تركيــا فــي محيطها الإقليمــي: ســيـاســة خـارجيّــة متقلّــبة وتحــالفـات غــامضة
باتت السّياسة الخارجيّة التركيّة محطّ أنظار الباحثين والمحلّلين في عهد الزعيم رجب طيب أردوغان الذي غيّر ثوابتها ومرتكزاتها التي دأبت عليها منذ تأسيس الجمهوريّة التركيّة ودخل في صراعات مع حلفائه التقليديّين حول قضايا أساسيّة تتعلّق بأمن تركيا وتماسك التحالف ووحدة الصفّ داخله وصيانة المصالح الكبرى لأعضائه. وقد تعرّضنا في الجزء الأوّل من هذا المقال إلى مختلف المراحل التي مرّت بها السّياسة الخارجيّة التركيّة منذ صعود حزب العدالة والتّنمية الإسلامي إلى سدّة الحكم في 2002 ورأينا كيف تعاملت القيادة التركيّة مع ثورات »الربيع العربي« باعتماد سياسات نظّر لها أحمد داوود أغلو وزير الخارجيّة ورئيس الوزراء السابق، وتناولنا المرحلة الأخيرة من تحوّل السياسة الخارجيّة التركيّة التي أعاد فيها أردوغان تقييم الأولويّات التركيّة في المنطقة وخاصّة على السّاحة السوريّة.
نطرح في هذا الجزء من المقال الأسباب التي أدّت إلى هـذا التحـوّل وتأثيراتها المحتملة في تحالفات تركيا التقليديّة.
1 - أدركت تركيـا أنّ الغرب يريد فرض قيمه عليها ولا يسمح لها بتطوير رؤى سياسيّة مختلفة تخوّل لها الانفتاح على الشرق مثل الحصول على صفة الشـــريك في الحوار مع منظّمة تعاون شنغاي أو الانضمام إلى مجموعة BRICS أو إنشاء منطقة نفوذ على أسس إيديولوجيّة تقوم على الخصوصيّة القوميّة والتاريخيّة والدّينيّة. ويذكر أنّ دعاة التحرّر من إملاءات الغرب يؤسّسون مواقفهم على خلفيّة عـدم احترام البلدان الغربيّة نفسها لقيـم الـديمقراطيّة ولحقوق الشّعوب عندما تتعارض مع مصالحها السياسيّة والاستراتيجيّة (عدم القبول بالنتيجة التي أفضـت إليها الانتخابات في الأراضي الفلسطينيّة في 2006 والتي فازت بها حمـــاس، القبول بالانقلاب العسكري في مصر، دعم أنظمة أخرى غير ديمقراطيّة في المنطقة، تسليح الفصائل الكرديّة المناهضة لتركيا ...). ورغم عدم نجاح سياسة داوود أغلو إزاء العالم العربي بسبب طموحها المبالغ فيه، إلاّ أنّها أسّست لرؤية مستقلّة لما عسى أن تكون عليه مصلحة تركيا في محيطها من منطلق أنّ رياح التّغيير في عالم المستقبل ستهبّ من الشّرق وأنّ تركيــــا دولة صـــاعدة في منطقتها ووجب احترامها.
2 - انتماء تركيا إلى الغرب بما يمثّله من انضمام إلى الحلف الأطلسي في َ1952 ومجلس أوروبا في 1949 ومنظمة التعاون والتنمية في أوروبا في 1960 واعتماد منظومة الحقوق والحرّيات الغربيّة وإلغاء الإسلام كدين للدّولة وإحداث ثورة ثقافيّة موالية للغرب ومناهضة للتّقاليد التركيّة، كلّ ذلك لم يؤهّل تركيـــا لعضويّة الاتحاد الأوروبي. وقد اختزل أردوغان هذا الوضع خلال زيارة لفرنسا عندما خاطب الرئيس Macron قائلا: «تركيا تقف أمام باب الاتحاد الأوروبي منذ ثمانينات القرن الماضي» فردّ الرئيس الفرنسي بالقول: «نقترح على تركيا الدّخول في شراكة متقدّمة مع الاتحاد الأوروبي» ممّا يعني أنّ تركيا أصبحت غير مؤهّلة للعضويّة.
