أخبار - 2020.04.27

فيروس كورونا "كوفيد 19": قراءة نقدية في مقتضيات مرسوم رئيس الحكومة عدد 8 لسنة 2020 مؤرخ في 17 أفريل 2020 يتعلق بتعليق الإجراءات والآجال

 فيروس كورونا "كوفيد 19": قراءة نقدية في مقتضيات مرسوم رئيس الحكومة عدد 8 لسنة 2008 مؤرخ في 17 أفريل 2020 يتعلق بتعليق الإجراءات والآجال

1. استنادا إلى القانون عدد 19 لسنة 2020 المؤرخ في 12 أفريل 2020 المتعلّق بالتفويض إلى رئيس الحكومة في إصدار مراسيم لغرض مجابهة تداعيات انتشار فيروس كورونا "كوفيد-19" (1)، أصدر رئيس الحكومة يوم 17 أفريل المرسوم عدد 8 لسنة 2020 مؤرخ في 17 أفريل 2020 يتعلق بتعليق الإجراءات والآجال" (2).

2. ومما لا شك فيه أن مساهمة هذا المرسوم مهمة لأنه يعالج بعض الشواغل المتعلقة بمجابهة فيروس كورونا "كوفيد-19" وعواقب الحجر الصحي الشامل الناجم عن الأمر الرئاسي عدد 28 لسنة 2020 المؤرخ في 22 مارس 2020، والمتعلق بتحديد الجولان والتجمعات خارج أوقات منع الجولان، وهي الشواغل التي حاولنا تلخيصها في مقال سابق نُشر في ليدرز باللغتين العربية والفرنسية(3).

ويحاول هذا المقال إبراز مضمون هذا المرسوم ونتائجه المتمثلة أساسا في اعتماد نظام خاص وشامل لجلّ الإجراءات والآجال الحالة في أثناء فترة الحجر الصحي الشامل المنصوص عليها بالنصوص القانونية الجاري بها العمل (I). 

بيد إن المتمعّن في مضمون هذا المرسوم يصطدم بعدّة نقائص تتمثّل، من ناحية أولى، في قدر كبير من الخلط في المفاهيم، وذلك نتيجة عدم استثناء هذا نظام الخاص للآجال الأعمال والالتزامات الموجبة بمقتضى الشروط التعاقدية، ما يمثّل تهديدا بالعقود والاتفاقات وما يلزم فيها من واجب تنفيذها بتمام الأمانة وحسن النية (II)؛

وتتعلّق النقائض، من ناحية ثانية، بخلوّ مرسوم القانون من أية مقتضيات تتعلّق بآثار الالتزامات ذاتها، بما في ذلك الالتزامات التعاقدية، والحال أنه كان من الأرجح لو تولّى المرسوم رفع كل التباس في التأويل بين مختلف المحاكم والهيئات التحكيمية عند النظر في النزاعات المتوقعة بهذا الخصوص، وذلك بإقرار صريح بفيروس "كوفيد - 19" بوصفه قوة قاهرة، فضلا عن الفائدة التي كانت ستحصل لو تم الإقرار صراحة بإمكانية الاستناد استثنائيا لنظرية الحوادث الطارئة من أجل السماح للأطراف بإعادة التفاوض بخصوص بعض العقود الملزمة لها، والتي قد تتأثر مستقبلا بمفعول فيروس كورونا "كوفيد-19" وما ترتّب عنه من صعوبات نتيجة قرار الحجر الصحي الشامل (III).

