2025»  ستشكّل قاعدة لبلورة خطط تساعد على انخراط تونس في العالم الجديد من موقع الفعل والمبادرة.  

ولكي تنضمّ تونس إلى قافلة الدول والديمقراطيات التي سيكون لها دور حاسم في صياغة النظام العالمي الجديد عليها أن تفعّل أكثر عملها الدبلوماسي وأن تكون قوّة اقتراح صلب المنظّمات الإقليمية المنتمية إليها والوكالات الأممية المتخصّصة والجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي التي تشغل فيه منصب عضو غير دائم لمدّة سنتين، وأن تكون مساهمة بفعاليّة في معالجة التحديّات العالمية التي سيتركّز عليها الاهتمام في عصر ما بعد الكورونا، وإلّا ستكون من البلدان المهمّشة التي ستقبل شاءت أم كرهت ما خطّطه الآخرون.

عبد الحفيظ الهرڤام



 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.