3 - أّدّت الخلافات بين تركيا والدّول الغربيّة بخصوص التطوّرات على الساحة التركية وتفاعلات الأزمة السوريّة وموضوع الأكراد والتحوّل في السياسة الخارجيّة التركيّة إلى ما يشبه السّجال السياسي الذي أضرّ بالعلاقات التقليديّة بين الجانبين. على سبيل المثال: أرادت تركيا القضاء على معاقل الانفصاليين الأكراد في عفرين وتلّ ابيض وراس العين والقامشلي وغيرها من المواقع الحدوديّة الممتدّة حيث توجد قواعد أمريكيّة تحتمي بها الفصائل الكرديّة المتحالفة مع واشنطن. وقد شاهدنا التوتّر في العلاقات التركيّة الأمريكيّة من جرّاء حملة «غصن الزيتون» في عفرين ودعوة قوّات حماية الشّعب الكرديّة للانسحاب من منبج وتهديد أنقرة بالتوغّل العسكري في المنطقة إلى حدود جبل سنجار بالعراق لطرد المسلّحين الأكراد. وقد أكّد رئيس الوزراء التركي آنذاك - بن علي يلدرم - الموقف التركي من هذا الوضع بالقول: «لن تسمح تركيا بإنشاء كيان إرهابي على حدودها» وأضاف: «من المحيّر وغير المقبول أن يعمد بلد يُفترض أن يحمي حدود الحلف الأطلسي إلى تقديم الدّعم السافر لكيانات مسلّحة تستهدف حدودنا».
4 - نلاحظ في المقابل مزيدا من التّلاقي بين تركيا من جانب وروسيا وإيران من جانب آخر يمكن حصره في العناصر التالية:
- لا يخضع التعاون بين الثلاثي التركي الروسي الإيراني إلى منظومة قيم أو إملاءات أو شروط مسبقة وهناك إقرار بضرورة احترام مواقف كلّ الأطراف.
- هناك اعتراف ضمني بأنّ الدّول المعنيّة هي قوى إقليميّة لها مصالح سياسيّة واستراتيجيّة ومن حقها المساهمة في صياغة النّظام الإقليمي الجديد.
- توجّس هذه البلدان من الأقليات العرقيّة والمذهبيّة التي تشكّل تهديدا مباشرا أو غير مباشر لوحدتها الترابيّة. ويعدّ موضوع الأكراد عاملا أساسيّا في التفاهمات بين تركيا وإيران خاصّة في حين تخشى روسيا من توظيف الجهاديين لضرب الأمن والاستقرار فيها.
- الاعتقاد بأنّ نهاية القطبيّة الأحاديّة أصبحت واقعا وأنّ قوى عديدة في العالم تطمح إلى لعب دور في إرساء نظام عالمي جديد قوامه التعدّديّة. ومن ضمن هذه القوى روسيا وتركيا وإيران التي أصبحت تنافس الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط سواء بعودتها القويّة إلى المتوسط (روسيا) أو بالسّعي إلى امتلاك القوة النّوويّة (إيران) أو بإنشاء منطقة نفوذ في الجوار (تركيا، إيران) أو بالدّخول في تحالفات وتجمّعات إقليميّة كبرى كمنظّمة شنغاي ومجموعة البريكس (روسيا).
- اعتقاد الثلاثي الروسي الإيراني التركي أنّ الوقت قد حان لتفنيد مقولة أنّ الولايات المتحدة (والغرب عامة) هي من يصنع السّلام ويعلن الحرب في الشرق الأوسط وهو ما يتجلّى في منابر الحوار والتفاوض الموازية في الأزمة السورية التي تشرف عليها روسيابمعيّة تركيا وإيران ((استانة، صوتشي).
