جنّات بن عبد الله- سياسات التقشف لصندوق النقد الدولي تحت مجهر قانون العدالة الانتقالية : تونس نموذجا

سياسات التقشف لصندوق النقد الدولي تحت مجهر قانون العدالة الانتقالية : تونس نموذجا

المقدمة

عرفت مسيرة الاقتصاد التونسي منذ الاستقلال في سنة 1956 الى اليوم محطات تاريخية مفصلية صعبة عبر خلالها الشعب التونسي عن رفضه لتدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية بسبب السياسات الاقتصادية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة منذ ذلك التاريخ الى ما بعد ثورة الكرامة في 17يسمبر 2010 - 14 جانفي 2011، ليتواصل هذا الرفض الى اليوم.

وقد جاء التعبير عن الرفض من خلال حركات احتجاجية وصلت كلها درجة المواجهة مع قوات الأمن والحكم على عدد كبير من المحتجين بالسجن.

هذه الحركات الاحتجاجية عبرت كلها عن رفضها لسياسات التقشف والانفتاح التي انخرطت فيها الأنظمة السابقة وحكومات ما بعد الثورة بتوصية من صندوق النقد والبنك الدوليين وبمقتضى انخراط تونس في المنظمة العالمية للتجارة.

في تونس بعد الثورة أوكل المشرع التونسي لهيئة الحقيقة والكرامة بمقتضى الفصل 39 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها مهمة " جمع المعطيات ورصد الانتهاكات واحصائها وتثبيتها وتوثيقها من أجل احداث قاعدة بيانات واعداد سجل موحد لضحايا الانتهاكات، وتحديد مسؤوليات أجهزة الدولة أو أي أطراف أخرى في الانتهاكات المشمولة بأحكام هذا القانون وتوضيح أسبابها واقتراح المعالجات التي تحول دون تكرارها مستقبلا، ووضع برنامج شامل لجبر ضرر فردي وجماعي لضحايا الانتهاكات".

وفي هذا السياق أودع ثلة من الخبراء الاقتصاديين، وهم ثلاثة خبراء، لدى هيئة الحقيقة والكرامة ملفا باسم الشعب التونسي يفيد بأن الشعب التونسي كان ضحية سياسات التقشف التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كما كان ضحية الاتحاد الأوروبي بسبب اتفاقية الشراكة التي أبرمتها الجمهورية التونسية مع الاتحاد الأوروبي في سنة 1995 والتي تتناغم مع أطروحات وأدبيات صندوق النقد والبنك الدوليين والمنظمة العالمية للتجارة. واعتبر هؤلاء الخبراء أن هذا الملف يخضع لقانون العدالة الانتقالية باعتبار أن أجهزة الدولة وسياساتها تقف وراء تنفيذ سياسات التقشف والانفتاح وذلك بتواطؤ مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة وأن انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تسببت فيها هذه السياسات تخضع للفصل 3 من قانون العدالة الانتقالية الذي ينص على أن: " الانتهاك على معنى هذا القانون هو كل اعتداء جسيم أو ممنهج على حق من حقوق الانسان صادر عن أجهزة الدولة أو مجموعات أو أفراد تصرفوا باسمها أو تحت حمايتها وان لم تكن لهم الصفة أو الصلاحية التي تخول لهم ذلك. كما يشمل كل اعتداء جسيم وممنهج على حق من حقوق الانسان تقوم به مجموعات منظمة".

كما اعتبر هؤلاء الخبراء أن الشعب التونسي كان ضحية هذه السياسات على معنى الفصل 10 من قانون العدالة الانتقالية الذي ينص على: "الضحية هي كل من لحقه ضرر جراء تعرضه لانتهاك على معنى هذا القانون سواء كان فردا أو جماعة أو شخصا معنويا".

وقدم هؤلاء الخبراء شهادتهم في جلسة استماع سرية تواصلت يوما كاملا قدموا فيها بيانات واحصائيات تتعلق بالمؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية في تونس والتي تكشف اثار سياسات التقشف والانفتاح على تدهور المقدرة الشرائية وعلى تدهور العملة التونسية وعلى هشاشة منظومة الإنتاج وعلى اختلال التوازنات المالية الداخلية المتعلقة بعجز ميزانية الدولة والتوازنات المالية الخارجية المتعلقة بعجز الميزان التجاري وهي نتائج تتناقض مع ما يروج له صندوق النقد الدولي في برامج الإصلاحات الهيكلية ومع أطروحات المنظمة العالمية للتجارة التي تروج لمزايا تحرير التجارة وتأثيرها على نسبة النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، كما تتناقض مع ما روجت له جميع الأنظمة والحكومات التي انخرطت في التوجه الليبرالي لمؤسسات "يريتون وودز".

كما تعرض الخبراء الثلاثة الى قانون الاستثمار أفريل 1972 والاثار السلبية التي خلفها في مجال انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعاملات في مصانع النسيج للشركات الأجنبية غير المقيمة في تونس والتي تصدر تحت نظام التصدير الكلي "أف شور". واعتبر هؤلاء الخبراء أن هذا الملف يخضع لقانون العدالة الانتقالية باعتبار أن قانون الاستثمار سمح للشركات الأجنبية بانتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعاملات كما أن قانون الصرف ألحق أضرارا ضخمة بمخزون العملة الصعبة وبالمواطن التونسي باعتباره، أي قانون الصرف، لا يلزم الشركات المصدرة غير المقيمة باسترجاع مداخيل صادراتها، وكل هذه القوانين جاءت بإملاءات من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتستند الى أحكام اتفاقيات النظام التجاري متعدد الأطراف.

كما قدم الخبراء الثلاثة شكوى بخصوص طريقة احتساب عجز الميزان التجاري من قبل البنك المركزي التونسي حيث يتم دمج صادرات الشركات المقيمة مع صادرات الشركات غير المقيمة لتضخيم الصادرات في حين أنه على مستوى ميزان الدفوعات لا تحتسب الا مداخيل صادرات الشركات المقيمة فقط وذلك بمقتضى قانون الصرف. واعتبر هؤلاء الخبراء أن هذه الممارسة ترتقي الى مستوى التدليس باعتبار أن صندوق النقد الدولي وضع النسخة السادسة المتعلقة بميزان الدفوعات في سنة 2008 والتي تفصل بين صادرات الشركات المقيمة والشركات غير المقيمة. ورغم أن الاتحاد الأوروبي الذي تعتبره السلط التونسية الشريك التجاري الأول لتونس، بدأ منذ سنة 2010 في اعتماد النسخة السادسة المتعلقة بميزان الدفوعات وهو ما يفترض توحيد مرجعية احتساب ميزان الدفوعات بين تونس والاتحاد الأوروبي، فان تونس لم تقدم بعد على تغيير طريقة الاحتساب. واعتبر هؤلاء الخبراء الاقتصاديين أن صمت الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي تجاه تونس فيه تواطؤ مع السلط التونسية لإخفاء حقيقة وحجم المبادلات التجارية بين تونس والاتحاد الأوروبي لتمرير مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق بين تونس والاتحاد الأوروبي.

في تقريرها النهائي تعرضت هيئة الحقيقة والكرامة الى دور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد وتفاقم المديونية الخارجية ووجهت قبل انتهاء مهامها،مذكرة رسمية إلى كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للاعتراف والاعتذار للتونسيين وإلغاء الديون غير الشرعية، وذلك بعد ثبوت مسؤولية هاتين المؤسستين الدوليتين في ارتكاب انتهاكات على مر عقود، وتحديدًا انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ضد الشعب التونسي وفق ما انتهت إليه تحريّات الهيئة.

وفي المذكرة المُرسلة عن طريق وزارة الشؤون الخارجية، دعت الهيئة البنك الدولي وصندوق النقد إلى اتخاذ التدابير الضرورية لجبر ضرر الضحايا، أفرادًا أو جماعات أو جهات مهمّشة، وكل التونسيين، التي تمثلهم الدولة التونسية وذلك بالتعويض عبر لجنة خاصة يقع إنشاؤها لتقييم هذه الأضرار.

ويأتي هذا الإجراء، كما جاء في التقرير النهائي، تنفيذًا لقرار مجلس الهيئة المنعقد بتاريخ 30 ديسمبر 2018 بعد معاينة الانتهاكات الحاصلة بسبب السياسات المفروضة على الدولة التونسية بما أضر بالاقتصاد الوطني وبالمواطنين التونسيين، عدا عن الآثار السلبية على البيئة خاصة في منطقتي الحوض المنجمي وخليج قابس. 

وتتمثل مسؤولية المؤسستين، حسب تقرير الهيئة، في سياسة الإملاءات التي فرضتهما في إطار شروط منح القروض وبرامج الإصلاحات الهيكلية التي كانت نتيجتها ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خاصة منها المرتبطة بالاحتجاجات الشعبية التي جاءت على خلفية هذه التوجيهات التي أدت إلى تخلي الدولة عن دورها.

ما يجب التأكيد عليه في هذا المستوى أن تقرير هيئة الحقيقة والكرامة وتحميل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مسؤولية سياساتها بانتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب التونسي لم يستند الى ملفات تقدم بها مواطنون تونسيون أو هيئات من المجتمع المدني يشكون فيها انتهاك الحق في العمل أو الحق في التعليم أو الحق في الصحة في علاقة مباشرة بسياسات التقشف والانفتاح التي طبقتها الحكومات بتوصية من صندوق النقد والبنك الدوليينولكن بناء على ملفات أحداث الخميس الأسود 26 جانفي 1978 وأحداث الخبز 1984 وأحداث الحوض المنجمي 2008 والثورة التونسية 17 ديسمبر 2010 - 14 جانفي 2011 التي خرج فيها الشعب التونسي منتفضا وفي حركات احتجاجية كبرى خلفت مواجهات مع قوات الأمن أدت الى سقوط عديد القتلى والجرحى وإيقاف عدد هام من المتظاهرين وتحويلهم الى المحاكمة، وكلها أحداث جاءت على خلفية خصخصة مؤسسات عمومية، ورفع الدعم عن المواد الأساسية بناء على توصيات صندوق النقد الدولي مما خلف تدميرا لمواطن الشغل وتدهورا للمقدرة الشرائية وتدهورا للمرفق العمومي عرض فئات اجتماعية لانتهاك حقها في الشغل وحقها في التعليم وحقها في الصحة.

