أخبار - 2020.05.16

فوزيّة بلحاج المزّي: في انتظار اللّقاح ضدّ الكورونا... مسكّنات الثّقافة الافتراضيّة

فوزيّة بلحاج المزّي: في انتظار اللّقاح ضدّ الكورونا... مسكّنات الثّقافة الافتراضيّة

عندما  أطلّ فيروس كورونا الجديد في غروب شمس 2019، كان العالم منشغلا عن بوادر الكارثة بالاستعداد لاستقبال السّنة الجديدة.

وفي تونس، تزامن الحدث مع المدّ والجزر في المحاولة الثّانية لتشكيل الحكومة.

شهران انقضيا ولم يكن أحد يتوقّع المدى الذي اتّخذه زحف الوباء ليصبح جائحة عالميّة حصدت أكثر من مائتي ألف من الأرواح في العالم ومسّت قرابة المليونين، تعافى منهم النّزر القليل ولم يثبت إلى اليوم إن كان الخطر زال عنهم نهائيّا أو أنّه بقي متربّصا بهم ، فالوباء كما قاربه أهل الذّكر من أخصّائيّين، لا يستقرّ على حال من الوضوح ولم يفصح بعد عن خاصّيّات تمكّنهم من التّعامل معه بالدّقّة المستوجبة.

هذا ما توصّل إليه التّقصّي العلمي لانتشار الفيروس والذي لا يزال محلّ تنقيح وتعديل، وفقا لتطوّرات انتشاره. ولكنّ مروره على مدى الأشهر الأربعة ومنذ بداية السّنة الجديدة، سيكون خلّف بعد، آثارا من الصّعب أن تمّحي، لا سيّما اقتصاديا...

لوحة سوداء استهلّت بها تونس سنة كانت صعوباتها متوقّعة ولكن ليس للحدّ الذي بلغته بسبب الوباء الوافد.

وكان أوّل قرار لوزيرة الشّؤون الثّقافيّة الجديدة أن ألغت كلّ التّظاهرات الثّقافيّة والعروض الفنّيّة الجامعة للجمهور.

قرار صائب بالفعل إذ أنّه يستهدف ضمان سلامة العاملين في القطاع الثّقافي وسلامة الرّوّاد. وقد كان ربّما من المفروض أن تصاحب هذا القرار تدابير موازية تطرح بدائل للفراغ الذي أحدثه إلغاء التّظاهرات الثّقافيّة. فكما أنّ الطّبيعة تأبى الفراغ، فإنّ الفعل الثّقافي لا يحتمل أن يُقمع مهما كانت مبرّرات إخماده، حتّى ولو كان الأمر متعلّقا بوباء في حجم الجائحة العاصفة بكلّ أصقاع العالم.

البدائل جاءت من صلب شبكات التّواصل الاجتماعي التي ما إن أعلن عن إقرار الحجر الصّحّي العام  حتّى انطلقت التّعبيرات تؤثّث الفضاء الافتراضي في علاقة تلقّ يستثني الحضور المادّي ليحدث علاقة افتراضيّة تقتصر على البعد المشهدي دون امتداداته الحسّية التي تفترضها علاقة التلقّي والإدراك التي يتشكّل حولها ذكاء العرض وجوهره وحيويّته.

حتّى أنّ بعض العروض الكوريغرافيّة التي راجت على صفحات الفايسبوك انزلقت في سياقات نفسانيّة اجتماعيّة إذ أدرجت المتلقّين في علاقة مرضيّة وخلقت تأزّما في العلاقات صلب العائلة التي أصبحت بموجب الحجر الصّحّي الشّامل، في وضع يخيّم عليه الكبت والاعتزال والرّيبة والتّوجّس البينيّ لدى أفراد العائلة الواحدة.
بادرة أخرى، انطلقت في الفضاء الافتراضي وتمثّلت في برمجة بعض العروض المسرحيّة المسجّلة بالفيديو وتبعتها نقاشات على الشّبكة. ولكنّ البادرة لم تحظ بالإقبال المناسب نظرا إلى طبيعة العرض المسرحي الذي يفترض علاقة حيّة بين الرّكح والقاعة.

ولعلّ من أكثر المبادرات الافتراضيّة تأثيرا  تلك التي حاولت أن توثّق للثّقافة عن طريق صور لمثقّفين ومبدعين في صلب التّظاهرات الثّقافيّة والفنّيّة والتي يرجع البعض منها إلى سبعينيّات القرن الماضي.