- بروز روسيا وتركيا وإيران على الساحة كقوى إقليميّة وازنة أدّى إلى تفاهمات بينها لصيانة المصالح وتقاسم النّفوذ إلاّ أنّه أثار صراعات سياسيّة وإيديولوجيّة ومذهبيّة مع دول اخرى في المنطقة، وهناك اعتقاد بأنّ التّقارب التركي الإيراني يعدّ ردّة فعل على سياسة وليّ العهد السّعودي المدعومة من قبل الولايات المتّحدة والتي تندرج في إطار محور جديد يضمّ المملكة العربيّة السّعوديّة ومصر ودولة الإمارات العربيّة. هذا المحور لا يلتقي مع مصالح تركيا التي ندّدت بالإطاحة بحليفها الإسلامي الرئيس المصري محمد مرسي ورأت فيها استهدافا لنفوذها في المنطقة.
كذلك شكّل التحوّل في موقف واشنطن من الخطّ الإسلامي الذي تعتمده القيادة التركيّة عاملا مساعدا حيث لم تعد الحكومات الأمريكيّة ترى في تركيا نظاما إسلاميّا معتدلا وباتت تعوّل على المملكة العربيّة السعوديّة للقيام بهذا الدّور في إطار النّظرة السياسيّة «المجدّدة» لولي العهد محمد بن سلمان.
وبما أنّ الغمد لا يتّسع لسيفين كما يقال، هناك صراع بين المملكة وتركيا على الريادة في المنطقة من ناحية حماية المسلمين السّنّة والدّفاع عن مصالحهم وترى كلّ منهما أنّها تمتلك المقوّمات التي تسمح بتحقيق ذلك.
- وضع القوّة الاقليميّة الذي تمتاز به كلّ من روسيا وتركيا وإيران بعد أن أمسكت بخيوط اللّعبة في سوريا أدّى بطبيعته إلى تمدّد هذه القوى واعتمادها لسياسة الاستقطاب وإنشاء المحاور ويتجلّى ذلك في الصّراع على النّفوذ في المنطقة بين تركيا والمملكة العربية السعودية على سبيل المثال حيث سعى البلدان إلى تعزيزجانبيهما بإبرام توافقات جديدة مع أطراف مختلفة بغرض التموقع الاستراتيجي وانتقلا من وضع الحليف الدّاعم للمعارضة السوريّة إلى وضع الخصم المنافس على الرّيادة والنّفوذ في الشرق الأوسط. ولنا في تطوّرات الأزمة بين قطر والمملكة السعوديّة مثال على سياسة الاستقطاب والمحاور حيث اصطفّت تركيا بسرعة إلى جانب قطر وأرسلت قوّة إضافيّة تعزّز الحضور العسكري التّركي في الإمارة.
ولم تقتصر تركيا على دعم الموقف القطري سياسيّا وعسكريّا عبر القاعدة العسكريّة التي بنتها في قطر بل عمدت إلى تأجير جزيرة «سواكن» السودانيّة ذات الموقع الاستراتيجي على البحر الأحمر ممّا أثار انشغال مصر والمملكة السعوديّة اللتين تريان في ذلك انتشارا يهدّد مصالحهما في البحر الأحمر وكذلك في القرن الإفريقي حيث دشّنت تركيا في سبتمبر 2017 قاعدة عسكريّة لها في الصّومال.