 I -  اعتماد نظام خاص وشامل لجلّ الإجراءات والآجال الحالة خلال فترة الحجر الصحي الشامل 

أ - مجال تطبيق المرسوم وموضوعه

3. اعتمد المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المؤرخ في 17 أفريل 2020 المشار إليه أعلاه نظاما خاصا يشمل عدة مسائل ذات الصلة بالإجراءات والآجال أمام مختلف أصناف المحاكم، ويسري على جميع العلاقات القانونية المترتبة عن الالتزامات المدنية والتجارية، ونظام الملكية والحقوق العينية، وقانون الشغل والضمان الاجتماعي، وحتى المسائل ذات الصلة بالقانون العام، ونحو ذلك من المسائل التي استند المرسوم إليها، والتي تطلّب الأمر بغاية تغطيتها بالكامل وفي معرض تقديم المرسوم ومستنداته الدستورية والقانونية، فضلا عن الدستور وخاصة الفصل 65 والفقرة الثانية من الفصل 70 منه، سرد قائمة من عشرات القوانين الأساسية والقوانين العادية والمراسيم المنظمة لها، بما يغطي جميع فروع القانون تقريبا، بما في ذلك مجلات قانونية مرجعية يعينها، على غرار مجلة الالتزامات والعقود، ومجلة الأحوال الشخصية، ومجلة المرافعات والعقوبات العسكرية، والمجلة التجارية، ومجلة المرافعات المدنية والتجارية، ومجلة التجارة البحرية، ومجلة الحقوق العينية، ومجلة الشغل، ومجلة الإجراءات الجزائية، ومجلة التأمين،  ومجلة التحكيم، ومجلة حماية الطفل، ومجلة الجباية المحلية، ومجلة الحقوق والإجراءات الجبائية، ومجلة الشركات التجارية،  ومجلة الاتصالات ، ومجلة الديوانة، الخ. 

4. وفي المقابل، اتضمّن المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المشار إليه أعلاه في مضمونه فصول معدودة، أهمها الفصل الأول منه، ومقتضاه: "تُعلّق الإجراءات والآجال المنصوص عليها بالنصوص القانونية الجاري بها العمل وخاصة تلك المتعلقة برفع الدعاوى وتقييدها ونشرها واستدعاء الخصوم والإدخال والتداخل والطعون مهما كانت طبيعتها والتبيلغ والتنابيه والمطالب والإعلامات ومذكرات الطعن والدفاع والتصاريح والترسيم والإشهارات والتحيين والتنفيذ والتقادم والسقوط. كما تعلق الآجال والإجراءات المتعلقة بالالتزامات المعلقة على شرط أو أجل.

وتعلق آجال وإجراءات التسوية والتتبع والتنفيذ المتعلقة بالشيكات.

ويترتب عن التعليق توقف سريان جميع الفوائض وغرامات التأخير والخطايا.".

5. ولم يستثن المرسوم من مجال تطبيقه إلا بعض الإجراءات الجزائية وذلك بالتنصيص بالفصل 3 منه على أنه: "لا تنطبق أحكام هذا المرسوم على آجال الطعن المتعلقة بقضايا الموقوفين وآجال الاحتفاظ والإيقاف التحفظي وإجراءات التنفيذ الخاصة بالمفتش عنهم وآجال التتبع وسقوط العقوبات"، وفي ذلك صيانة لحقوق الموقوفين ولغيرها من المصالح التي يحرص عليها قانون الإجراءات الجزائية بوجه عام. 

6. وبخصوص الفترة الزمنية المشمولة بإجراء التعليق للآجال، فقد حدّدها الفصل 2 من المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المشار إليه أعلاه بشكل واسع يسري "...بداية من 11 مارس 2020 ويُستأنف احتساب الآجال المذكورة بعد شهر من تاريخ نشر أمر حكومي في الغرض"(4)