كما جاءت ملفات "الجهات الضحية "التي تم ايداعها لدى هيئة الحقيقة والكرامة استنادا الى الفصل 10 من قانون العدالة الانتقالية الذي ينص على: " ويشمل هذا التعريف، أي تعريف الضحية، كل منطقة تعرضت للتهميش أو الاقصاء الممنهج"، مثل جهة سيدي بوزيد وهي الجهة التي شهدت أول شرارة ثورة الحرية والكرامة في 17 ديسمبر 2010 وجهة القصرين التي تحتضن الحوض المنجمي، وباجة والقصرين والكاف والقيروان ومدنين وتطاوين وقابس، لتكشف نسب الفقر والبطالة والأمية العالية والاقصاء والتهميش عن حقيقة اثار سياسات التقشف والانفتاح في هذه الجهات.

أهداف البحث

في هذا البحث سنحاول وضع سياسات مؤسسات بريتون وودز وهي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي و"الغات" التي تحولت بعد سنة 1995 الى المنظمة العالمية للتجارة، تحت مجهر قانون العدالة الانتقالية في تونس للوقوف عند حجم الانتهاكات التي مارستها ضد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للشعب التونسي الذي جنى الفقر والبطالة والجهل والمرض والاقصاء والتهميش من سياسات التقشف والانفتاح، وإبراز أن الشعب التونسي كان ضحية هذه السياسات على معنى قانون العدالة الانتقالية لمطالبة الحكومة التونسية بمراجعة سياساتها والتعاطي مع هذه السياسات بحذر وبما يؤمن الرفاه للمواطن التونسي والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في البلاد.

كما نرمي من وراء هذه الورقة تحميل مؤسسات بريتون وودز والمنظمة العالمية للتجارة مسؤولياتها تجاه شعوب العالم وخاصة الشعوب المتضررة التي تعالت أصواتها مستغيثة من الفقر والخصاصة والجهل والمرض والموت البطيء الذي تسببت فيه سياسات التقشف والانفتاح، الا أن حكوماتها المتواطئة مع مؤسسات بريتون وودز تجاهلت استغاثتها واستمرت في تنفيذ هذه السياسات لتعود اليها من جديد بعد كل حركات احتجاج أدى البعض منها الى سقوط حكومات لتعيد الحكومات التي تأتي من بعدها انتاج نفس السياسات في اطار صفقات جديدة مع مؤسسات بريتون وودز والتكتلات الاقتصادية الكبرى تؤمن لها الدعم المالي من خلال قروض مقابل اعادة تنفيذ برامج إصلاحات هيكلية ومزيد الانفتاح على الاستثمارات الأجنبية.

أهمية هذا البحث تكمن في اثبات العلاقة بين سياسات التقشف لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وسياسات تحرير التجارة الدولية التي تستند الى أحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة والتي تجسدت في تونس من خلال اتفاقية الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي في سنة 1995 من جهة، والنتائج السلبية التي حققها الاقتصاد التونسي طوال العقود الأربعة الأخيرة وترجمت الى تدهور كل المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية وذلك من منظور قانون العدالة الانتقالية عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها حسب الفصل الأول منه الذي يعرف العدالة الانتقالية على أنها: "العدالة الانتقالية على معنى هذا القانون هي مسار متكامل من الاليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الانسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد الى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الانسان".

ومن هذا المنطلق تسعى هذه المقاربة الى الوقوف الى جانب الشعوب ضحية انتهاك حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بمقتضى سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وأحكام اتفاقيات النظام التجاري متعدد الأطراف في الوقت الذي تتنصل فيه هذه المؤسسات من مسؤوليتها القانونية والأخلاقية تجاه الشعوب المتضررة ووراءها حكومات البلدان التي انخرطت في مسار إصلاحات هيكلية بمقتضى وصفات صندوق النقد الدولي وبمقتضى انخراطها في المنظمة العالمية للتجارة وإقرار اتفاقيات تبادل حر وذلك منذ سبعينات القرن الماضي، رغم الانتقاداتالشديدة الموجهة لهذه المؤسسات من قبل عديد الخبراء الاقتصاديين وفي مقدمتهم خبراء عملوا بهذه المؤسسات ونذكر من بينهم جوزيف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد في سنة 2001 وجوناثان أوستري كاهية مدير إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي، وباركش لونقاني مستشار بالصندوق وهو أستاذ الاقتصاد بمدرسة أوان العليا للتصرف بمدينة ناشفيل بالولايات المتحدة الأمريكية، ودافيد فورسري خبير اقتصادي.

اثبات هذه العلاقة بين سياسات مؤسسات بريتون وودز وانتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتي أدت الى تحويل الشعوب الى ضحية على معنى قانون العدالة الانتقالية تحيلنا الى تطبيق مسار العدالة الانتقالية المنصوص عليه بالفصل الأول من القانون المتمثل في كشف الحقيقة ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا من أجل إرساء ضمانات عدم تكرار الانتهاكات من خلال عدم تكرار فرض سياسات التقشف وبرامج الإصلاحات الهيكلية التي لم يغيرها صندوق النقد الدولي منذ سبعينات القرن الماضي على البلدان التي تمر بأزمات مالية خانقة تزيدها وصفات صندوق النقد الدولي وأحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة تأزما بل تحولها الى أزمات هيكلية لا يمكن التحرر منها باعتبار دورية هذه الأزمات في البلدان النامية والأكثر فقرا.

البحث سينقسم الى أربعة أجزاء جزء أول سنقدم فيه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حسب القانون الدولي والدستور التونسي وجزء ثان سنقف فيه عند المحطات التاريخية الأربعة التي انتفض فيها الشعب التونسي على سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وجزء ثالث سنقدم فيه سياسات مؤسسات بريتون وودز ونوضح اثارها على انهيار المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في تونس.

وجزء رابع سيهتم بإثبات أن انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لسياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وسياسة تحرير المبادلات التجارية حسب أحكام المنظمة العالمية للتجارة هي انتهاكات ممنهجة على معنى قانون العدالة الانتقالية. لنختم بالتوصيات

الجزء الأول: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في القانون الدولي والدستور التونسي

1– المقاربة الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

بادرت منظمة العمل الدولية بالاعتراف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وذلك في اعلان فيلادلفيا سنة 1944 لتلحق بها منظمة الصحة العالمية في سنة 1946 ويتعزز هذا التوجه بالإعلان العالمي لحقوق الانسان في سنة 1948.

وقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1948 الإعلان العالمي لحقوق الانسان وحددت فيه الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ينبغي أن يتمتع بها جميع البشر.

وتعتبر حقوق الانسان اطارا موحدا للقيم والمعايير المعترف بها عالميا، كما تبين الالتزامات التي يجب أن تحترمها الدول للتصرف بأساليب معينة أو الامتناع عن ممارسة أفعال معينة. وتعتبر حقوق الانسان أداة هامة تسمح بمساءلة الدول أو جهات فاعلة من غير الدول بشأن الانتهاكات. كما تتيح تعبئة الجهود الجماعية بهدف تطوير المجتمعات وانشاء أطر عالمية تؤدي الى تحقيق العدالة الاقتصادية والرفاه الاجتماعي وتعزيز المشاركة والمساواة.

وقد ورد ذكر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في القانون الدولي بعد مدة طويلة من مطالبة الشعوب بهذه الحقوق الأساسية وذلك في سنة 1966 تحت مسمى الحقوق القانونية في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي يمثل مع الإعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ما يسمى بالشرعية الدولية للحقوق.

وقد حدد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عددا من المبادئ لوضع هذه الحقوق موضع التنفيذ حيث يتعين على الدولة بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اتخاذ الخطوات «بأقصى ما تسمح به مواردها المتاحة " لإعمال هذه الحقوق تدريجيا من خلال:

1 – الالتزام بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بمعنى الامتناع الذاتي عن ارتكاب أي انتهاك لهذه الحقوق.
2 – الالتزام بحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بمعنى منع أطراف أخرى من انتهاك هذه الحقوق.
3 – الالتزام بالوفاء بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بمعنى اتخاذ التدابير اللازمة لإعمال هذه الحقوق عن طريق الإجراءات التشريعية والإدارية واعتماد الميزانية المؤهلة لذلك.
4 – طلب المساعدة والتعاون الدوليين في مجال اعمال هذه الحقوق.

ورغم الاعتراف الدولي بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الا أنها عرفت اهمالا نسبيا في جدول أعمال حقوق الانسان بسبب عدة عوامل مرتبطة بالصراعات الدولية التي دفعت الى التركيز على الحقوق المدنية والسياسية. وقد أثر هذا الإهمال على وضوح الرؤية بخصوص هذه الحقوق التي بقي يكتنفها سوء الفهم حينا والغموض أحيانا.

وقد مثلت الثورات في عديد الدول العربية وفي مقدمتها تونس منعرجا في اتجاه التأكيد على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدستور الجديد الذي ختم يوم 27 جانفي 2014 وتم التنصيص على هذه الحقوق ضمن المبادئ العامة وفي الباب المخصص للحقوق والحريات.

2 - الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدستور التونسي

تعتبر دسترة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من مكاسب الثورة التونسية حيث جاءت متناغمة مع مطالب الهيئات والمنظمات الدولية والعربية. ويكتسي التنصيص على هذه الحقوق في الدستور أهمية كبرى في إرساء النظام الديمقراطي وتحقيق التنمية المستدامة والعادلة.
وتتمثل هذه الحقوق في:

الحق في الصحة: أقر الفصل 38 من الدستور بحق الصحة لكل انسان، وأكدت الفقرة الثانية من الفصل ضمان الدولة لكل مواطن بالوقاية والرعاية الصحية وتوفير الإمكانيات الضرورية لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية.