هذا الحضور العسكري المتمثّل في بناء القواعد يهدف حسب وزير الشؤون الخارجيّة مولود شاوش اغلو إلى «تحقيق الأمن في البحر الأحمر» لكنّه يؤكّد في الحقيقة دخول السياسة الخارجيّة التركيّة في مرحلة جديدة من الصّراع الايديولوجي رغم ما يدّعيه المنظّر والسياسي أحمد داوود أغلو من ضرورة العمل بقاعدة انتفاء المشاكل مع دول الجوار. فمحاولة استقطاب الدّول والجماعات مثل قطر والسودان والصومال وكذلك السنغال وتشاد والميليشيات والفصائل المسلّحة التابعة للإسلام السياسي في سوريا وليبيا بغرض الانتشار الاستراتيجي واحتلال مواقع نفوذ جديدة تستفزّ العديد من دول الجوار. ولاشكّ أنّ حكومة أردوغان تتحمّل جزءا من المسؤوليّة في المأزق السياسي الحالي في ليبيا حيث حرص الزعيم التركي على أن تكون بلاده من ضمن اللاعبين الأساسيين بدعمها منذ البداية لفجر ليبيا والميليشيات المشبوهة وبقيت الاتّهامات تلاحقها بخصوص تسهيل عبور الدّواعش إلى القطر الليبي وعقد صفقات تهريب السّلاح رغم الحظر المفروض من قبل الأمم المتّحدة، وقد قطعت تركيا شوطا آخر في الآونة الأخيرة بالتّعاقد مع حكومة الوفاق والتدخل عسكريّا إلى جانبها. كذلك صعّدت موقفها في سوريا وأوشكت أن تنسِف تحالفها الظرفي مع روسيا.
مآخذ الغرب على السياسة التركيّة
هذا التحوّل في السياسة الخارجيّة التركيّة وإن لقي استحسانا وقبولا لدى روسيا وإيران رغم المعوقات الايديولوجيّة والمذهبيّة فقد أثار حفيظة الغرب وبدأ يثير الشّكوك حول انتماء تركيا الفعلي إلى عديد المنظّمات والهيئات الغربيّة مثل الحلف الأطلسي والمجلس الأوروبي فضلا عن مواصلة مفاوضات العضويّة في الاتّحاد الأوروبي معها والتي باتت مجمّدة بفعل التوتّر المستمرّ في العلاقات بين الجانبين، فهل سنشهد في المستقبل القريب خروج تركيا من الحلف الأطلسي الذي انظمّت إليه في 1952 في خضمّ الحرب الكوريّة التي شاركت فيها إلى جانب الولايات المتّحدة؟ وهل ستتمكّن الأصوات المنادية بطرد هذا البلد من المنظّمة من التأثير على الموقف الأمريكي المتردّد؟
عندما نستحضر القرارات السياسيّة التي استهجنها الغرب في السّنوات القليلة الماضية ومآخذ تركيا على حلفائها الغربيّين ندرك مدى حساسيّة الموقف بالنّسبة إلى الطرفين.
دون الرّجوع إلى رفض البرلمان التركي السّماح للقوّات الأميركيّة بالعبور لمهاجمة العراق خلال حرب 2003 يمكن ذكر التّعاون فيما يشبه التّحالف الظّرفي بين تركيا وروسيا وإيران في إطار المسارين المستقلّين «أستانا» و«سوطشي» وكذلك اتّهام القيادة التركيّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة بدعم الإرهاب (في إشارة إلى مساندة واشنطن سياسيّا ومـاديّا لوحــدات حمـــاية الشعــب الكردية المتواجـــدة بشمـــال سوريا).
هذا إلى جانب تطوّر آخر خطير يتمثّل في اقتناء تركيا لأحدث منظومات الدّفاع الجوّي الروسي (S-400) وهي بادرة غير مسبوقة لعضو في الحلف الأطلسي قد تكون لها تداعيات خطيرة على الأنظمة الدّفاعيّة الجويّة للحلف حيث يمكن للخبراء الروس الذين سيدرّبون الطواقم التركيّة على استعمال المنظومة الجديدة تسريب أسرار عسكريّة تخصّ أسلحة الحلف وخاصّة منها الطائرة الحربيّة الأمريكيّة الجديدة F35التي ساهمت تركيا في تصنيعها. مع العلم أنّ أعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل بلغاريا وسلوفاكيا لازالوا يمتلكون المنظومة الصاروخيّة S-300 التي ورثوها عن ماضيهم الشيوعي.
كما تعيب واشنطن على تركيا عدم التزامها بالعقوبات ضدّ إيران في إطار الملفّ النّووي الإيراني وتتّهمها بضرب التّوازنات في شرق المتوسّط بإعلان مسألة التنقيب عن النّفط والغاز في المنطقة دون وجه حقّ هدفا استراتيجيّا يخوّل لها إبرام اتفاقات وتفاهمات مشبوهة.