  • وإذا كانت بداية تعليق الآجال محددة بتاريخ ثابت، وهو11 مارس 2020، تاريخ بدء منع الجولان نتيجة انتشار فيروس كورونا "كوفيد-19" قبل أن يتم إقرار الحجر الصحي الشامل بمقتضى الأمر الرئاسي عدد 28 لسنة 2020 المؤرخ في 22 مارس 2020، والمتعلق بتحديد الجولان(5) والتجمعات خارج أوقات منع الجولان ، فإن نهاية تعليق الآجال يكون "بعد شهر من تاريخ نشر أمر حكومي في الغرض". 
  •  والمقصود بذلك في رأينا هو شهر من تاريخ إنهاء حالة الحجر الصحي الشامل المعلنة(6). ومادامت حالة الحجر الصحي الشامل، المحددة في وقت أول إلى غاية يوم 4 أفريل 2020 قد تم التمديد فيها في وقت لاحق إلى غاية يوم 19 أفريل 2020، ثم إلى غاية يوم 3 ماي 202، يتم على إثره الدخول في فترة الحجر الصحي الموجّه، يسري تعليق الآجال المترتّب عن المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المشار إليه أعلاه من يوم 11 مارس 2020 إلى يوم 3 ماي 2020، زائد شهر، أي يوم 3 جوان 2020، إلا إذا ما اتجه الاعتبار أن المقصود بذلك شهر من تاريخ إنهاء حالة الحجر الصحي شاملا كان أو موجها، وهو ما قد يزيد في فترة تعليق الآجال، ما يكون مخالفا للقاعدة العامة المنصوص عليها بالفصل 540 من مجلة الالتزامات  والعقود: " ما به قيد أو استثناء من القوانين العمومية أو غيرها لا يتجاوز القدر المحصور مدة وصورة". 

7. ومهما يكن من أمر، لعلّ أهم ما ترتّب من فائدة عن تعليق الآجال بمقتضى هذا المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المؤرخ في 17 أفريل 2020 المشار إليه أعلاه هو اعتبار أي من الأعمال والإجراءات القانونية المشار إليها بالفصل الأول منه قد تم في الوقت المحدد قانونا إذا تم في غضون فترة لا يمكن أن تتجاوز، من نهاية الفترة المحددة أعلاه، الوقت المخصص قانونا للقيام. وينطبق الشيء نفسه على أي مبلغ مالي واجب التسديد قانونا لاكتساب حق أو الاحتفاظ به، مع واجب تمديد هذه الفترة بفترة تعادل مدة أي تمديد محتمل لتاريخ إنهاء حالة الحجر الصحي الشامل.

8. ويبقى واضحا مع ذلك أن الغرض من المرسوم ليس إلغاء أي عمل أو إجراء شكلي حلّ أجل القيام به خلال الفترة أعلاه، وإنما يتعلّق الأمر باعتبار العمل أو الإجراء القانوني المنفذ في غضون فترة التمديد أو الإمهال نافذا وليس متأخرا.

9. وفي المقابل وعلى أي حال، لا ينطبق المرسوم عدد 8 لسنة 2020 مؤرخ في 17 أفريل 2020 المذكور أعلاه والخاص بتعليق الإجراءات والآجال خلال فترة الحجر الصحي الشامل على: 

  •  الأعمال والإجراءات القانونية التي تم حلول أجلها قبل يوم 11 مارس 2020؛
  • الأعمال والإجراءات القانونية التي حدد أجلها لما بعد شهر من تاريخ الحجر الصحي الشامل ونشر أمر حكومي في الغرض.

ب - سريان تأجيل الآجال على طرق إنهاء العقود المستمرة أو تجديدها

10. لم يتضمن المرسوم عدد 8 لسنة 2020 مؤرخ في 17 أفريل 2020 المذكور أعلاه أية أحكام بالنسبة للعقود المستمرة التي يحل أجلها المسقط خلال فترة الحجر الصحي الشامل والتي يخشى في صورة عدم التنبيه من أحد الطرفين على الآخر في الوقت المحدد لها أن تعتبر مجددة بصفة ضمنية، على غرار عقد الكراء الذي يحمل على تجديده بعين الشروط السابقة وعين المدة المذكورة في الكراء الأول (الفصل 793 من م ا ع). ورغم سكوت المرسوم أعلاه، وبالنظر إلى الصبغة العامة الوارد بها تأجيل الآجال بالفصل الأول من المرسوم أعلاه، يمكن اعتبار أنه تم تمديد تاريخ الإعلام بإنهاء العقود إذا تزامن مع فترة الحجر الصحي الشامل إلى غاية شهر من انتهاء تاريخ الحجر الصحي الشامل ونشر أمر حكومي في الغرض.