كما تنص الفقرة الثالثة من الفصل على ضمان الدستور العلاج المجاني لفاقدي السند ولذوي الدخل المحدود مع ضمان الحق في التغطية الاجتماعية طبق ما ينظمه القانون.

الحق في التعليم: أقر الفصل 39 الزامية التعليم الى حدود السن السادسة عشرة، وضمان الدولة الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله والسعي لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين.

الحق في العمل: أقر الفصل 40 من الدستور حق كل مواطن العمل في ظروف لائقة وبأجر عادل، مع سعي الدولة لضمانه على أساس الكفاءة والانصاف. كما تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمل المسؤوليات في مختلف المجالات (الفصل 45).

الحق في الماء والبيئة السليمة: أقر الفصل 44 الحق في الماء وأوجب على الدولة والمجتمع ضرورة المحافظة عليه وترشيد استغلاله.
كما تضمن الدولة بموجب الفصل 45 الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ.

الجزء الثاني: المحطات التاريخية الأربعة لرفض الشعب التونسي لسياسات التقشف والانفتاح

عرف تاريخ تونس بعد الاستقلال محطات مفصلية عبر خلالها الشعب التونسي عن رفضه لتدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية. وقد تلقت هيئة الحقيقة والكرامة عددا هاما من الملفات في هذا السياق نذكر منها أحداث الخبز أو ما يسمى بأحداث الخميس الأسود 26 جانفي 1978،واحتجاجات الخبز في سنة 1984، وأحداث الحوض المنجمي في سنة 2008، وثورة 17 ديسمبر 2010 - 14 جانفي 2010.

ولئن جاءت كل هذه الأحداث على خلفية اقتصادية مرتبطة بالخصخصة ورفع الدعم عن المواد الأساسية وارتفاع الأسعار، فان الملفات التي تلقتها هيئة الحقيقة والكرامة المتعلقة بهذه الأحداث كانت مرتبطة بانتهاك الحقوق المدنية والسياسية حيث انتهجت الأنظمة السابقة سياسة أمنية لقمع الاحتجاجات أدت الى حملات اعتقال ومحاكمات وسقوط عديد القتلى والجرحى.

في هذه الفقرة سنتعرض الى هذه الأحداث والأسباب الحقيقية التي تقف وراءها.

1- أحداث الخميس الأسود 26 جانفي 1978 وأول حراك شعبي ضد سياسة التقشف والخصخصة

خلال العشرية الأولى بعد الاستقلال اتبعت تونس استراتيجية افاق العشرية للتنمية 1962 – 1971 لبناء اقتصاد يقوم على الإنتاج وعلى الدور المركزي للدولة من خلال قطاع عام قوي. وتعتبر الاشتراكية العلمية المرجعية النظرية لهذه الاستراتيجية التي ترمي الى تطوير الإنتاج والزيادة في الدخل الفردي والحد من الفوارق بين الجهات وتوجيه الاستثمار الوطني نحو الصناعة. ولئن وضعت هذه الاستراتيجية قيودا ومحاذير أمام التداين الخارجي الا أن ضعف الموارد الذاتية للدولة اضطرها الى الحصول على تزكية من البنك الدولي سمحت لها بالحصول على قروض خارجية وأساسا من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية لتنفيذ المخططات الثلاثة للتنمية.

وبالتوازي مع تجربة التعاضد 1962 – 1971، عرفت سنة 1963 انطلاق مفاوضات مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية لابرام اتفاق اقتصادي. ورغم تعثر هذه المفاوضات فقد تم التوصل في سنة 1969 الى اتفاق لم يكن مرضيا بالنسبة للطرف التونسي.

وخلال هذه الفترة استطاعت الدولة بعث مشاريع صناعية كبرى في عدد من الجهات مثل مصنع تكرير النفط ببنزرت ومصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة ومصنع السكر بباجة. كما أقرت تحويل تجارة التوريد والتصدير وتجارة الجملة إلى القطاع العام. والى جانب ذلك تم جمع صغار التجار (تجار المواد الغذائية والبيع بالتفصيل…) في مجمعات والاشراف عليهم. الا أن ظهور حركات معارضة لهذه التجربة من قبل كبار مالكي الأراضي وكبار التجار أدى الى القاء القبض على أحمد بن صالح الذي كان في نفس الوقت كاتب دولة للتخطيط ووزير الشؤون المالية والتجارة والصناعة والفلاحة والتربية القومية والحكم عليه بالسجن في 25 ماي 1970.  

أجهضت تجربة التعاضد على خلفية لا علاقة لها بسياسة التقشف أو الانفتاح لتتخلى تونس في سبعينات القرن الماضي على المنوال التنموي لأفاق العشرية للتنمية وتدخل مرحلة اقتصاد السوق مع حكومة الهادي نويرة وكان من أهم الإجراءات التي تم إقرارها قانون أفريل 1972 الذي يقوم على استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتشجيعها على الانتصاب والتصدير في إطار نظام التصدير الكلي "أوف شور". وبالتوازي مع ذلك دخل اتفاق التعاون الاقتصادي مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية حيز التنفيذ وكان ذو طابع تجاري بحت ويقوم على تحرير المبادلات التجارية و"إزالة كافة العوائق أمام المبادلات التجارية" كما جاء في مطلع الاتفاق.

ومنذ سبعينات القرن الماضي تاريخ التدخل المباشر لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد من خلال منح قروض مقابل شروط تتعلق بتخلي الدولة عن دورها الاقتصادي وتبني سياسة التقشف من خلال تقليص اعتمادات الدعم وتجميد الأجور والتفويت في المؤسسات العمومية، عرفت تونس حركات احتجاجية بصفة دورية على تدهور المقدرة الشرائية جراء ارتفاع الأسعار ورفع الدعم على المواد الغذائية وتردي الخدمات العمومية في مجالات الصحة والتعليم النقل وتسريح العملة في المؤسسات التي تمت خصخصتها، وكانت الشرارة الأولى في سياقات الاحتجاجات على سياسات التقشف والانفتاح لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي و"الغات" سنة 1974 بتأزم العلاقة بين حكومة الهادي نويرة والاتحاد العام التونسي للشغل الذي طالب، على خلفية تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية  بعدة مطالب من بينها الترفيع في الأجور لتحسين المقدرة الشرائية للمواطن، ليتم التوصل بتاريخ 19 جانفي 1977 الى التوقيع على الميثاق الاجتماعي الذي استجابت فيه الحكومة على جزء من مطالب المنظمة الشغيلة.

وفي صائفة 1977 أعلنت الحكومة عن قرارها الترفيع في أسعار بعض المواد الغذائية رغم وجود اتفاقية مبرمة مع المنظمة الشغيلة تنص على الحفاظ على السلم الاجتماعي وعلى مراجعة الأجور كلما ارتفعت الأسعار بنسبة تزيد عن 5 بالمائة، وتشتد الأزمة من جديد بين الطرفين.

وفي 7 أكتوبر 1977عاد الوضع للتأزم من جديد بإضراب عمال الشركة العامة لصناعة النسيج "سوجيتاكس" بقصر هلال بسبب خصخصة الشركة وتفويت الدولة فيها لفائدة شركة أمريكية وهي شركة "سويفت" التي اقتنت 50 بالمائة من رأس المال والبنك السعودي الذي اشترى 30 بالمائة من رأس المال والتفويت في البقية للقطاع الخاص.

وفي توتر العلاقة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل عقد هذا الأخير جلسة عامة وطنية أيام 8 و9 و10 جانفي 1978 انتهت بالإعلان على مبدأ تنظيم اضراب عام يوم الخميس 26 جانفي 1978 لمدة 24 ساعة على ألا يشمل الاضراب المرافق الأساسية مثل الكهرباء والماء والصحة.

وكان الاضراب يوم 26 جانفي 1978 حيث شهدت العاصمة نزول مسيرات شارك فيها نقابيون وعملة وطلبة ليتوسع ويشمل كامل الجهات ويكون هذا الاضراب أول حراك شعبي رافض لسياسة الحكومة التقشفية التي تجسدت من خلال رفع الدعم والخصخصة والتي جاءت بإملاء من صندوق النقد الدولي.

2- احتجاجات الخبز 1984 وثاني حراك شعبي ضد سياسة التقشف والخصخصة

في بداية الثمانينات من القرن الماضي كانت تونس على مشارف انهيار اقتصادي خلف احتقانا اجتماعيا كبيرا. وللخروج من الأزمة تقدمت الدولة التونسية بطلب الاقتراض من صندوق النقد الدولي الذي اشترط في ماي 1983 على حكومة محمد مزالي القيام بإصلاحات للضغط على عجز ميزانية الدولة وتبني سياسة التقشف التي تقوم على رفع الدعم على المواد الأساسية والعودة بالأسعار الى حقيقتها وتجميد الأجور، وهو ما أقرته الحكومة في قانون المالية لسنة 1984.

وقد قوبلت هذه القرارات برفض شعبي انطلق من جهة دوز بتاريخ 29 ديسمبر 1983 ليشمل بقية الجهات ويصل الى العاصمة يوم 3 جانفي 1984 وتتواصل الاحتجاجات الى غاية يوم 6 جانفي 1984 حيث أعلن الرئيس الحبيب بورقيبة عن الغاء قرار الترفيع في أسعار الخبز ومشتقات الحبوب.

ورغم هذه الاحتجاجات فقد واصلت حكومة محمد مزالي في تطبيق سياسة التقشف من خلال اليات أخرى ارتكزت على تجميد الأجور وتقليص الاعتمادات الموجهة للقطاعات ذات البعد الاجتماعي وهي التعليم والصحة والنقل والتخلي عن دعم المؤسسات العمومية مما فاقم في تدهور المقدرة الشرائية للمواطن وفي ارتفاع نسب البطالة وارتفاع التضخم وتعميق التفاوت الجهوي.

من جهة أخرى واصلت التوازنات المالية الخارجية المتعلقة بعجز الميزان التجاري تدهورها بسبب سياسة الانفتاح واتفاقيات التبادل التجاري مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية.

سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي و"الغات" التي تستند اليها اتفاقيات التبادل التجاري بين تونس والاتحاد الأوروبي أدت الى أزمة مديونية جديدة أعلن عنها في سنة 1986 لتشكل نهاية مرحلة ثانية من تدخل مؤسسات بريتون وودز في تونس والاعلان عن المرحلة الثالثة بموافقة البنك الدولي على منح قرضين لتونس لقطاعي الفلاحة والصناعة بقيمة 150 مليون درلار مقابل التزام الدولة التونسية بعدم دعم المدخلات الفلاحية وخصخصة أكثر من نصف المؤسسات العمومية البالغ عددها 560 مؤسسة، وهو ماشكل تمهيدا لبرنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد التونسي في سنة 1986 لصندوق النقد الدولي.

3- انتفاضة الحوض المنجمي في سنة 2008 والحراك الثالث ضد سياسات التقشف والخصخصة والانفتاح

عرفت منطقة الحوض المنجمي منذ بداية القرن العشرين بحراكها السياسي ورفها للقوى الاستعمارية. وقد انطلق الاهتمام الاستعماري بالجهة منذ اكتشاف الفسفاط في سنة 1885 حيث تم تأسيس شركة الفسفاط والسكك الحديدية في سنة 1897 وانعقدت الجلسة العامة الأولى في 18 مارس 1897 بباريس.

بعد الاستقلال اتجهت الدولة التونسية نحو تونسة الشركة وإدخال تغييرات هيكلية في سنة 1962 أفضت الى ادماج كل شركات الفسفاط في شركة واحدة وهي شركة فسفاط قفصة في سنة 1976.

وقد كان لتبني الدولة التونسية لبرنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد التونسي في سنة 1986 الذي استند الى جملة من تدابير التقشف انعكاسات سلبية من بينها إعادة هيكلة شركة فسفاط قفصة في اطار خطة اصلاح استراتيجية بعنوان "خطة إعادة تأهيل شركة فسفاط قفصة". وقد اسفرت هذه الخطة عن تدمير عدد كبير من مواطن الشغل لينخفض عدد الأعوان من 14 ألف في سنة 1986 الى 5300 عون في سنة 2007.

وباعتبار أن شركة فسفاط قفصة هي المشغل الرئيسي في الحوض المنجمي فقد كثرت البطالة وتدهورت الظروف الاجتماعية في المنطقة مما أدى الى توترات اجتماعية أدت الى انتفاضة 2008 . كما تسببت إعادة هيكلة الشركة في تدهور مستوى التلوث في العديد من المناطق مما أدى الى اثار كارثية على صحة السكان وعلى الغطاء النباتي.

وقد تلقت هيئة الحقيقة والكرامة 1617 شكوى حول التسريح التعسفي الجماعي من شركة فسفاط قفصة و239 شكوى من ضحايا التلوث بسبب تلوث المياه الجوفية وتلوث الأراضي وتضرر الماشية وبسبب الأمراض السرطانية المتعلقة بالتلوث، و73 شكوى حول الأضرار المائية نتيجة الفيضانات المتسببة فيها الشركة، وفقدان الأرواح والمنازل.

4 – ثورة 17 ديسمبر 2010 - 14  جانفي 2010 والحراك الرابع ضد سياسات التقشف والخصخصة والانفتاح

جاءت الثورة التونسية تعبيرا عن رفض الشعب التونسي للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعها نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في إطار منوال تنمية يقوم على وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي جاءت في سنة 1986 إثر أزمة المديونية وتم ادراجها في مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية بعد سنة 1987 مع نظام بن علي. كما واصل بن علي على نفس نهج سابقيه في مجال الانفتاح ليوقع في سنة 1995 على اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي دون تفويض من البرلمان التونسي.

وقد شهدت بداية التسعينات عمليات خصخصة شملت 160 مؤسسة عمومية وفرت تمويلات هامة لميزانية الدولة، الا أنه منذ نهاية التسعينات بدأت المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في التدهور وعمق هذا التدهور ظاهرة الفساد السياسي والمالي والإداري.

وقد بينت عديد الاحصائيات عن تفاقم نسبة البطالة لتبلغ في سنة 2000 مستوى 13 بالمائة وسجلت جهات الجنوب الغربي والشمال الغربي أعلى المعدلات لتصل الى 21.1 بالمائة غالبيتهم من المتخرجين من الجامعات.

وبين سنوات 1990 و2000 تطورت نسبة الفقر في القصرين مثلا من 19.3 بالمائة الى 30.7 بالمائة وفي سيدي بوزيد من 39.8 بالمائة الى 47.5 بالمائة.
ولئن كان الدافع الأساسي للحركات الاحتجاجية هو البطالة وتردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي حيث رفعت شعارات شغل ، حرية، كرامة وطنية الا أنه سرعان ما تطورت الشعارات لتطالب بإسقاط النظام.

الجزء الثالث: سياسات مؤسسات بريتون وودز وانهيار كل المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية في تونس

لن نتعرض في هذه الورقة بالتحليل والنقد لكل اليات سياسة التقشف لصندوق النقد الدولي المتمثلة خاصة في رفع الدعم عن المواد الأساسية وتخلي الدولة عن دورها الاقتصادي في مجالات ذات أبعاد اجتماعية ، الى جانب سياسة نقدية متشددة ترمي الى كبح الطلب الداخلي بشقيه الاستهلاك والاستثمار، ولكن سنحاول تسليط الأضواء على اثار أحد اليات سياسة التقشف المتمثلة في التفويت في المؤسسات العمومية باعتبارها تشكل عبئا على ميزانية الدولة كما يروج له صندوق النقد الدولي على لسان المسؤولين في تونس سواء مع الأنظمة السياسية السابقة أو حكومات ما بعد الثورة.

كما سنحاول تسليط الأضواء على أهم تداعيات اتفاقية الشراكة لسنة 1995 بين تونس والاتحاد الأوروبي والتي تندرج ضمن سياقات تحرير المبادلات التجارية حسب مقتضيات النظام التجاري متعدد الأطراف.

1- تقليص الاعتمادات الموجهة للمؤسسات العمومية أو الية تفقير الشعوب

تندرج شروط صندوق النقد الدولي المرتبط تطبيقها بحصول تونس على قروض لدعم برامج الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد ضمن سياسة الصندوق ومبادئه الرامية الى تكريس الليبرالية الاقتصادية والمالية.

في هذا السياق شهد القطاع العمومي في تونس اتهامات بضعف مردوده ليتحول الى عبء على ميزانية الدولة حسب أطروحات ومبادئ صندوق النقد الدولي التي تستند الى تقوية القطاع الخاص ومنحه مقود قيادة وتوجيه الاقتصاد.

وفي تونس شكّل القطاع العمومي بعد الاستقلال حجر الاساس في بناء الاقتصاد الوطني ليبلغ نمو الناتج المحلي الاجمالي في العشرية الاولى تطورا برقمين لتتم اعادة توجيه الاقتصاد في سبعينات القرن الماضي نحو الانفتاح والتحرير ليسجل الاقتصاد الوطني في منتصف الثمانينات ادنى مستويات النمو ويتم اللجوء الى صندوق النقد الدولي والبنك العالمي للاقتراض في اطار برنامج الاصلاح الهيكلي للاقتصاد الوطني الذي يقوم على تخلي الدولة تدريجيا عن دورها الاقتصادي لفائدة القطاع الخاص وذلك من خلال تقليص الاعتمادات الموجهة للقطاع على خلفية الضغط على عجز ميزانية الدولة.

وفي تونس لعب القطاع العمومي دورا جوهريا في بناء قطاعات حيوية مثل التعليم العمومي الذي كان وراء ارساء مجانية التعليم واخرج تونس من دائرة الجهل وقطاع الصحة العمومية الذي كان وراء توفير مقومات الصحة للجميع وأبعد عن الشعب التونسي شبح الكوليرا والسل والأوبئة... وقطاع الكهرباء والغاز والماء الصالح للشرب الذي ساهم في تعزيز مقومات الحياة الكريمة للمواطن... وقطاع النقل العمومي... وقطاع السكن الاجتماعي... والقطاع البنكي من خلال البنوك العمومية التي موّلت القطاع الخاص الوطني في كل المجالات... قطاعات عمومية ساهمت كلها في اعادة توزيع الثروة والتأسيس لطبقة متوسطة شكلت حزام امان ونقطة قوة الاستقرار الاجتماعي.

لقد اعتمد صندوق النقد الدولي، لتبرير سياسة التقشف والتفويت في المؤسسات العمومية، على الضغط على كتلة الأجور. واعتبر خبراء صندوق النقد الدولي أن كتلة الأجور في الناتج المحلي الإجمالي في تونس مرتفعة وهو ما يفترض تجميد الأجور وتجميد الانتدابات لتقليص الضغط على ميزانية الدولة. الا أن هذا الطرح يبقى في حاجة الى اثبات في تونس باعتبار أن المعادلة التي قدمها الصندوق هي عكسية في تونس. ففي الوقت الذي يعرف فيه الناتج المحلي الاجمالي نسبة نمو ضعيفة تشهد فيه كتلة الاجور تطورا ملحوظا وهو ما يعطي الانطباع بأن كتلة الأجور في الناتج المحلي الإجمالي مرتفعة.

لقد أدت سياسة التقشف الى افراغ المؤسسات التربوية العمومية من المعلمين والأساتذة والمستشفيات العمومية من الأطباء والاطارات شبه الطبية والفنيين. كما أدت هذه السياسة الى تآكل المعدات والتجهيزات والى عدم تجديدها أو تعويضها مما أثر على جودة الخدمات العمومية في جميع المجالات ودفع الفئات الاجتماعية من الطبقة المتوسطة الى هجر المؤسسات العمومية التربوية والصحية في اتجاه القطاع الخاص الذي تحول الى سيف مسلط على ميزانية الأسر التونسية.

أما الفئات الاجتماعية الضعيفة فقد هجر أبناؤها مقاعد الدراسة وارتموا في أحضان الجهل كما استسلمت هذه الفئات الى المرض في ظل مستشفيات مهجورة من الأطباء والمعدات لتتباهى الأنظمة السياسية السابقة وحكومات ما بعد الثورة بنجاحاتها في الضغط على عجزميزانية الدولة على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للشعب التونسي.