ومن ضمن المآخذ الأخرى على تركيا اتّخاذ مواقف عدائيّة ضدّ شركاء الولايات المتّحدة الأمريكيّة في المنطقة من ضمنهم مصر والإمارات العربيّة المتّحدة والمملكة العربيّة السعوديّة وعدم الانصياع لمطالب الإدارة الأمريكيّة الداعية إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل وتوجيه الانتقادات إلى سياسة الرئيس الأمريكي إزاء الملفّ الفلسطيني....
هذا التوتّر في العلاقات مع الحليف الأمريكي يقابله وضع مماثل في العلاقات مع الاتّحاد الأوروبي الذي استهجن بانتظام الانفلات السّلطوي في تركيا وما أدّى إليه من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان خاصّة بعد عمليّة الانقلاب الفاشلة في 2016. هذا السّلوك الذي تراه المجموعة الأوروبيّة منافيا لقاعدة الدّيمقراطيّة يفاقم الشكوك إزاء أهليّة تركيا لعضويّة الاتحاد.
وقد كشفت تطوّرات الملفّ السوري عن مواقف سياسيّة تركيّة عديدة مناهضة للمصالح الأوروبيّة والغربيّة عموما من ضمنها موقف المتفرّج على ممارسات التنظيم الإرهابي داعش في المنطقة إلى حين تدخّل القوّات العسكريّة الروسيّة وانطلاق التحالف بين واشنطن والقوى الديمقراطيّة السوريّة، وتسهيل عبور الجهاديّين الأوروبيين إلى سوريا عبر الأراضي التركيّة.
ويعيب الاتحاد الأوروبي على تركيا خاصّة اجتياحها لشمال سوريا لطرد الأكراد حلفاء الغرب في الحرب ضدّ داعش، وابتزازها له عبر السّماح لأفواج اللاجئين السوريّين بالعبور إلى اليونان خلافا لما ينصّ عليه الاتفاق المبرم بين الجانبين في. 2015 وترى القيادات الأوروبيّة أنّ تهديدات أنقرة المتكرّرة باتّخاذ إجراءات مماثلة ضدّ الاتّحاد !الأوروبي كلّما تفاقم ضغط اللاجئين على أراضيها لا تليق بعضو في الحلف الأطلسي مرشّح للانضمام إلى الاتحاد. إلاّ أنّ الأزمة الأخيرة التي جدّت بمنطقة آدلب بين القوّات السوريّة ووحدات الجيش التركي في أواخر فيفري وبداية شهر مارس الماضي شهدت نفس الإجراء الذي أفضى إلى توتّر العلاقات من جديد بين تركيا واليونان بصفتها بوّابة الاتحاد الأوروبي بالنّسبة إلى اللّاجئين.
هذه العلاقات التي لم تعرف الاستقرار منذ الاجتياح التركي لشمال قبرص في 1974 شهدت تطوّرا آخر في أواخر السّنة الماضية عندما أبرم أردوغان مع السرّاج، نظيره في حكومة الوفاق الليبيّة، اتّفاقيّة تعاون عسكري أغضبت اليونان التي رأت فيها انتهاكا لحقوقها البحريّة وطلبت دعم ومساندة الحلف الأطلسي.
ولتركيا بدورها مآخذ على حلفائها الغربيّين. من ذلك اعتقادها بأنّها لا تتلقّى الدّعم في محاربتها للإرهاب الذي يهدّد وحدتها وسلامة ترابها والمقصود هنا هو «وحدات حماية الشعب الكرديّة» المنضوية تحت راية «القوى الديمقراطيّة السوريّة» المتكوّنة أساسا من العناصر الكرديّة في سوريا وهي فصائل متحالفة مع الغرب ومعارضة للنّظام السوري ولا ينطبق عليها مفهوم الإرهاب الذي تنعتها به تركيا. وكثيرا ما تحتدّ النّقاشات بين الجانبين حول هذا الموضوع خلال الزيارات الرسميّة أو بمناسبة اجتماعات الحلف الأطلسي وتجدر الإشارة هنا إلى زيارة أردوغان إلى واشنطن في نوفمبر الماضي حيث هاجم عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي سياسة الزّعيم التركي بحضور الرّئيس دونالد ترمب وانتقدوا بشدّة ممارساته ضدّ الأكراد بحجّة محاربة الإرهاب مشكّكين في نفس السّياق في مساهمة بلاده في الحرب ضدّ تنظيم داعش الإرهابي.