II - الخلط في المفاهيم 

أ – عدم استثناء الأعمال والالتزامات الموجبة بمقتضى الشروط التعاقدية تهديد لمبدأ الأمانة وحسن النية في المادة التعاقدية

11. لم يقتصر تعليق الآجال بمقتضى الفصل الأول من المرسوم عدد 8 لسنة 2020 مؤرخ في 17 أفريل 2020 المذكور أعلاه على الإجراءات المتعلقة برفع الدعاوى وتقييدها ونشرها واستدعاء الخصوم والإدخال والتداخل والطعون والتبيلغ والتنابيه والمطالب والإعلامات ومذكرات الطعن والدفاع والتصاريح والترسيم والإشهارات والتحيين والتنفيذ والتقادم والسقوط، وإنما تعدّى ذلك ليشمل أيضا " الآجال والإجراءات المتعلقة بالالتزامات المعلقة على شرط أو أجل"، والحال أنه كان ينبغي  ألا يمتد ذلك، من حيث المبدأ، إلى الأعمال والالتزامات المتضمنة في العقود ونحوها من الاتفاقات والتي كان من الأولى أن يتواصل تنفيذها طبقا للآجال المحددة  فيها، بما في ذلك خاصة تسديد الثمن المتفق عليه، وفقا للقاعدة المنصوص عليها بالفصل 242 من م ا ع: "ما انعقد على الوجه الصحيح يقوم مقام القانون فيما بين المتعاقدين ولا ينقض إلا برضائهما أو في الصور المقررة في القانون".

ب – وجوب تدابير خاصة ببعض عقود الكراء

12. ومن بين الاستثناءات الذي كان من المفروض أن يقتصر عليها تعليق الآجال التعاقدية بمقتضى المرسوم عدد 8 لسنة 2020 مؤرخ في 17 أفريل 2020 المذكور أعلاه هو إقرار تدابير خاصة لفائدة بعض المكترين تتعلق بدفع معينات الكراء، بما يشمل خاصة المؤسّسات الصّغرى والمتوسّطة والنّاشطين الاقتصاديين للحساب الخاص من أشخاص طبيعيين وأصحاب مهن حرّة الذين تضرروا من تباطؤ نشاطهم نتيجة إجراءات الحجر الصحي الشامل والذين شملتهم الإجراءات المتخذة لفائدتهم من قبل الحكومة، على غرار تأجيل دفع الأداءات والمساهمة في الضمان الاجتماعي، وكذلك الشأن بخصوص بعض المستأجرين المتضررين والمشمولين بتدابير المساعدة الاجتماعية الخاصة التي اتخذتها لفائدتهم الحكومة، على غرار العمّال المحالين على البطالة الفنية(7)، والأشخاص من الفئات الهشة ومحدودي الدخل والفئات ذات الاحتياجات الخاصة، بمن فيهم المستأجرون الأجانب الذين تعترف الحكومة بصعوبة الأوضاع التي يمرّون بها واتخذت لصالحهم بعض تدابير الحماية، مما يحتاج مزيدا من الدعم، بما في ذلك عدم الاقتصار على مجرد "دعوة مالكي العقارات إلى تأجيل خلاص معينات الكراء المستوجبة لشهري أفريل وماي تأسّيا بالأخلاق العالية وروح التضامن الإنسانين" لأن ذلك يبقى" مجرد دعوة" ولا يرتقي إلى مستوى الحقوق المضمونة قانونا، التي تتطلّب تعليق العمل بمقتضيات مجلة الالتزامات والعقود وغيرها من القوانين ذات الصلة بمادة عقود الكراء خلال كامل فترة الحجر الصحي العام، ومنحهم إمكانية تأجيل خلاص معينات الكراء المستوجبة لكامل فترة الحجر الصحي الشامل(8).

