خديجة توفيق معلَّى: نحو الخروج من خندق القبلية الحزبية
لو نُقَرِّرُ أن نُراجِع مع بعضنا البعض تطور المجتمعات من خلال إطارعجلة ديناميات النمو، فسوف نُلاحظ أنه على مدار السنين منذ الإستقلال، وخاصة بعد التغيير الذي حصل في شتاء 2011، لم تنجح النخبة المثقفة، بكل ثراء تنوعها، في الأخذ بيد أغلبية شعبنا للخروج من مستوى القبلية، والإرتقاء إلى مستوى الدولة الحديثة، وتجسيد مبادىء الحقوق والحريات الإنسانية ولم لا، الوصول بوعي شعبنا إلى مستوى الكونية.
إن ما نشاهده اليوم في تونس، يتلخص في أن المكونات السياسية، على إختلافها، مازالت تُصركلَّ يوم على إرجاعنا إلى خندق قبلية حزبية بشعة ومقيتة، وإغراقنا فيه. فأصبح المشهد يتسم بطابع كفكاويٍ، هو عبارة عن غرف سوداء، ذات جدران سميكة، مُغلقة على مَن فيها، بحيث يستحيل على أي فرد منهم ومنهن، الإنصات لمن، ولما، يكون في الخارج أو المشاهدة، إلاَّ من ثقب الباب. فتأتي الصورة هكذا مجزوءةً، ويصل الصوت مُشَوَشاً، بما إنهما وصلا من ثقب الباب الضيق!
وهذا الحال أدَّى بالأغلبية إلى الدخول في صراع مُحتدم، يقوم على تفاسير خانقة للواقع، مادام الجميع متخندقا وراء باب غرفةِ حِزبِهِ، إما مُكابرة أو غباء، وفي أكثر الأحيان إنتهازية وطمعًا في كرسي سلطة مهما كان نوعه... وأصبحت، هكذا، سِمَةُ هذا المشهد تتمثل في الغلبة لمن يصرخ أكثر ويتلفظ بكل البذاءات ويُقِلُ من إحترامه لشعب وقف صامتا، مذهولاً من روع ما يرى ويسمع يوميا وراء شاشات تلفازه أو حاسوبه أو هاتفه! أشباه المثقفين هؤلاء يقدمون لنا مستوى مزريا من الضحالة الفكرية والأخلاقية التي أصبح يُمثلها معظم الجالسين على كراسي أية سلطة كانت، من كرسي معتمدٍ إلى كرسي رئيس برلمان، أو حكومة أو جمهورية، وكما قال الشاعر العملاق مظفر نواب: "لا أستثني أحدأ"!
لكل هذا، فأنا أرفض الإنزلاق في نفس خندق هذه المُكونات السياسية، لأنني لا أريد أن أحصر نفسي وأَحجِرَ على تفكيري وألجم لساني وأقزِّم مساحة وعيي، في إطار الجدل الحالي حول التهديدات التي طالت النائبة عبير موسي ثم النائب زهير المغزاوي، بقطع النظر عن إنتماءاتهما الحزبية. وأن أُجبَرَ على أن أختار بين فريق المناصرين أو المعارضين أو اللامَعنِيين بهذا الجدل العقيم. فقط الوطنيون المؤمنون بالمبادىء والقيم، التي هي غير قابلة للتمييز وللتقسيم، هم مَن لم يترددوا في التشهير بمحترفي العنف وفي الوقوف إلى جانب ضحاياه !
فالمبدأ واضح، إتفق ويتفق عليه كل الوطنيين الأحرار: العنف مرفوض جملة وتفصيلا، مهما كان مأتاه ومهما كانت الجهة أو الشخص المستَهدِفُ أوالمستَهدَفُ! وهذا المبدأ يرقى إلى مرتبة المبادىء الأساسية التي تَقُوم عليها الدولة الحديثة بما يَمنحها شرعية إحتكار إستعمال القوة لوحدها، عند الحاجة، وبالحق وبالعدل، بما يضمن عيش كل المواطنيين، والمواطنات، في كنف الأمن والأمان والسلم والسلام. وتمتد هذه الحماية إلى أي شخص يعيش على أرض هذه الدولة سواء كان مهاجراً، لاجئاً أو سائحاً، واجبا وليس مِنَّة!