كما تجدر الإشارة كذلك إلى زيارة أردوغان لفرنسا في جانفي 2018 وإعلان الرئيس ماكرون خلالها أنّ وضع حقوق الإنسان في تركيا لا يترك أيّ مجال للتقدّم في مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي.
والملاحظ أنّ العلاقات الفرنسيّة التركيّة بدأت تتدهور منذ أن اعترفت حكومة الرئيس ساركوزي بإبادة الأرمن من قبل تركيا في 1915 وهي على المحكّ في عهد الرئيس الحالي بعد أن استقبل قيادات تنظيم «القوى الديمقراطيّة السوريّة» ودعا مؤخرّا في لقاء مع الأمين العام للحلف الأطلسي إلى التّشاور حول دور هذه المنظّمة ومدى الانسجام بين أعضائها بعد أن وصفها بأنّها في حالة «موت دماغي» في إشارة إلى الدّور التركي داخلها.
ومن ضمن المآخذ الأخرى التي ساهمت في تأزّم الأوضاع مع الدّول الغربيّة والولايات المتّحدة على وجه الخصوص الموقف الغربي الفاتر إزاء المحاولة الانقلابيّة الفاشلة في تركيا الذي أثار شكوكا في إمكانيّة ضلوع المصالح الأمريكيّة في هذا الحدث الخطير، ورفض واشنطن القاطع تسليم الدّاعية فتح الله كولن المقيم بالولايات المتّحدة والمتّهم من قبل السّلط التركيّة بتنظيــــم محـاولة الانقلاب.
كما تشكو تركيا من الإجراءات العقابيّة التي فرضتها عليها الإدارة الأمريكيّة إثر صفقة المنظومة الصاروخيّة مع روسيا والتي ألغت بمقتضاها تزويد تركيا بالطائرة الحربيّة F-35 . وقد يمتدّ أثر هذه الإجراءات إلى شركات المناولة التركيّة التي تصنّع جزءا من قطع غيار هذه الطائرة المتطوّرة جدّا.
أهميّة تركيا الاستراتيجية
هذه المآخذ التي نسوقها على سبيل المثال لا الحصر تبيّن مدى تباعد سياسات الأطراف المعنيّة في السّنوات الأخيرة. فهل تنبئ باقتراب موعد القطيعة بينها
إنّ الرّهانات والمصالح الكبرى التي تجمع بين الأطراف والتّبعات الخطيرة التي يمكن أن تنجرّ عن خروج تركيا من التّحالف قد تجعل القطيعة المتوقّعة أمرا يصعب تحقيقه.
فبقاء هذا البلد داخل الحلف الأطلسي يكتسي أهميّة بالغة نظرا لحجمه الديمغرافي (82 مليون نسمة) وامتلاكه لثاني أكبر جيش في المنظّمة بعد الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وتأتي تركيا في مرتبة متقدّمة من ناحية الشراءات العسكريّة الغربيّة أساسا التي بلغت 18,2 مليار دولار في 2017 ما يبوّؤها المركز الثالث في المنطقة بعد المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة وقبل إيران وإسرائيل.