2 - تحرير المبادلات التجارية مدخل لتدمير منظومة الإنتاج

يعود انفتاح الاقتصاد التونسي على الأسواق الخارجية في إطار اتفاقيات تجارية واقتصادية الى عهد الحماية في سنة 1881 تاريخ دخول الاستعمار الفرنسي الى تونس. ومنذ ذلك التاريخ بقيت علاقة تبعية الاقتصاد التونسي لفرنسا وللاتحاد الأوروبي خاضعة لمستجدات إقليمية وعالمية ذات العلاقة بتطور النظام التجاري متعدد الأطراف الذي قام عند انطلاقه على "الغات" أيام اتفاقية بريتون وودز التي أقرت انشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في سنة 1944، ثم المنظمة العالمية للتجارة التي تم انشاؤها في سنة 1995. 

هذه العلاقات التجارية لم تخضع يوما الى متطلبات الاقتصاد الوطني بل كانت مدرجة ضمن متطلبات التقسيم العالمي للعمل وحاجيات السوق الأوروبية تحديدا. وهو ما تجسد في جميع، ما يروج له، المفاوضات بين تونس من جهة، والمجموعة الاقتصادية سابقا والاتحاد الأوروبي حاليا من جهة ثانية حيث ترتكز، ما يسمى بالمفاوضات، على طلبات الجانب الأوروبي والفرنسي خاصة وما يتطلبه ذلك من الغاء وتنقيحات للقوانين الجارية وإقرار لقوانين جديدة ترمي الى مزيد تحرير الاستثمار والمبادلات التجارية بصفة تدريجية دون مراعاة هشاشة منظومة الإنتاج التي زادتها هذه الاتفاقيات هشاشة ولم تترك لها فرصة لتدعيم قدراتها الإنتاجية والتنافسية وأثر على قدرتها على خلق مواطن الشغل.

وتجدر الاشارة الى أن أول نظام تجاري جاء بين تونس وفرنسا كان بموجب القانون الفرنسي الصادر بتاريخ 20 مارس 1928 والذي أقر أول اتحاد ديواني تم بمقتضاه رفع المعاليم الجمركية أمام الواردات من فرنسا وجزء من الصادرات التونسية تجاه السوق الفرنسية.

وتعود جذور التعاون الاقتصادي أو بالتحديد التجاري بين تونس والمجموعة الاقتصادية الأوروبية الى معاهدة روما لسنة 1957 أو معاهدة "المجموعة الاقتصادية الأوروبية" التي اعتبرت الخطوة الأولى نحو تأسيس الاتحاد الأوروبي، والتي بمقتضى البند، الذي جاء تحت عنوان اعلان النية،الحاق البلدان المستقلة المنضوية تحت منطقة الفرنك الفرنسي على غرار تونس التي كانت مستعمرة من قبل فرنسا بمقتضى اتفاقية الحماية في سنة 1881، الى المجموعة الاقتصادية الأوروبية.

وفي هذا السياق التاريخي، تم الشروع في مفاوضات تجارية بين تونس التي تحصلت على استقلالها في سنة 1956، والمجموعة الاقتصادية الأوروبية منذ سنة 1963 لإبرام اتفاق تعاون اقتصادي وتجاري بالأساس. ورغم تعثر المفاوضات الا أنه تم التوصل الى اتفاق في سنة 1969 لم يكن مرضيا بالنسبة للطرف التونسي الذي كان يأمل في انجاز مخططاته التنموية على أساس استراتيجية افاق العشرية للتنمية التي كانت ترمي الى بناء منظومة انتاج متكاملة بين القطاعات الإنتاجية الثلاثة الفلاحة والصناعة والخدمات تخول لها الاستفادة من التبادل التجاري مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية.

وفي سنة 1976 تم ابرام اتفاق تجاري بين تونس والمجموعة الاقتصادية الأوروبية وهو اتفاق يتنزل في إطار رؤية أوروبية جديدة للتعاون المتوسطي تم إقرارها خلال قمة باريس المنعقدة في أكتوبر 1972 وهي “المقاربة المتوسطية الشاملة والمتوازنة” التي ظلت غامضة وغير واضحة المعالم والاهداف. وقد تزامنت هذه الاتفاقية مع تحرير الاستثمار في إطار قانون أفريل 1972 واستقطاب الاستثمارات الأجنبية الى تونس وخاصة الأوروبية والفرنسية وبعث مشاريع موجهة للتصدير تتمتع بامتيازات مالية وجبائية تعمقت بقانون عدد 18 لسنة 1976 مؤرخ في 21 جانفي 1976 يتعلق بمراجعة وتدوين التشريع الخاص بالصرف وبالتجارة الخارجية والمنظم للعلاقات بين البلاد التونسية والبلدان الأجنبية.

هذا القانون لم ينص على وضعية الشركات غير المقيمة بخصوص استرجاع مداخيل صادراتها ونص فقط على وضعية الشركات المقيمة التي كانت مطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها، وهو ما يعني أن الشركات غير المقيمة غير معنية باسترجاع مداخيل صادراتها.

ولئن يتم التسويق لهذا الخيار في إطار امتيازات استقطاب الاستثمار الأجنبي المعمول به في جميع البلدان بناء على أدبيات النظرية الاقتصادية الليبرالية، الا أنه أخل بحقوق الشعب التونسي في استفادة مخزون العملة الصعبة من مداخيل صادرات شركات انتصبت في تونس واستفادت من يد عاملة رخيصة ومن دعم المحروقات واعفاءات جبائية وجمركية ترجمت الى خسائر بالنسبة لميزانية الدولة على امتداد عقود.

وجاءت اتفاقية الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي في سنة 1995 في نفس السياق والتي كانت بعد الثورة محل انتقادات شديدة وعميقة من قبل عدد من الخبراء الاقتصاديين التونسيين الذين كشفوا عن تداعياتها الخطيرة على سيادتنا الوطنية حيث تقف وراء تدمير نسيجنا الاقتصادي وتدمير مواطن الشغل.

الجزء الرابع: اثبات الطابع الممنهج لانتهاك سياسات التقشف والانفتاح للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

لا يميز القضاء بين الانتهاكات والانتهاكات الجسيمة والممنهجة الا أن القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية في تونس اشترط أن يكون الانتهاك جسيما وممنهجا أو جسيما أو ممنهجا ليكون من أنظار هيئة الحقيقة والكرامة. وقد عرف الفصل 3 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 يتعلق بارساء العدالة الانتقالية وتنظيمها الانتهاك الجسيم والممنهج بأنه: "الانتهاك على معنى هذا القانون هو كل اعتداء جسيم أو ممنهج على حق من حقوق الانسان صادر عن أجهزة الدولة أو مجموعات أو أفراد تصرفوا باسمها أو تحت حمايتها وان لم تكن لهم الصفة أو الصلاحية التي تخول لهم ذلك. كما يشمل كل اعتداء جسيم وممنهج على حق من حقوق الانسان تقوم به مجموعات منظمة".

ومن هذا المنطلق وضعت اللجان والهيئات الدولية المعنية بحقوق الانسان عديد المعايير لتحديد ان كانت الانتهاكات جسيمة وممنهجة أو جسيمة أو ممنهجة الا أنه لا توجد معايير ثابتة تم التوافق عليها بصفة رسمية.

وفي تونس اعتبر قانون العدالة الانتقالية أنه يمكن وصف انتهاكات حقوق الانسان بالجسيمة إذاارتكبت بنية اضرار الفرد أو المجموعة من خلال انتهاك الحق في الحياة أو السلامة البدنية والجسدية أو أمن الفرد وحريته.

كما اعتبر القانون أنه يمكن وصف انتهاكات حقوق الانسان بالممنهجة إذا كانت جزءا من سياسة الدولة أو جزءا من مخطط وضعته الدولة يكون موجها ضد أفراد أو مجموعات معينة، يسمح بتكرار أو استمرارية الانتهاك أو اثاره في الزمن.

ومن هذا المنطلق سيعمل هذا البحث على اثبات أن انتهاك سياسات التقشف والانفتاح للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية هو انتهاك ممنهج وهو ما يسمح بوصف المواطن أو فئة أو الشعب التونسي بالضحية على معنى الفصل 10 من قانون العدالة الانتقالية للمرور في مرحلة ثانية الى معالجة هذه الانتهاكات حسب مقتضيات مسار العدالة الانتقالية.

وتجدر الإشارة الى أن حالات الانتحار التي شهدت في تونس ارتفاعا لأسباب تعود الى الفقر والخصاصة والبطالة هي نتيجة لسياسات التقشف التي أثرت على الحياة الاجتماعية للمواطن ودفعته الى الانتحار. ومن هذا المنطلق يمكن اثبات أن انتهاك الحق في الشغل والحق في الصحة هي انتهاكات جسيمة باعتبارها أدت الى الانتحار.

وسنقتصر في هذا البحث على اثبات أن سياسات التقشف والانفتاح تقف وراء انتهاكات الحق في الشغل والحق في التعليم والحق في الصحة خلال العقود الأخيرة، وهي انتهاكات ممنهجة تتحمل الدولة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة المسؤولية في ذلك بما يجعلها كلها تحمل صفة القائم بالانتهاك.

1- تكييف الانتهاك للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

استنادا الى معايير هيئة الحقيقة والكرامة يمكن تكييف انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بالانتهاكات الممنهجة إذا ارتكبت في إطار سياسة الدولة أو مخطط وضعته الدولة يكون موجها ضد أفراد أو مجموعات معينة لحرمانهم من الحصول على المرافق والخدمات يسمح بتكرار أو استمرارية الانتهاك أو استمرارية اثاره في الزمن.