ولستُ الأولى التي تُعلن صراحة رفضها القطعي لأي تهديد، والذي أعتبره شخصيا، من أبشع أنواع العنف. فيام علَا صوت المناضل شكري بلعيد وتحذيراته من "الإنزلاق إلى مربع العنف"، لأنه كان يعرف أنه سوف يجرنا حتما إلى مستنقع لا قاع له. وأمثلة الدول الصديقة والشقيقة أمامنا كل يوم، ونحن نكتوي بنفس الحرقة والألم لمشاهدة ما يجري فيها من عنف يُسلط على شعبها الأعزل!
ولأنه كان مناضلا ووطنيا حقيقياً، ذا بصيرة نافذة ورؤية ثاقبة، أُغتيل الشهيد الرمز بطريقة وحشية، ظنا من مُجرميه أنه سوف يبقى عبرة لمن يعتبر! لكن شعبنا الأبي خيَّب ظنهم، وأتت إجابته مدوية كالرعد، حين زئر وبأعلى حناجره، حين توديع الشهيد: "شكري حي"! وها أنا بدوري، وللمرة الألف أعيدها لمجرميه: شكري حي في كل وطني حر يأبى إستعباد الظلاميين المرتزقة، الذين يتاجرون بقوت شعبنا الذي يمهل ولا يهمل!
وبالرجوع لقضية التهديد الذي تعرضت له النائبة عبير موسي والنائب زهير المغزاوي، أرى أمامنا حلَّين، لا ثالث لهما:
1- إما إعتبار أننا نعيش في دولة تؤمن بعُلوية القانون وإستقلال القضاء، وبالتالي من واجب ودور وزارة الداخلية الكشف اليوم، وليس غدا، عن الجهة التي هددت وعن الإجراءات التي إتخذتها ضد هذه الجهة. ومن ناحية أخرى، على القضاء، وتباعا لبلاغ وزارة الداخلية، تحريك الدعوى ضد الجهة المشتبه بها، وإخبار الشعب التونسي بكل شفافية عن تفاصيل القضية، لأنها قضية تهدد الأمن القومي، مثل كل القضايا التي لم يُبت فيها هذه السنين الطويلة، من إغتيالات واضحة أو مَخفِية، فعلى القضاء أن يبرهن عن إستقلاليته، وشفافية ونزاهة أحكامه، اليوم وليس غدا!
2- أوالإعتراف أننا شبه دولة، وأننا لانملك من مقوماتها إلا الإسم وأشباه مؤسسات. وأن نُقِرَّ بأن المسار الديمقراطي مزحة سخيفة لا تُضحك إلاّ الأغبياء، وأن أي شخص ساهم أو يساهم في خطة سياسية مهما كان نوعها، فهو يساهم في مسرحية سوداء وجريمة تُحاك ضد شعب أعزل...
في الختام، لدي تساؤل أريد أن أطرحه كي نُفكر فيه معاً:
لماذا في هذا الظرف بالذات عادت هذه التهديدات بالقتل وأُثير هذا الجدل حولها ؟؟ ومن المستفيد من إلهاء الشعب التونسي بها وإجباره على الإنزلاق في خندق المناصرين أو المعارضين، وإتهام كل من لم يأخذ موقفا أنه خائن للوطن؟
لو رفعنا رأسنا من شرفة بيتنا وألقينا نظرة على ما يحدث في بيت جيراننا، لإكتشفنا الصراع المحتدم والجدل الإقليمي والدولي حول أهمية أن يبقى الصراع الليبي خالياً من أي تدخل أجنبي مهما كان نوعه وتبريراته، وبين الفريق الذي ينادي بل ويساهم في فرض هذا التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدولة الشقيقة.
المتمعن في المشهد سوف يلاحظ الشراكة المريبة بين ممثلي الإسلام السياسي في تونس وفي ليبيا، والتي تسعى لتسهيل الدخول التركي بعتاده وجحافل مرتزقته.
والتساؤل المطروح: أليس من حقنا، والحال على ماهو عليه، أن نربط أي حدث يُلهي الشعب التونسي، بغاية التغطية على ما يحاك بليل ضد الشعب الليبي؟؟ وهو ما سيكون له تداعيات وخيمة على الشعب التونسي، آجلا أم عاجلا !!.
خديجة توفيق معلَّى
- اكتب تعليق
- تعليق