كلمة الأستاذ عبد الرؤوف الباسطي في تأبين الأستاذ الشاذلي القليبي (فيديو)
ألقى الأستاذ عبد الرؤوف الباسطي، وزير الثقافة والمحافظة على التراث السابق، في موكب جنازة فقيد تونس والأمّة العربية الأستاذ الشاذلي القليبي، الوزير السابق والكاتب والمفكّر والأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، كلمة التأبين التالية :
;
بسم الله الرحمان الرحيم
الله أكبر، الله أكبر، إنّا لله وإنّا إليه راجعون
بقلوب خاشعة ونفوس ذاكرة يغمرها الأسى ويعمرها الرضا بقضاء الله وقدره، نقف اليوم موقفنا الرهيب هذا، لنودّع إل مثواه الأخير قامة رفيعة من قامات الفكر والعلم في تونس وفي الوطن العربي وواحدا من أبناء تونس الأبرار ومن رجال الطليعة الوطنية الذين أسهموا إسهاما سخيّا في بناء الدولة الوطنية الحديثة، استاذنا المغفور له الشاذلي القليبي الذي غادرنا إلى جوار الرفيق الأعلى وفارقنا بهدوئه المعهود هدوء النفس المطمئنة الراجعة إلى ربّها راضية مرضية.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
الأستاذ الشاذلي القليبي، هذا الصادقي الأصيل الذي "علّمته الصادقية لغتنا العربية وحبّبت إليه آدابها، وألهمته الصربون الاعتزاز بتراث بلاده وحضارة أمّته" هذا الأستاذ الجليل الذي تولّى بعد التدريس إدارة الإذاعة في نهاية الخمسينات من القرن الماضي فجعل منها أكبر دار للثقافة.
وكان أن طلب الرئيس الحبيب بورقيبة في بداية الستينات من بعض المسؤولين تقديم تصوّر لانشاء كتابة دولة للشؤون الثقافية ولقد فاز التصوّر المقترح من الشاذلي القليبي برضا الرئيس فكان هو "ملرو" تونس والوزير الوحيد الذي ظفر بالخطّة عن طريق "مناظرة" وكان بذلك مؤسّسا لوزارة الشؤون الثقافية وواضع أسس السياسة الثقافية في تونس. وكان تبعا لذلك ...أستاذ جيل أفاد من خبرته في شأن تنمية الثقافة الوطنية. وتخرّج من مدرسته الرائدة عدد كبير من العاملين في الحقل الثقافي.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
الأستاذ الجليل الشاذلي القليبي هو أستاذنا الذي تعلّمنا بالعمل معه أنّ إدارة الشأن الثقافي في جوهرها نضال يقتضي المثابرة بصبر وحسن الإصغاء إلى نبض المجتمع وأصوات الفاعلين الثقافيين فيه والانحياز بجرأة إلى المبدعين والانفتاح بشجاعة على كل القوى الحيّة والتيارات الفكرية مهما تكن غير مألوفة. فاستقطب الكفاءات من كل المشارب وبنى دور الثقافة والمكتبات العمومية في كل أنحاء البلاد وبعث المسرح المدرسي والفرق الجهوية، وفي عهده انطلق مهرجان قرطاج الدولي ومهرجان الحمامات وأيام قرطاج السينمائية وعديد المهرجانات الأخرى، ونشطت نوادي السينما فتخرج منها ومن المسرح المدرسي مبدعون متميزون وكفاءات شابة وأوفد العديد من الشبان للدراسة في أعرق المعاهد الفنية.
ولقد فتح أستاذنا الجليل أبواب الوزارة في وجوه هذه الطاقات الشابة واحتضنها دون تحفّظ، وظلّ قويّ الإيمان بالتقبل دون تنكر للجذور. وبل علمنا بحكمته وبعد نظره كيف نوازن بين تطلّعنا من المستقبل الذي يتعين الحفاظ على جنوته في النفوس وبين اعتزازنا بتراثنا والعمل المستمر على تنميته بروح الاجتهاد. لأنّ أستاذنا الجليل كان،منذ البدء، حاملا لمشروع ومؤمنا إيمانا راسخا بوجوب إحلال الثقافة منزلة " مركزية "في خطة تنمية شاملة محورها الإنسان. ومن أهمّ أهداف هذه الخطة " إحياء الذاتية التونسية بإجلاء مقوّماتها الأساسية التي هي ارتباط بتراث عربي وحضارة إسلامية...وارتباط أيضا بفكر متوسّطي يعود إلى حنّبعل ويوغرطة والقديس اغستونيوس.."