وتعدّ تركيا الضامن لحريّة المرور في المضائق (البوسفور والدردنيل) بمقتضى معاهدة Montreux وهي وريثة الامبراطوريّة العثمانيّة ولها تأثير في آسيا الوسطى في ظرف يشهد فيه العالم صعودا متواترا للصّين وروسيا. وهي تحتلّ كذلك موقعا جغرافيّا استراتيجيّا يسمح بمرور العتاد العسكري الأمريكي خاصّة في حالات التدخّل في آسيا الوسطى وقرب الحدود الجنوبيّة للفيدراليّة الروسيّة وفي الشرق الأوسط. وقد أصبحت تركيا لبنة أساسيّة في الحلف بحكم إيوائها لمركز قيادة القوات البريّة في ازمير (Landcom) ولمحطّة رادار كبيرة بالقاعدة العسكريّة Kurecik في ملاطيا جنوب شرق تركيا التي انطلق تشغيلها في 2010 من قبل الحلف لرصد الصواريخ الباليستية المعادية. كما تأوي تركيا بالقرب من مدينة «أضنة» في جنوب البلاد قاعدة « Incirlik « الجوية التي استعملتها القوّات الأمريكيّة الحليفة في طلعاتها لضرب تنظيم داعش والتي تحتفظ فيها الولايات المتحدة الأمريكيّة بعشرات الرؤوس النّوويّة تحت الحراسة المشدّدة.
إضافة إلى ذلك شاركت تركيا في عديد المهمّات التي قام بها الحلف في منطقة البلقان وأفغانستان وعرض الساحل الصومالي وساهمت قوّاتها البحريّة في عديد العمليّات الدوليّة تحت راية الأمم المتّحدة. ولتركيا أهميّة كبرى من ناحية تواجدها بجوار غير مستقرّ وهي بمثابة المنطقة العازلة التي تفصل أوروبا عن هذا الجوار ويمكن أن تلعب دورا محوريّا في صورة ظهور تهديدات من قبل روسيا وقوى إقليميّة أخرى صاعدة.
ويعتقد الكثيرون أنّ الحلف لن يستغني بسهولة عن الخدمات التي تقدّمها المخابرات التركيّة (M.I.T) في مجال مكافحة الإرهاب خاصّة في ظلّ ما شاع حول وجود تواصل بينها وبين مجموعات تصنّف بالإرهابيّة.
مزايا الوجود التركي داخل الحلف تقابلها امتيازات تحصل عليها تركيا بحكم عضويّتها فيه وأوّلها الحماية ضدّ أيّ عدوان طبقا لما ينصّ عليه ميثاق المنظّمة. ويُعدّ ذلك ضمانة أساسيّة في منطقة مضطربة تشهد صراعات عنيفة بين قوى مختلفة تسعى إلى التموقع على الصّعيد الإقليمي والدّولي. وللتذكير استنجد أردوغان بالحلف إثر المعارك التي جدّت في الأسابيع الماضية بين القوّات السوريّة المدعومة من روسيا والجيش التركي.
وتستفيد تركيا كذلك من رصيد الحلف في مجال تخطيط وإدارة العمليّات ويحصل ضبّاطها على مهامّ ومراكز عالية في قيادة الحلف. كما تستفيد تركيا من تبادل المعلومات بين المصالح الاستخباراتيّة المتعلّقة بمكافحة الإرهاب وبتطوّرات الأوضاع في محيطها الإقليمـــي على وجـــه الخصــــوص إضافة إلى المنــــافع الاقتــصاديّة والتجاريّة التي تجنـــيهـــا تركيا في علاقاتها الثنائيّة مع أعضــــاء الحلـــف.
لذلك وجب إدراج التوتّر في العلاقات بين تركيا من جانب والولايات المتّحدة وبعض الدّول الأوروبيّة من جانب آخر في إطار الخلافات الظرفيّة التي لا تمسّ الجوهر الاستراتيجي للعلاقة بين هذه البلدان. فالاعتراف بإبادة الأرمن وعدم إدراج وحدات حماية الشّعب الكرديّة في لائحة الإرهاب وتسليط عقوبات اقتصاديّة على تركيا في علاقة بصفقة المنظومة الصّاروخيّة الروسيّة والتّهديد بطردها من الحلف الأطلسي والتجميد الفعلي لمفاوضات العضويّة في الاتّحاد الأوروبي معها وغيرها من المواقف الغربيّة المناوئة لا تعدو أن تكون سوى وسائل ضغط على القيادة التركيّة لمنعها من تحقيق استقلاليّة قرارها والظهور بمظهر القوّة الاقليميّة الفاعلة.