وباعتبار أنه لا يمكن الحديث عن الطابع القصدي لسياسة الدولة الذي أدى الى انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية حيث أن السلطة لا تعلن بشكل واضح نيتها حرمان الأفراد من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والبيئية فانه يمكن اثبات الطابع الممنهج من خلال الممارسة المستمرة أو الإصرار على مواصلة اتباع نفس السياسة الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية رغم وجود مؤشرات على فشلها ووجود احتجاجات شعبية رافضة لهذه الخيارات والسياسات.
كما أن الطابع الممنهج يمكن اثباته من خلال تكرار نفس وصفة الإصلاحات من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إثر كل أزمة مديونية تمر بها تونس نتيجة وصفة سابقة وتتبناها الحكومات التي تأتي مع كل مرحلة اصلاح اقتصادي.

وفي تونس، وكما أشرنا سابقا، فان الأنظمة السياسية السابقة بما في ذلك حكومات ما بعد الثورة، أي الى حدود سنة 2013 باعتبار أن عهدة هيئة الحقيقة والكرامة تغطي الفترة الممتدة من جويلية 1955 الى ديسمبر 2013 ، لم تقطع مع منوال التنمية الذي جاء بعد افاق العشرية للتنمية (1962 – 1971 ) وهو منوال يقوم على الاستثمار الأجنبي وعلى تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي استجابة لشروط المؤسسات المالية الدولية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المتمثلة في اتباع سياسة التقشف من خلال اليات لم تتغير منذ ذلك التاريخ الى اليوم تتمثل في رفع الدعم على المواد الأساسية وتجميد الأجور وتجميد الانتدابات في القطاع العمومي والتفويت في المؤسسات العمومية ورفع كل أشكال الحماية وتحرير المبادلات التجارية حسب مقتضيات النظام التجاري متعدد الأطراف.

ورغم تدهور كل المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تؤكد فشل هذه السياسات وعدم قدرتها على الاستجابة لمتطلبات التنمية في تونس، وإعلان الشعب التونسي عن رفضه لهذه السياسات في محطات تاريخية مفصلية، استمرت الأنظمة السياسية السابقة وحكومات ما بعد الثورة في اتباع نفس السياسات بما عمق أكثر حالة المديونية التي تعتبر أحد أشكال انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للأجيال القادمة.

2- اثبات الطابع الممنهج لانتهاك سياسات التقشف للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

ان اثبات وجود الطابع الممنهج يفترض اتباع جملة من المعايير والمؤشرات للاستدلال عليه. ويجب على هذه المؤشرات أن تكون مرتبطة بالالتزامات المحمولة على الدولة والتي تتمثل في الالتزام بالحق، والالتزام بحمايته، والالتزام بالوفاء به كما نص على ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وقد توصلت هيئة الحقيقة والكرامة الى تحديد هذه المؤشرات في علاقة مع ملف الجهة الضحية والتي يمكن أن نعتمدها باعتبار أن ما تعانيه الجهات الضحية على معنى قانون العدالة الانتقالية مرتبط بخيارات اقتصادية واجتماعية فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتبنتها الأنظمة السابقة وحكومات بعد الثورة من جهة، وتستجيب من جهة أخرى لمتطلبات أحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة والتي تتجسد من خلال اتفاقيات الشراكة بين تونس والمجموعة الاقتصادية الأوروبية سابقا والاتحاد الأوروبي حاليا.

فالإصرار على اتباع سياسة التقشف، التي أدت الى تدهور المرفق العمومي واندثاره على غرار المستشفيات والمدارس مثلا، يبقى عملا ممنهجا وعدم القطع مع هذه السياسة أو الامتناع عن اتباع سياسة التقشف وإقرار سياسة تقوم على الاستثمار الوطني وتستجيب للأولويات التنموية يعد عملا ممنهجا.

كما أن اتباع سياسة الانفتاح في اطار اتفاقيات شراكة مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية سابقا والاتحاد الأوروبي حاليا والانخراط أكثر في سياسة الانفتاح مع كل حكومة جديدة يعد عملا ممنهجا باعتبار اثار هذا الانفتاح على منظومة الإنتاج التي تآكلت ودمرت بسبب التوريد المكثف وهو ما أدى الى تدمير مواطن الشغل، ورفض السلط السياسية القيام بدراسة تقييم لاتفاقية الشراكة بين الجمهورية التونسية والاتحاد الأوروبي في سنة 1995 قبل الدخول في مفاوضات حول مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق "الأليكا" هو محاولة للتنصل من المسؤولية والتي تكشف حقيقة هذه الاتفاقيات ومسؤوليتها في انتهاك حق الشغل للشباب التونسي الذي يتخرج سنويا من الجامعات ولا يجد مؤسسات تستوعبه.

لم يكن من المنطقي الاعتماد في عملية اثبات الطابع الممنهج لانتهاك الدولة التونسية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية للمواطن التونسي على نية الدولة في الحرمان من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لذلك اعتمدنا على مسألة الإصرار على اتباع نفس سياسة التقشف وسياسة الانفتاح وتحرير المبادلات التجارية المفروضة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة بعد كل حركات احجاج شعبية رافضة لهذه السياسات، وعلى اثبات مسؤولية مؤسسات بريتون وودز في انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للشعب التونسي.

ومن هذا المنطلق نستخلص أن وصفات صندوق النقد الدولي وبرامج البنك الدولي التي تقوم على التقشف، وأحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة التي تقوم على الانفتاح وتحرير المبادلات التجارية تحولت الى سياسات أدت الى تدمير المرفق العمومي، وتدمير المقدرة الشرائية، وتدميرمنظومة الإنتاج، وتدمير مواطن الشغل، وكلها أدت الى انتهاك حق المواطن التونسي في التعليم والصحة والشغل وفي بيئة سليمة وفي جميع حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية.

ولئن يمكن لهذه المؤسسات الدولية القول بأن سياساتها التي تقوم على التقشف وتحرير المبادلات التجارية حققت نتائج إيجابية في بعض الدول فان ذلك لا يعني تحقيقها لنفس النتائج في بلدان تشكو مديونية مرتفعة وهشاشة منظومتها الإنتاجية وضعف الدخل الفردي فضلا عن تفشي ظاهرة الفساد المالي والإداري.

2- 1 مظاهر اخلال الدولة لالتزاماتها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية

تعتبر الصحة والتعليم والتشغيل وكل مقومات العيش الكريم من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تقع على عاتق الدولة ومحمول عليها احترامها وفق المبادئ الثلاث المتمثلة في الالتزام بالحق وحمايته والوفاء به، وكل اخفاق للدولة في أداء هذه الالتزامات حسب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يشكل انتهاكا للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للمواطن، ومن هذا المنطلق فان الاستدلال على الطابع الممنهج للانتهاك تستوجب البحث عن مؤشرات إمكانية الوصول الى هذه الخدمات والانتفاع بها وليس فقط مؤشرات توفرها.

عدم احترام مبدأ الالتزام بالحق

يتجسد التزام الدولة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال تكفلها بتمتيع المواطن بهذه الحقوق بالتساوي ودون تمييز.

فمثلا يتجسد التزام الدولة بحق المواطن في التعليم من خلال توفير اعتمادات في ميزانية التنمية لوزارة التربية لبناء وصيانة المدارس والمعاهد تمكن جميع من هم في سن التمدرس في المدن والمناطق الداخلية بالتساوي ودون تمييز من الالتحاق بالمؤسسات التربوية.
كما يستوجب الالتزام بالحق في الصحة من الدولة اتباع سياسات تمكن المواطن من النفاذ الى المرافق الصحية والخدمات الصحية وذلك من خلال توفير الاعتمادات بميزانية وزارة الصحة لبناء وتجهيز المستشفيات.
كما يستوجب الالتزام بالحق في الشغل من الدولة تحقيق نسبة نمو للناتج المحلي الإجمالي مرتفعة بفضل سياسات قطاعية تعول على الاستثمار المحلي وعلى الاستجابة لحاجيات السوق المحلية لبعث المشاريع وخلق مواطن شغل.

• عدم احترام مبدأ الالتزام بحماية الحق

أما الالتزام بحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فيتجسد من خلال وضع تشريعات وقوانين تمنع أطرافا من التدخل في التمتع بالحقوق وانتهاكها.

فمثلا يتوجب الالتزام بحماية الحق في العمل على الدولة وضع قوانين تضمن الحد الأدنىللأجور وتعمل على حماية هذه القوانين من عدم التنفيذ أو التلاعب بها. كما يتوجب ذلك توفير التمويل البنكي للمؤسسات وبعث المشاريع بكلفة معقولة واتباع سياسة نقدية معقولة لا تثقل كاهل المؤسسة. كما أن العمل على التقليص في الضرائب يعتبر من الاليات التي تساعد المؤسسة الاقتصادية على الاستمرارية والديمومة للحفاظ على مواطن الشغل وخلق أخرى لاستيعاب الطلب الإضافي في سوق الشغل.

كما يتوجب الالتزام بحماية الحق في التعليم في وضع قوانين تمنع حرمان الأطفال من الالتحاق بالمدارس من ذلك إقرار مجانية التعليم، وتوفير الاعتمادات التي تغطي كتلة الأجور لحماية الاطار تربويعلى مواصلة مهمته في ظروف تحترم حقوقه.

ويتوجب الالتزام بحماية الحق في الصحة على الدولة توفير التجهيزات والإطار الطبي وشبه الطبي والفنيين من خلال توفير الاعتمادات التي تغطي كتلة الأجور.

• عدم احترام مبدأ الالتزام بالوفاء بالحق

أما التزام الدولة بالوفاء بالحق فيتجسد من خلال اتخاذها لتدابير وإقرار قوانين ترمي الى الاعمال الكامل للحق في الصحة أو الشغل أو التعليم.

فمثلا يتوجب التزام الدولة بالوفاء بالحق في التعليم اتخاذ إجراءات تضمن جودة الخدمات التربوية والتعليمية من ذلك تأمين الربط بشبكة الماء الصالح للشرب لتزويد المدارس والمعاهد العمومية بالماء الصالح للشرب.

ويتوجب التزام الدولة بالوفاء بالحق في الصحة توفير التغطية الاجتماعية لكل الفئات وخاصة الفئات ضعيفة الدخل ولذوي الحاجيات الخصوصية.

