أحمد بن مصطفى - المديونية الخارجية المفرطة: خطر داهم على سيادة تونس واستقلالية قرارها
معضلة المديونية التونسية المفرطة التي بلغت منذ سنوات عدة مستويات مفزعة، عادت مجددا إلى واجهة الأحداث على خلفية إبرام الحكومة، في حيز زمني قياسي سلسلة من القروض قدمت على أنّها مرتبطة بالظرفية الطارئة الناجمة عن جائحة كورونا مع الإشارة إلى أنّ مجمل هذه التمويلات يتجاوز 6.5 مليار دينار أهمها القرض "السريع" الممنوح من صندوق النقد الدولي وهو بقيمة 746 مليون دولار (2.2 مليار دينار) إلى جانب قرضين بقيمة 850 مليون أورو من الاتحاد الأوروبي (حوالي 2.7 مليار دينار) وآخر بقيمة 809 مليون دينار من البنك الإسلامي للتنمية.
هذا إلى جانب قروض من البنك الأفريقي للتنمية (315 مليون دينار) ومن البنك العالمي (60 مليون دينار) وذلك فضلا عن القرض الممنوح من إيطاليا وهو بقيمة 158 مليون دينار ومن الولايات المتحدة الأمريكية (72 مليون دينار) وأخيرا قرض يبلغ 428 مليون دينار ممنوح إلى الشركة التونسية للكهرباء والغاز من البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير. ولا يشمل هذا المبلغ التبرعات الداخلية البالغة 187 مليون دينار والهبات العينية والمساعدات الطبية القادمة من الداخل والخارج وأيضا الموارد الإضافية المنتظرة من الاقتطاع من مرتبات الموظفين والانخفاض الكبير المسجل في أسعار النفط بالأسواق الدولية.
حقيقة الامر، هناك تساؤلات عديدة تحوم حول سبب استسهال الحكومة الحالية كسابقاتها اللجوء إلى المديونية المفرطة المشروطة المضرة بسيادتنا والمكبلة لقرارنا الوطني وهي تدرك جيدا أنّها تتجاوز قدراتنا على التحمل والتسديد متجاهلة أنّ هناك بدائل أخرى عاجلة وآجلة يمكن اللجوء إليها في إطار الاتفاقيات والأعراف الدولية القائمة. ومن ضمن هذه البدائل، التفاوض مع الدائنين لإرجاء دفع أقساط الديون أو تعليقها فضلا عن تفعيل البنود الوقائية بإعادة فرض الرسوم الديوانية للحد من العجز المالي والتجاري وتأمين مداخيل إضافية للميزانية سيما وأنّ الأزمة مرشحة للاستمرار إلى أمد غير منظور.
ومهما يكن من أمر، فإنّ اللجوء مجدّدا إلى إغراق البلاد في مزيد من المديونية العدمية التي تخطت منذ فترة طويلة كافة الخطوط الحمر، لن يساهم إلا في مزيد تكريس تبعية تونس إزاء الخارج والمساس باستقلالية قرارها خاصة في ظل الشكوك والاستفهامات المطروحة حول أوجه صرف هذه الاعتمادات طالما أنّ الحكومة لم تقدم أية توضيحات بهذا الشأن. كما لم تعلن عن إعادة النظر في سلم اولويات الانفاق في الميزانية التي تعطي منذ سنوات عدة، الأولوية المطلقة لخدمة المديونية وللأنشطة ذات الصلة بالتبادل التجاري الحر مع أوروبا وذلك على حساب المرافق والخدمات العامة والقطاعات الإنتاجية والخدمية الوطنية الموجهة لتلبية حاجيات الشعب التونسي.
اللافت للانتباه ان هذه التمويلات متأتية أساسا من القروض المشروطة لصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي والمؤسسات المالية متعددة الأطراف الخاضعة لنفس النظم والقواعد التي وضعتها مجموعة السبع دول صناعية الكبرى غداة الثورة أثناء قمتها المنعقدة بدوفيل الفرنسية في ماي 2011 بخصوص سبل التعاطي مع تونس وبلدان ما يسمى بالربيع العربي. فمقابل التزام هذه المجموعة بتقديم التمويلات الميسرة إلى تونس وتمكينها من استرداد أموالها المنهوبة المهربة إلى الخارج، تمسكت الحكومات المتعاقبة بمواصلة التعهد بمديونية النظام السابق واستمرار العمل بسياسة اقتصاد السوق القائمة على الاندماج في العولمة التجارية عبر التوسع في علاقات الشراكة والتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي وذلك من خلال اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق.