كذلك الأمر بالنّسبة إلى تركيا التي أجرت تقاربا ملحوظا مع روسيا وإيران توّجته بصفقة المنظومة الصاروخيّة S-400 التي يعتقد البعض أنّها تعبّر عن خيبة أمل أردوغان في الشراكة مع الغرب. وقد هدّدت تركيا في نفس السّياق بغلق قاعدتين عسكريّتين تستعملهما الولايات المتّحدة كردّة فعل على الإجراءات العقابيّة ضدّها.
هذه المناورات قد تفضي في النّهاية إلى تدارك الأمر وترميم العلاقة بين الجانبين.
وتأمل القيادة التركيّة التي انتهجت في السّنوات الأخيرة سياسات جريئة تصل إلى حدّ التهوّر لكنّها تبقى محسوبة، أن تحسّن موقعها في المعسكر الغربي ولن تحجم عن اللّجوء إلى الابتزاز إذا لزم الأمر.
إخفـــاقــــات
ما نستنتجه من تطوّرات السياسة الخارجيّة التركيّة تحت حكم حزب العدالة والتنمية يمكن تلخيصه في الملاحظات التالية:
حدّد منظّر السياسة الخارجيّة التركيّة أحمد داوود أغلو جملة من الأهداف أساسها سياسة جوار خالية من المشاكل وتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة نفوذ تركي تكون منطلقا لتموقع بلاده في الاتحاد الأوروبي والغرب عامّة وأخيرا الريادة في العالم الإسلامي السنّي وانتقال تركيا إلى مصافّ القوى الإقليميّة عبر مشروع العثمانيّة الجديدة. هذه الأهداف لم تتحقّق في مجملها بل توتّرت العلاقات التركيّة العربيّة في الشّرق الأوسط واحتدّ التنافس على الرّيادة في الفضاء السنّي وتقهقر الموقع التركي في أوروبا والغرب عموما. ويعزى ذلك إلى انحياز تركيا ايديولوجيّا ومذهبيّا في الصّراعات القائمة ممّا أدّى إلى الاستقطاب وبروز محاور جديدة قسّمت المنطقة وزادت من حدّة التوتّرات، ولا أدلّ على ذلك ممّا دوّنه Semih Idiz أحد معارضي السياسة الخارجيّة التركيّة في هذا التقييم:
«الخطاب العقائدي الموالي للاخوان المسلمين والمدافع عن السنّة جعل تركيا تخسر مواقعا في الشرق الأوسط، المنطقة التي كانت تطمح أن تلعب فيها دورا أساسيّا وهو ما يذكّر بفشل الأتراك المتواصل في صياغة علاقات حوار هادئة ومستقرّة ويعكس عزلة تركيا في محيطها حيث لم تتوخّ الوسطيّة والاعتدال وجنحت إلى الانحياز عوض أن تلعب دور الوسيط وحتى محاولة المصالحة مع روسيا وإيران فإنّها تبدو بمثابة الإكراه».
رغم ذلك نلاحظ لدى القيادة التركيّة توجّها واضحا في سياستها الخارجيّة نحو الاستقلاليّة وذلك بالانفتاح على القوى والمجموعات الصاعدة في الشرق والتعامل معها بحريّة دون إحداث قطيعة مع الغرب حليفها التقليدي. وفي ذلك دلالة واضحة على أنّ تركيا أصبحت تمتلك مقوّمات سياسيّة وعسكريّة واقتصاديّة تسمح لها بأن تكون ضمن كوكبة البلدان الصّاعدة والقوى الاقليميّة التي يُحسب لها حساب في مناطقها.
محمد لسير
رئيس «المنتدى الدّبلوماسي»
- اكتب تعليق
- تعليق