كما يتوجب التزام الدولة بالوفاء بالحق في العمل السعي الى الغاء جميع أشكال العمل الهش في البلاد مثل عملة الحضائر والمناولة وإقرار الإجراءات الحمائية الظرفية التي أقرها الفصل 13 من اتفاقية الشراكة لسنة 1995 مع الاتحاد الأوروبي وأحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة لضمان ديمومة المؤسسة ومواصلة نشاطها المهدد بالتوريد المكثف الذي أدى الى افلاس الاف الشركات والمصانع والأنشطة الخدماتية في البلاد منذ سبعينات القرن الماضي الى اليوم، وهو ما أدى الى تفاقم ظاهرة الهجرة غير النظامية وتحول حوض البحر الأبيض المتوسط الى مقبرة لشباب تونس وأطفال تونس.

تدهور المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية المسجلة منذ سبعينات القرن الماضي الى اليوم تكشف حقيقة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي تبنتها الأنظمة السياسية السابقة للثورة واستمرت في اتباعها حكومات ما بعد الثورة والتي تقوم على سياسة التقشف ومزيد الانفتاح على الأسواق الخارجية.

كما تكشف هذه المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية اخفاق الدولة التونسية في احترام الالتزامات المحمولة عليها في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية من خلال الالتزام بالحق، وحماية الحق، والوفاء بالحق تجاه الشعب التونسي.

في الجزء الموالي سنحاول تسليط الأضواء على بعض هذه المؤشرات التي جاءت لتترجم تداعيات سياسات التقشف وتحرير المبادلات التجارية التي أثبتنا طابعها الممنهج لانتهاكاتها للحقوقللانتهاكات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للشعب التونسي، وتحميل كل الحكومات مسؤوليتها في الاخلال بالتزاماتها ووراءها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة والاتحاد الأوروبي.

2– 2 مؤشرات تروي قصة تفقير شعب وانتهاك حقوقه الاقتصادية والاجتماعية

تعرض التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة في الجزء الرابع المتعلق بجبر الضرر وبناء على ملفات الجهات الضحية الى بعض المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية ذات العلاقة بانتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية لفئات من الشعب التونسي.

كما تعرض الخبراء الاقتصاديون الذين أودعوا ملفات بعنوان انتهاك سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واتفاقية الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي لسنة 1995 للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب التونسي الى مؤشرات أخرى عكست اثار هذه السياسات على الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمالي في تونس.

ولئن نعتبر أن اثار انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية متداخلة ومترابطة ومتكاملة فيما بينها، الا انه بالإمكان الاحتكام الى مؤشرات قطاعية مثل مؤشرات القطاع الصحي ومؤشرات فطاع التعليم والبيئة وغيرها، الى جانب الاحتكام الى مؤشرات أخرى مرتبطة بالاقتصاد الكلي مثل نسبة البطالة ونسبة الفقر والتضخم والتوازنات المالية الداخلية المرتبطة بعجز ميزانية الدولة والخارجية المرتبطة بعجز  الميزان التجاري للاستدلال على نتائج الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية التي تضمنتها مخططات التنمية الاقتصادية والتي تترجمها سنويا ميزانية الدولة وقانون المالية والتي تعتمد كلها على املاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي بالشق المرتبط بالانفتاح على الخارج حيث كشفنا  في هذا البحثحرص الجهات الخارجية على منطق "استمرارية الدولة" الذي جسدته كل السياسات. فرغم رفض الشعب التونسي والمنظمات النقابية لهذه الخيارات في محطات تاريخية معينة الا أنه لم يتم القطع مع منوال التنمية الذي تم اقراره في سبعينات القرن الماضي بل هناك إصرار في حكومة الشاهد على إعادة انتاج اليات فاشلة مثل قانون أفريل 1972 أدت الى تدمير النسيج الصناعي وتدمير مواطن الشغل.

• مؤشرات قطاعية

أدت سياسة التقشف التي اعتمدتها كل الحكومات التونسية منذ سبعينات القرن الماضي الى اليوم ما بعد الثورة وترجمتها ميزانية الدولة وقانون المالية لكل سنة إدارية، باستثناء بعض الميزانيات التي اعتمدت سياسات توسعية لم تحقق النتائج المنتظرة وسرعان ما عادت الحكوماتالى سياسة التقشف المشروطة بقروض خارجية، أدت الى تقليص الاعتمادات الموجهة للوزارات ذات البعد الاجتماعي وهي الصحة والتعليم والنقل. كما أدت الى تقليص اعتمادات الدعم وكتلة الأجور من خلال تجميد الانتدابات وتجميد الأجور في القطاع العمومي والوظيفة العمومية.

- القطاع الصحي

ففي القطاع الصحي لم تشهد منشئات الصحة العمومية أي تطور منذ سبعينات القرن الماضي، ويتجلى ذلك من خلال النقص في أطباء الاختصاص وعدم انجاز المشاريع المبرمجة وتعطل بعضها الأخر في كامل الجمهورية من ذلك افتقار المستشفيات لأقسام التوليد والكسور فضلا عن افتقارها للتجهيزات والآلات الطبية. كما تشكو هذه المنشات من نقص في الأدوية بلغ درجة العجز عن توفيرها.

تدهور مرافق الصحة العمومية أدى الى تفاقم مؤشرات كنا نعتقد أن تونس بعد الاستقلال ستقضي عليها مثل نسبة وفيات الرضع ونسبة وفيات النساء عند الولادة التي بقيت مرتفعة.

في نفس السياق تعكس مؤشرات أخرى خطورة وضع الأطفال في تونس الذين يمثلون ثلث السكانحيث يعيش ربعهم في عائلات فقيرة. وتشير الاحصائيات الرسمية الى أن الأطفال في العمر الأول (0 – 23 شهرا) يعانون هشاشة الوضع الغذائي والوضع الصحي، كما أنهم لم يشهدوا متابعة صحية قبل الولادة، و14 بالمائة منهم لم يقع احترام روزنامة تلاقيحهم. كما أن 33.5 بالمائة منهم يجدون صعوبة في النفاذ الى الخدمات الصحية.

- قطاع التعليم

تشير احصائيات رسمية عن تدهور البنية التحتية في قطاع التربية والتعليم نتيجة تراجع الاعتمادات المخصصة لميزانية وزارتي التربية والتعليم العالي منذ سبعينات القرن الماضي الى اليوم نتيجة اتباع سياسة التقشف التي ترجمتها ميزانيات الدولة وقوانين المالية. وقد تسبب هذا التوجه التقشفي في تدهور الوضعية المالية للإطار التربوي بمستوياته الثلاث الاعدادي والثانوي والعالي وغياب التجهيزات وغياب الصيانة بالمؤسسات العمومية وغياب خدمات الصرف الصحي مما انعكس سلبا على صحة التلاميذ الذين أصيبوا بمرض التهاب الكبد الفيروسي صنف أ والجرب وأمراض جلدية أخرى.

من المؤشرات التي تترجم انتهاك الحق في التعليم نجد الانقطاع المدرسي الذي تحول في تونس الى ظاهرة في تنامي منذ سبعينات القرن الماضي الى اليوم حيث ارتفع من 26 ألف منقطع في السنة الدراسية 1984 – 1985 الى 57 ألف في السنة الدراسية 1994 – 1995 والى حوالي 127 ألف في السنة الدراسية 2004 – 2005 لتستقر في مستوى 100 ألف منقطع في سنوات بعد الثورة ويبلغ العدد 107 الاف في السنة الدراسية 2012 – 2013 وهو ما يمثل 12 بالمائة من جملة التلاميذ المرسمين.

• مؤشرات الاقتصاد الكلي

تقف سياسة الانفتاح التي اتبعتها تونس منذ سبعينات القرن الماضي وتدعمت بعد اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في سنة 1995 وراء ارتفاع نسبة البطالة وتفاقم ظاهرة الهجرة غير النظامية.

ولئن استقرت نسبة البطالة في مستوى 15 بالمائة كمعدل وطني لتصل هذه النسبة في صفوف حاملي الشهائد الجامعية العليا 25 بالمائة فإنها تصل في بعض الجهات مستوى 40.2 بالمائة مثلسيدي بوزيد التي صنفت في أخر الترتيب الجهوي. ويتراوح عدد العاطلين عن العمل في تونس فيما بين 800 ألف ومليون شخص.

وبخصوص الهجرة غير النظامية وحسب احصائيات وزارة الداخلية مثلت سنة 2011 السنة الأبرز في عدد المجتازين الذين تم ايقافهم في إطار موجة الهجرة غير النظامية التي عرقتها تونس في اعقاب اندلاع الثورة. وقد أعلنت وزارة الخارجية ان عدد الوافدين المسجلين لدى السلطات الإيطالية تصل الى 22 ألفا في حين قدّر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عددهم في تلك الفترة بأكثر من 35 ألفا دون اعتبار القتلى والمفقودين.
وفي نهاية الأسبوع المتزامن مع الدور الأول من الانتخابات الرئاسية في شهر أكتوبر 2019 تماحباط عشر محاولات هجرة غير نظامية في المياه الدولية التونسية كما تم تسجيل عدد من الغرقى أدى الى وفاة 6 أشخاص وفقدان 8 آخرين.

لقد كشفت التجربة التونسية أن تحرير المبادلات التجارية لم يستفد منها الاقتصاد التونسي باعتبار هشاشة القطاعات الاقتصادية وارتفاع كلفة الاستثمار التي حالت دون بعث المشاريع وتدعيم الإنتاج ليبقى التصدير مقتصرا على زيت الزيتون والتمور والفسفاط. كما تسبب التوريد المكثف في تدمير المؤسسات والشركات العاجزة على المنافسة.

وحسب دراستين الاولى قام بها البنك الدولي والمعهد الوطني للإحصاء صدرت في سنة 2012 وشملت المدة بين 1996 و2010 بينت أن تونس فقدت 10 آلاف مؤسسة صناعية، وهو ما يمثل 55 بالمائة من النسيج الصناعي الوطني، أدت إلى فقدان 400 ألف موطن شغل قار، والثانية قامت بها وكالة النهوض بالصناعة وصدرت في جوان 2017 بينت أنه في المدة بين 2005 و2015 فقدتتونس 4319 مؤسسة صناعية مما أدى إلى فقدان 255 ألف موطن شغل قار.