ونظرا لعدم ايفاء مجموعة السبع بتعهداتها المذكورة، مما ساهم في تسريع انهيار التوازنات المالية لتونس وانزلاق قيمة الدينار وبداية انفلات المديونية، كان من المفترض أن يؤدي ذلك الى مراجعة هذه السياسات في الابان حتى لا تخرج عن دائرة السيطرة. غير أنّ حكومة الترويكا والحكومات الموالية لها استسهلت اللجوء إلى التداين المفرط بالتوازي مع خضوعها منذ سنة 2013 ثم سنة 2016 إلىالتمويلات المشروطة لصندوق النقد الدولي رغم تداعياتها السلبية على الظروف المعيشية لغالبية التونسيين نتيجة التدابير التقشفية والتضخم المستورد بفعل الانهيار المستمر لقيمة الدينار قياسا بالعملات الأجنبية.
والملاحظ أن ّهذا التدهور اتخذ منحى تصاعديامنذ 2016 بضغط من صندوق النقد الدولي مما ساهم في ارتفاع كتلة الديون الخارجية بنسبة تقارب الأربعين بالمائة لتصل اليوم إلى حوالي 75 بالمائة من الناتج المحلى، علما أنّ البنك الدولي يتوقع بلوغها 89 بالمائة سنة 2020.
الأرقام المفجعة لمعضلة المديونية وعلاقتها الوثيقة بتهريب الأموال وبالتجارة المختلة مع الاتحاد الاوروبي
وفقا لتصريحات أدلى بها محافظ البنك المركزي في فيفري الماضي أمام مجلس نواب الشعب، يتوقع أن ترتفع كتلة الديون الخارجية لتونس متوسطة وبعيدة المدى أواخر السنة الجارية الى قرابة 81 مليار دينار أي بزيادة أربعة مليارات دينار قياسا بسنة 2019 مشيرا إلى أنّ ضغط خدمة المديونية الخارجية في تصاعد مستمر منذ سنتين وسيتكثف خلال السنوات الخمس القادمة مع حلول آجال تسديد القروض المبرمة بعد 2011.
وبالنسبة إلى النصف الأول من العام الجاري، أوضح أنّ تونس مطالبة بتسديد دفعتين رئيسيتين الأولى بقيمة 250 مليون دولار في شهر افريل والثانية بقيمة 400 مليون اورو في شهر جوان 2020 مع الإشارة إلى أنّ مجمل القروض الجديدة المبرمجة بالميزانية، وهي بقيمة 11.3 مليار دينار لن تكون كافية لتغطية خدمة المديونية التي تتجاوز هذا المبلغ بأربعمائة مليون دينار. والسؤال المطروح لماذا الإصرار على هذه السياسة الانتحارية طالما أنّ تونس لا تجني أي فائدة من هذه الديون الكريهة حيث أصبحت تقترض لا للاستثمار بل لتسديد القروض القديمة. ويعرف المختصون هذه الحالة بوضعية التحويلات السلبية الصافية التي تكون فيها المقابيض السنوية بعنوان القروض الجديدة غير كافية حتى لخدمة المديونية وهو الوضع الخطي الذي تتخبط فيه تونس حاليا.
ويجدر التذكير بأنّ الدول التي تتخطى نسبة ديونها الخارجية عتبة الأربعين بالمائة تعتبر قد بلغت مرحلة الإنذار المبكر السابق لمرحلة الخطر الداهم خاصة إذا كانت المديونية الخارجة تشكل 75 بالمائة من كتلة الديون كما هو الشأن بالنسبة إلى تونس. وفي مثل هذه الحالات تفقد الدولة المدينة حرية التصرف في الأموال المقترضة ويكون الخيارالعقلاني الوحيد أمامها هو إعلان عجزها عن التسديد والتفاوض حول إعادة الجدولة أو الحلول البديلة الأخرى المتاحة. لكن تونس لم تتجرأ حتى على مجرد التفكير فيها بل التزمت حديثا بتجديد التعاقد مع صندوق النقد الدولي وقروضه المشروطة بالتدابير التقشفية وبإعطاء أولوية الانفاق لتمويل الواردات وتامين أرباح المستثمرينالأجانب ودفع الديون بقطع النظرعن انخرام التوازنات المالية الكبرىللبلاد.