ج - اعتماد نظام خاص لطرق التنفيذ والعقوبات المدنية المترتبة عن الاخلال بالالتزامات التعاقدية

13. فضلا عن بعض عقود الكراء، ومن بين الاستثناءات التي كان من المفروض أن يقتصر عليها المرسوم عدد 8 لسنة 2020 مؤرخ في 17 أفريل 2020 المذكور أعلاه في المادة التعاقدية هو إقرار إخضاع العقود لأحكام خاصة تحدّد نظام الغرامات والشروط الجزائية والفسخ، ونحوها من العقوبات المدنية المترتبة عن الإخلال بالتزام في غضون فترة محددة، والتي ينبغي اعتبارها غير ذات فاعلية، إذا كان هذا الإخلال بالتزام قد حصل خلال فترة الحجر الصحي الشامل.

14. وكان ينبغي أن ينص المرسوم، في الوقت نفسه، على أن هذه الالتزامات ستنفذ وأن تكون لهذه البنود آثارها من انقضاء فترة شهر واحد بعد نهاية تلك الفترة إذا لم يكن المدين قد نفذ التزامه قبل تلك المدة. وفي غضون ذلك، ينبغي تعليق العمل بالعقوبات وبالشروط الجزائية التي كانت ستدخل حيز النفاذ قبل يوم 11 مارس 2020 خلال كامل فترة الحجر الصحي الشامل.

وبناء عليه، فإن الدائنين المتمتّعين بحق ممارسة أي من طرق التنفيذ القهرية والشروط الجزائية في الفترة ما بين 11 مارس 2020 وشهر من تاريخ الحجر الصحي الشامل ونشر أمر حكومي في الغرض، يحرمون من هذه الوسائل خلال كامل هذه الفترة.

15. ويبقى واضحا مع ذلك أن تأجيل طرق التنفيذ وتعليق سير نظام العقوبات المدنية، بما في ذلك الشرط الجزائي، خلال فترة الحجر الصحي الشامل لا يعني أن المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المذكور أعلاه يلغي إمكانية التنفيذ وقت حلول الأجل المتفق عليه صلب العقد، بل وطبقا لمقتضيات الفصل 145 من م ا ع، يجدر التذكير بأن "الأجل يعتبر شرطا في منفعة المدين وبناء على ذلك يسوغ له أن يعجّل بوفاء ما تعهّد به إن كان مسكوكا...".

III - النقائص

16. لم يتضمن المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المؤرخ في 17 أفريل 2020 المذكور أعلاه أية أحكام تعترف صراحة بفيروس كورونا بوصفه "قوة قاهرة"، والحال أنه كان من المتجه إقرار ذلك رفعا لكل التباس في التأويل وتفاديا للنزاعات المتوقعة بهذا لخصوص (أ). كما كان من المفيد في ذات الوقت أن يعتمد المرسوم نظرية الحوادث الطارئة، التي لا تزال غير معروفة في القانون التونسي، من أجل السماح للأطراف بإعادة التفاوض على بعض العقود الملزمة لهم، أو حتى قطع علاقاتهم التعاقدية (ب).

أ - عدم الاعتراف صراحة بفيروس كورونا بوصفه "قوة قاهرة"

17. ينص الفصل 282 م ا ع على أنه: "لا يلزم المدين بتعويض الخسارة إذا أثبت سببا غير منسوب إليه منعه من الوفاء أو أخّره عنه كالقوة القاهرة والأمر الطارئ ومماطلة الدائن".