مقارنة بالبدائل الثّقافيّة التي مارستها المجتمعات الأوروبيّة مثلا، نلاحظ أنّ في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وهي مجتمعات نتقاسم وإيّاها بعض السّمات المتوسّطيّة، استنبط الأجوار صيغا للتّنشيط الثّقافي والتّعبير الفنّي بأن تواعدوا في أوقات محدّدة وتقاسموا، عبر شرفات شققهم، حصصا تنشيطية من فقراتها معزوفات وعرض أدوار مسرحيّة من الآثار العالميّة ومسابقات في الثّقافة العامّة إلى غير ذلك من المبادرات الطّريفة التي حافظت على علاقة التّلقّي الحيّة التي لا يستوي العرض الفنّي بدونها.

على أنّه بالرّغم من التّشابه بين الثّقافتين في ضفّتي المتوسّط، تبقى فروقات هامّة في الخلفيّة الذّهنيّة والاجتماعيّة بينهما. فالمجتمعات الأوروبّيّة تتوفّر على حسّ مدنيّ متطوّر وعلى حضور متميّز للمجتمع المدني كما أنّ علاقة هذه المجتمعات بالفضاء الافتراضي سليل النّظام العالمي الجديد والمعروف بالعولمة، يتحصّن بالاستثناء الثّقافي ويحذّر بشدّة من الذّوبان في فكرة "النّكرة" أو التّنميط الثّقافي الذي كرّسه هذا النّظام العالمي والذي يبدو أنّ ما بعد الكورونا ستطرأ  عليه متغيّرات  بدأت تلوح سماتها من خلال الهزّات التي تشهدها اليوم قيمة الصّحّة وعلاقتها بالبيئة والمنظومة الاستهلاكيّة للمجتمع الكونيّ.

مسألة أخرى على قدر من الأهمّيّة ستتصدّر حتما منصّات التّفكير والنّقاش في مستقبل الأيّام وهي مسالة وضع الفاعلين الثّقافيّين في المشهد الاقتصادي.

لقد طرحت في مناسبات عديدة قضايا إدراج الثّقافة في الدّورة الاقتصاديّة والحدّ من تهميش المثقّف لتأصيل دوره في المجتمع وتكريس قيمة الاحتراف والجودة ضمانا لمردوديّة الفعل الثّقافي وتسويقه، إلاّ أنّ الطّرح لم يفعّل على مستوى التّخطيط البنيوي الفوقي والتّحتي كما أنّه لم يرفق بتنظيم تشريعي متماسك.

حتّى لا تكون فترة الحجر الصّحيّ الشّامل فترة "عطلة" أو لنقل فترة «انتظار"، لتكن فترة تفكير حول هذه القضايا "العالقة". فالفكر التّونسي لا ينقصه الخيال ولا يمكن للعقل أن يتعطّل في انتظار إيجاد لقاح للكورونا.

لقد كان منتظرا من الإدارة الثّقافيّة أن تؤثّث للزّمن الثّقافي على مستويين.

المستوى الأوّل وهو مستوى العرض أو ما يمكن أن نسمّيه بالمادّة الثّقافيّة الاستهلاكيّة المرصودة للعرض.

أمّا المستوى الثّاني فهو زمن الفكر الثّقافي الذي بقي، بدوره، حبيس الحجر الصّحّي.

كيف تعاملت الإدارة الثّقافيّة مع هذين الزّمنين؟  لقد صادف حدث الكورونا كما أشرت سابقا، تشكيل حكومة جديدة في تونس. ولعلّ في هذا المعطى ما يبرّر الارتباك الذي حصل في التّمشّي الذي اعتمدته وزارة الشّؤون الثّقافيّة التي لم تنتج خطابا ثقافيّا يسند الخطاب الاجتماعي والاقتصادي والأمني الصّحّي الذي فرضه الوباء.

ولعلّ الأوان فات على ذلك، إلاّ أنّه يبقى ضروريّا الوقوف عند الثّغرات الحاصلة وتداركها بـ"حملة" تفكير جدّي وحداثي حول المسألة الثّقافيّة التي تسير نحو منطقة اضطرابات وهزّات لن يبقى العالم، بعدها، كما عهدته الحداثة ولا حتّى ما بعد الحداثة...

فوزيّة بلحاج المزّي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.