وإنّه ليحضرني ، وأنا في موقفي هذا بينكم، يوم "مشهود" سوف يظل راسخا في ذاكرتنا الجماعية، يوم افتتح أستاذنا الجليل من أعلى ربوة قرطاج الحملة الدولية للحفاظ على معالم هذه المدينة بحضور المدير العام لمنظمة اليونسكو روني ماهي وكان ذلك في مثا هذا الشهر يوم 19 ماي 1972 وها هي تفتح ربوة قرطاج اليوم ذراعيها لتحتضن ابنها البار في قرار مكين من رحمها.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
لقد ظلّ أستاذنا الشاذلي القليبي وفيّا لمبادئه ومشروعه عند نهوضه بأعباء وزارة الاعلام وعند اضطلاعه برئاسة الديوان الرئاسي وظل دؤوبا في مدّ جسور التواصل بين أهل الثقافة والسياسة.
وكان في قربه من الرئيس الحبيب بورقيبة نصوحا لا يَتوانَ في التنبيه، بكياسته المعهودة، إلى ضرورة تعديل المسار كلما رأى أنّ المصلحة الوطنية تقتضي ذلك. وقدساعده على ذلك ما كان يحظى به من تقدير الرئيس وثقته في روحه الوطنية العالية.
ولقد أفاد في قربه من مركز القرار خبرة سياسية ودبلوماسية جعلته ينجح نجاحا مشهودا به في الاضطلاع بأمانة جامعة الدول العربية خلال مرحلة مفصليّة دقيقة.
فلقد استطاع بقوة عزمه الهادئ وببعد نظره ودبلوماسيته الناعمة أن يروّض القيادات ويستقطب الكفاءات المتميزة ويبثّ روحا جديدة في هياكل الجامعة وفي منظمات العمل العربي المشترك كافة. وعرف كيف يؤلف بين القلوب وينسّق بين الطاقات والجهود لصياغة مضامين اقتصادية وحضارية لمشروع التكامل العربي الذي وُئد، من سوء الحظ، بسبب الأوضاع التي خلّفتها حرب الخليج. هذه الحرب التي كان لأستاذنا الجليل موقف منها شجاع ومشهود، إذ فضّل الاستقالة من أمانة الجامعة عندما رأى أنّ صوت العقل الذي كان ينادي يحلّ الأزمة الناجمة عن اجتياح الكويت عربيا ودون تدخّل أجنبي لا يسمع.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
لقد ظلّ الأستاذ الجليل متابعا للشأن الثقافي والوطني عموما مرشدا وناصحا وحريصا على أن يرى وطنه خارج عنق الزجاجة. وهو ما كان بيّنا في ما أسمّيه "وثيقة الوداع" كتابه الذي وسمّه بعنوان " تونس وعوامل القلق العربي ". وهو الكتاب الأخير من جملة مؤلفاته القيمة التي نذكر منها كتاب "الثقافة رهان حضاري" وكتاب الشرق والغرب والسلام العنيف وكتاب " الحبيب بورقيبة: "أضواء من الذاكرة" وكتاب "نظرات في الشعر".
وها قد عاود المسافر حنينه إلى دار الحقّ والسلام فغادرنا بهدوء وإستحياء تاركا بيننا آثارا زكية تشيع بفكر نيّر مستنير في عصر عزّ فيه التواضع والتسامح والاعتدال.
فهنيئا لك، سيدي المصلح، بحسن الختام في شهر القرآن الذي لطالما دعوت شبابنا إلى حسن تدبّر مكنون مضامينه الإنسانية النقية الراقية."يا أيّتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".صدق الله العظيم.
رؤوف الباسطي
- اكتب تعليق
- تعليق