كما تسببت سياسة الانفتاح في تنامي ظاهرة الهجرة غير النظامية حيث أجمعت كل التقارير الدولية على أن البحر الأبيض المتوسط أصبح الطريق الأكثر خطورة بالنسبة للشباب والعائلات للخلاص من الفقر والخصاصة والبطالة والتهميش والاقصاء.

3- تواصل سياسات التفقير والتدمير 

تحولت ميزانية الدولة في تونس باعتمادها لسياسة التقشف الى أداة لتفقير الشعب. كما تحولت سياسة تحرير التجارة الخارجية الى أداة لتدمير منظومة الإنتاج وتدمير مواطن الشغل.

ولئن تروج أدبيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة الى مزايا سياسات التقشف ومزايا تحرير التجارة الدولية على النمو الاقتصادي وخلق الثروة وخلق مواطن الشغل، فانالسلط التونسية مدعوة اليوم الى اثبات ذلك في ظل تنامي حركات الاحتجاج التي غزت البلاد من الشمال الى الجنوب مطالبة بحق المواطن التونسي في العمل وحقه في الصحة وحقه في التعليم وفي بيئة سليمة...

تقارير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الشهرية والسنوية كشفت تطور منسوب الاحتجاجات الاجتماعية في كل مناطق الجمهورية التونسية في السنوات الأخيرة من 4960 في سنة 2015 الى 9532 احتجاجا في سنة 2016. وعرفت فترة حكومة يوسف الشاهد 2016 – 2019 تنامي هذه الاحتجاجات في جميع القطاعات التعليم والصحة والتشغيل والماء والنقل...

وتعود أزمة التعليم الى رفض الإطار التربوي التفويت في المدرسة العمومية، والمطالبة بتحسين أجور المربين ومكانتهم داخل المؤسسة التربوية.

وتعود أزمة التشغيل الى المطالبة بالتشغيل وفتح الانتدابات في الوظيفة العمومية وتوفير التمويل بشروط ميسرة. وتقف هذه الوضعية وراء الهجرة غير النظامية لدى فئات واسعة من الشباب حيث أعرب 67 بالمائة من الراغبين في الهجرة أن سبب تفكيرهم في الهجرة يعود الى أسباب اقتصادية والاحساس بأنهم خارج برامج الدولة ومنظومتها التعليمية والتكوينية وبرامجها التعليمية وسياساتها العمومية بصفة عامة.

كما تركزت مطالب المحتجين في المجال الصحي على توفير التجهيزات والإطار الطبي المختص. وقد أدى غياب التجهيزات الصحية والإهمال داخل المراكز الطبية الى موت مجموعة من الولدان وهو ما أصبح يعرف بقضية الولدان والكرذونة إشارة الى ما قامت به المستشفيات من انتهاك لحرمة الولدان وارجاعهم الى أولياهم في صناديق كرذونية.

طالبت أيضا هذه الاحتجاجات بمعالجة ملف التلوث حيث تركزت الاحتجاجات في ولايات صفاقس وقابس وقفصة باعتبار تركز المؤسسات الصناعية الملوثة للبيئة في مناطق تشكو غياب المستشفيات والتجهيزات لمعالجة أمراض الأورام الخبيثة.

وفي السنوات الأخيرة مثل العطش مطلبا رئيسيا للحركات الاحتجاجية المطالبة بالحق في الماء الصالح للشرب. ففي شهر ماي 2019 شهدت عديد المناطق تحركات واسعة رفضا للعطش من ذلك إطلاق حملة "قفصة عطشانة" التي تحولت الى حركة احتجاجية نفذها نشطاء ومواطنون أمام مقر الولاية طلبا لكف العطش في مناطق عديدة وخاصة مناطق الحوض المنجمي.

ويفوق معدل انقطاع مياه الشرب في الكثير من المناطق الأسبوع وأكثر. ولئن بلغت نسبة الربط بالشبكة في سنة 2017 حوالي 84.5 يالمائة ونسبة التزود وطنيا 97.9 بالمائة فان تحركات الاحتجاج لا تشمل 2.1 بالمائة الذين لا تشملهم خدمات الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه ولكن تشمل حرفاء هذه الشركة الوطنية الذين أصبحوا يعنون من الانقطاع المفاجئ للماء دون اعلان مسبق.

وينتظر أن تشهد أزمة العطش في تونس السنة المقبلة احتجاجات أوسع إذا أقدمت الحكومة الجديدة على تمرير مشروع مجلة الماء في صيغته الحالية الرامية الى تحرير الخدمات المائية بمقتضى التزام تونس بتحرير قطاع الخدمات في إطار مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق "الأليكا" مع الاتحاد الأوروبي.
واذا ما واصلت الحكومة الجديدة في اعتماد سياسة التقشف والانفتاح فسيكون ذلك مؤشرا على حدوث هزات اجتماعية خطيرة وواسعة.

التوصيات: العودة الى الدولة الوطنية

1- توصيات عامة

أدت سياسة التقشف المتبعة من قبل الحكومات التونسية منذ سبعينات القرن الماضي الى اليومالى تفكيك الدولة الوطنية واضعافها من خلال ضرب المرفق العمومي والخدمات العمومية التي تعتبر أحد اليات سياسة إعادة توزيع الثروة. ومن هذا المنطلق نوصي بإعادة الاعتبار للدور الاقتصادي للدولة والعمل على تطهير المؤسسات العمومية ومراجعة طريقة تسييرها.

كما أدت سياسة التقشف الى تفاقم المديونية الخارجية من 25.5 مليار دينار في سنة 2010 الى 41.1 مليار دينار في سنة 2014 الى 78.4 مليار دينار في سنة 2018.

ويعتبر صندوق النقد الدولي من أهم المقرضين لتونس الى جانب البنك الدولي ومؤسسات مالية إسلامية وافريقية.

وباعتبار ضغط المديونية على ميزانية الدولة حيث تمثل خدمة الدين 23 بالمائة من حجم ميزانية الدولة في سنة 2018، وباعتبار ضعف النمو الاقتصادي وتعطل المشاريع العمومية في غياب الاعتمادات الضرورية، وباعتبار حالة الفساد التي عمت كل المجالات خلال فترة النظام السابق، فإننا نوصي:

الحكومة التونسية الجديدة بالقيام بعملية تدقيق للمديونية على مدى الثلاثين سنة الماضية.
تباعا لما ستفضي إليه عملية التدقيق يمكن المطالبة بفتح مفاوضات بين الجانب التونسي والمؤسسات المالية الدولية و الإقليمية (الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى) يتم بمقتضاها المطالبة بإلغاء الديون الكريهة التي يثبت التدقيق أنها لم تستعمل لصالح الشعب التونسي في علاقة بتهرب رؤوس الأموال إلى الخارج التي أثبتته دراسات "معهد الدراسات السياسية و الاقتصادية" "PERI " التابع لجامعة "مسسوستش" الأمريكية. كما يمكن المطالبة بإعادة جدولة الديون الجديدة مع تأجيل دفع أقساط التسديد لمدة خمس سنوات حتى يتسنى للدولة إمكانية تنفيذ المخطط الخماسي الثاني للتنمية بعد الثورة 2020 – 2024 دون توظيف فوائد على مدة التأجيل.

مع التذكير أن هذه التوصيات تنسجم مع ما جاء في الرسالة المفتوحة التي نشرها ثلاثة خبراء من داخل صندوق النقد الدولي بتاريخ فيفري 2016 والذين انتقدوا بمقتضاها سياسات التقشف عبر المطالبة الشديدة بضرورة الضغط على ميزانيات الدول والتي أدت حسب ما جاء في فحوى الرسالة الموجهة إلى المديرة العامة إلى تعميق التفاوت بين فئات المجتمع وتفقر الطبقة الوسطى. كما أدت إلى تقليص نسب النمو والزيادة في نسبة البطالة. 

2- توصيات مرتبطة بقانون العدالة الانتقالية

أثبت هذا البحث أن سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وأحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة التي انخرطت فيها الحكومات التونسية تقف وراء انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب التونسي الذي تحول الى ضحية على معنى الفصل 10 من قانون العدالة الانتقالية. وبناء على ذلك نوصي بمواصلة البحث في الموضوع من أجل الانخراط في مسار العدالة الانتقالية الذي يفترض كشف الحقيقة ومساءلة المسؤولين عن هذه السياسات ووضع برنامج شامل لجبر ضرر الشعب التونسي ووضع محاذير وقوانين من أجل عدم تكرار الانتهاكات وضمان القطع مع منوال تنمية يقوم على الانفتاح المطلق والتحرير المطلق وعلى سياسة التقشف.

وفي هذا السياق نعتبر أن العدالة التغييرية التي تمت بلورة مفهومها في لجنة المرأة التابعة لهيئة الحقيقة والكرامة الية لضمان استمرارية مسار العدالة الانتقالية في السياسات والخيارات الاقتصادية والاجتماعية.

وقد تم تعريف العدالة التغييرية في لجنة المرأة على أنها "العدالة التغييرية هو مسار يقوم على استمرارية واستكمال مسار العدالة الانتقالية بما يؤمن انصاف ضحايا الانتهاكات الجسيمة والممنهجة من قبل الدولة وأجهزتها وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية من خلال المساهمة في التأسيس لأرضية تغيير النظام السياسي من جهة، وتغيير أو مراجعة السياسات والخيارات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد من جهة ثانية، من خلال ادماج مقاربة جبر الضرر التغييري في هذه الخيارات والسياسات.

والمقصود بجير الضرر التغييري هي كل الإجراءات والقوانين والسياسات التي تستند الى منظومة جبر الضرر المنصوص عليها بالفصول 11 و12 و14 من القانون الأساسي للعدالة الانتقالية في سياقها الديناميكي المستدام.

جنّات بن عبد الله

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.