وهكذا جرّد الشعب التونسي مسبقا من أهم مكاسب الثورة وهو الحق في مراجعة السياسات الاقتصادية والاتفاقيات والخيارات الدبلوماسية غير المتكافئة المؤدية إلى اقتلاعه من بيئته الخضارية والتفريط في مكتسباته ومقدراته وثرواته المادية والبشرية فضلا عن انهيار ظروفه المعيشية وتفشي الفقر والفساد. كما أفضت إلى ضرب مفهوم الدولة الوطنية التونسية المستقلة بمؤسساتها ومنظوماتهاالقيمية والقانونية فضلا عن المساس بانتماء تونس إلى محيطها العربي والإسلامي والمغاربي.
هذا إلى جانب ما أفرزه اقحام تونس في العولمة غير العادلة من ضرب لمكانة التونسيين في بلادهم من خلال تهميش دورهم الاقتصادي وتحويلهم إلى خدم تابعين ينتظرون من الدول ولمستثمرين الأجانب توفير التشغيل وتأمين حاجاتهم الأساسية والحال أنّهم قادرون على توفيرها بخدمة أرضهم وقطاعاتهم الإنتاجية المهملة.
وكان يؤمل أن تستخلص حكومة الفخاخ العبر من تجربة الحكومات السابقة التي زادت في تعميق مشاكل البلاد سيما وأنّه ربط شرعيته بشرعية رئيس الجمهورية وبقاعدته الانتخابية المنحدرة من الأوساط الفقيرة المطالبة بالتغيير. لكن رئيس الحكومة سرعان ما كشف في حديث الصحفي لصحيفة المغرب بتاريخ 8 مارس أنّه متمسك بنفس الخيارات الاقتصادية والدبلوماسية التي لا يمكن فصلها عن بعضها البعض بما فيها التعاقد مجددا مع صندوق النقد الدولي معللا هذا التوجه بعدم وجود بدائل اخرى متاحة لتونس.
لكن العديد من المختصين بيّنوا بالحجة والدليل العلمي أنّ هناك العديد من الخيارات البديلة عن هذه السياسة الخطيرة التي أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس فضلا عما تشكله من مساس باستقلالية تونس وسيادتها.
وفي هذا الصدد نشير إلى مقال صدر بأسبوعية "الشارع المغاربي" بتاريخ 14 افريل بإمضاء الخبير الاقتصادي والمالي جمال الدين عويديدي يبيّن الترابط الوثيق بين تفاقم المديونية وارتفاع العجز التجاري مع أوروبا وظاهرة تهريب الأموال من تونس. ويشير المقال إلى أنّ الأموال المهربة من تونس ارتفعت الى 60 مليار دولار بينما كانت تقدر سنة 2011 ب 38.5 مليار دولار كانت مجموعة السبع قد تعهدت بإعادتها الى تونس. وعلى عكس ذلك ازداد معدل التهريب السنوي خلال السنوات التسع الماضية ليتجاوز الثلاثة مليار دولار بسبب تخلي الحكومات المتعاقبة عن متابعة هذا الملف وفشلها في مقاومة الفساد بجدية وفاعلية.
ولا شك في أن أي تعاط جدي مع قضايا الفساد والمديونية والعلاقات المختلة مع الضفة الشمالية للمتوسط لا يمكن أن ينفصل عن إعادة طرح معضلة التهريب وسبل التصدي لها بنجاعة بالتوازي مع إعادة طرح قضية استرداد الأموال المنهوبة بكافة جوانبها مع الأطراف الخارجية باعتبار استحالة خروج تونس من أزمتها دون إيقاف هذا النزيف. والملاحظ أن الأموال المهربة من تونس متأتية أساسا من التلاعب بالفواتير توريدا وتصديرا وكذلك تحويل وجهة نسبة من القروض الممنوحة من المؤسسات المالية الدولية لفائدة أطراف نافذة أو مقربة من السلطة مثلما كان الحال في عهد النظام السابق.
حكومة الفخفاخ على خطى الحكومات السابقة ومسؤولية رئاسة الجمهورية في تصحيح المسار
وهكذا يتضح أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي الخطير الذي تتردى فيه تونس اليوم هو نتيجة خيارات واتفاقيات اقرتها الحكومات المتعاقبة بمساهمة أو تأثير معلن ومباشر من أطراف خارجية لها مصلحة في استمرار العمل بسياسات النظام السابق ومنها خاصة فرنسا والبلدان الغربية الرئيسية المكونة لمجموعة السبع.
والملاحظ أن هذه الخيارات ذات الطبيعة الاستراتيجية والمتعلقة بالسياسة الخارجية والتعاون الدولي بما فيها برامج العمل مع صندوق النقد الدولي والمفاوضات الخاصة بتوسيع التبادل التجاري مع أوروبا اقرت من قبل رؤساء الحكومات المتعاقبين في خرق واضح لبنود الدستور التي توكل هذه الملفات الى رئيس الجمهورية ولا يجوز مبدئيا ودستوريا للحكومة الانفراد بها دون تنسيق مع الرئاسة.
وبالنسبة إلى حكومة الفخفاخ، فإنه من الواضح انها ماضية في نفس الاتجاه بعد أن أبرمت اتفاقية القرض المشروط مع صندوق النقد الدولي وهي بقيمة 745 مليون دولار. وفي المقابل التزمت بموجب رسالة نوايا ممضاة من وزير المالية ومحافظ البنك المركزي بإعادة تفعيل بنود الاتفاق الممدد المبرم في ماي 2016 علما أنه كان مجمدا من قبل الصندوق ولم تدفع اقساطه المتبقية لعدم قدرة تونس على الالتزام بكامل ببنوده ومنها خصخصة المنشآت العمومية وغيرها من الشروط المجحفة التي يبدو أن الحكومة الحالية ماضية في تنفيذها.
ويجدر التذكير بتصريحات أدلى بها وزير المالية أمام مجلس نواب الشعب قبل إبرام الاتفاق حيث رفض الدعوات الصادرة بتونس لتعليق دفع أقساط المديونية مؤكدا بذلك ضمنيا أن الحكومة ستواصل، في كل الأحوال، إعطاء الأولوية لدفع أقساط خدمة المديونية وتمويل الواردات مع أوروبا وتامين تحويل أرباح المستثمرين الأجانب. ولا شك أن ذلك سيكون حتما على حساب القطاعات الخدمية والإنتاجية الموجهة لتلبية متطلبات الشعب التونسي الحيوية في الصحة والتعليم وغيرها.
وللوقوف على حجم وطبيعة التعهدات الواردة في رسالة النوايا الجديدة، يمكن العودة إلى المقال الصادر بتاريخ 14 افريل 2020 بصحيفة الصباح بإمضاء الإعلامية جنات بن عبدالله المختصة في الشأن الاقتصادي والمالي التي تفند ما يروج بخصوص الصبغة المرنة وغير المشروطة لهذا الصنف من القروض "السريعة".ويستشف ذلك من التوضيحات الصادرة عن كبار مسؤولي الصندوق ومفادها أن تونس متعهدة بالعودة إلى نفس الوصفات التقليدية والتقشفية للصندوق والحال أن التوجه العام على الصعيد الدولي هو التحرر من هذه السياسات والعمل على تدارك آثارها المدمرة المستفحلة بفعل الأزمة الناجمة عن جائحة كورونا.
ورفعا لكل الالتباسات، فإن الحكومة مدعوة إلى تقديم كافة التوضيحات إلى الراي العام بخصوص مضمون هذا الاتفاق ومآل القروض الموقعة في علاقة بأزمة كورونا وكذلك السياسات والتوجهات المزمع اعتمادها بخصوص العلاقات المستقبلية مع صندوق النقد الدولي ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية.
وعموما فإنه من حق الشعب التونسي ان يعلم بكافة الحقائق المحيطة باستفحال آفة المديونية خلال العشرية الماضية إلى هذه المستويات المهددة لكيان الدولة مع بيان كيفية صرف الأموال المقترضة في الماضي والحاضر والمستقبل خاصة في ظل غياب المؤسسات الدستورية والرقابية التي يفترض أنها مؤتمنة على ضمان تطابق السياسات العامة مع مقتضيات الدستور.
وفي هذا الصدد يجدر التذكير بالفصول الدستورية العديدة التي تظل غير مفعلة والحال أنها تؤكد على دور الدولة ورئيس الجمهورية في الحفاظ على سيادة تونس ودورهما المحوري في خدمة مصالح الشعب التونسي وتحقيق التمييز الإيجابي من خلال صيانة الثروات وحسن التصرف فيها وفي الموارد بما يخدم المصلحة الوطنية.
خلاصة القول لا شك إن رئيس الدولة بوصفه الساهر على تطبيق الدستور يشكل اليوم الملاذ الأخير لتدارك هذه المخاطر عبر تفعيل صلاحياته الدستورية بخصوص هذه الملفات الاستراتيجية الحيوية والمصيرية المتعلقة بأمن تونس ومستقبلها وبالمصالح العليا للشعب التونسي.
أحمد بن مصطفى
باحث في التاريخ الدبلوماسي والاقتصادي
- اكتب تعليق
- تعليق