ويعرّف الفصل 283 م ا ع، من ناحيته، القوة القاهرة التي لا يتيسّر معها الوفاء بالعقود بأنها: " ...كل ما لا يستطيع الإنسان دفعه كالحوادث الطبيعية من فيضان ماء وقلة أمطار وزوابع وحريق وجراد أو كغزو أجنبي أو فعل الأمير...".

18. وبطبيعة الحال، لم يُذكر وباء "كوفيد - 19" على وجه التحديد؛ ولكن، من ناحية، فإن الظواهر المذكورة أعلاه في الفصل 283 من م ا ع جاءت في الواقع على سبيل الذكر لا الحصر، ومن ناحية أخرى، فإن هذا الوباء وما نتج عنه من تدابير حجر صحي شامل يدخل في باب الأحداث التي يستحيل التنبؤ بها، ولا درؤها، وهو على أي حال حدث خارج عن إرادة المدين، ما يجعله يقوم مقام القوة القاهرة وفقا لأحكام الفصل 283 من م ا ع المذكر أعلاه.

19. وهنا بالذات تكمن الفائدة التي كانت منتظرة لو تولّى المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المذكور أعلاه رفع كل التباس في التأويل بين مختلف المحاكم والهيئات التحكيمية عند النظر في النزاعات المتوقعة بهذا لخصوص وذلك بإقرار صريح بفيروس كورونا "كوفيد - 19" بوصفه قوة قاهرة.

20. وفي سياق متّصل، كان ينبغي أن يعتمد المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المذكور أعلاه معنى واسعاً بخصوص آثار القوة القاهرة تتمثّل، حسب الحالات، إما في استحالة تنفيذ العقد، أو في تعليق تنفيذه مؤقتا فقط، ما لم يكن التأخير الناتج عن ذلك يبرّر إنهاء العقد. وإذا كانت الاستحالة نهائية، يترتب عليه إنهاء العقد من أصله، وإخلاء الطرفين من التزاماتهما بموجب أحكام الفصلين 282 و283 من م ا ع.

21. ويبقى حينئذ للقاضي تقدير، في كل حالة، ما إذا كان فيروس كورونا "كوفيد - 19" وما ترتّب عنه من معوقات نتيجة قرار الحجر الصحي الشامل والمحتج به من أحد الطرفين للحصول على الإعفاء من التزاماته التعاقدية، يجعل من المستحيل على المدين الوفاء بهذه الالتزامات أم هل أنه يقتصر على تعليق أداء تلك الالتزامات، بما ينجرّ عنه وجوب الوفاء بها بمجرد رفع حالة الحجر الصحي الشامل.

الحالات التي تجعل من المستحيل الوفاء بالالتزامات التعاقدية:

22. يمكن من ضمن هذه الحالات الإشارة إلى الأمثلة التالية، وهي ليست حصرية: 

  • العاملون في مجال نقل البضائع الخاصة الذين لا يُسمح لهم بالعمل وبأداء خدماتهم بسبب قرار الحجر الصحي الشامل؛ 
  • الفنانون الذين لا يستطيعون أداء عروضهم في المسارح وغيرها من الفضاءات لأنها مغلقة أمام الجمهور...

وهذا يعني أن الأمر يتطلّب النظر في كل حالة على حدة لمعرفة ما إذا كان من الممكن للمدين أن يفي بالتزامه او يستخدم بديلا في الوقت المناسب.

ب – عدم إقرار نظرية الحوادث الطارئة وإمكانية مراجعة بعض العقود

24. خلافا لأغلب النظم المقارنة، بما في ذلك القانون الفرنسي الذي تخلّى عن موقف الثابت لمدة أكثر من قرنين والذي شهد تحوّلا جذريا بمقتضى الفصل 1195 (جديد) من المجلة المدنية المنقح بالمرسوم عدد 131 لسنة 2016 مؤرخ في 10 فيفري 2016(7)، ظل القانون التونسي لا يعترف صراحة بنظرية الحوادث الطارئة وما توفّره من إمكانية أن يقوم أحد طرفي العقد بطلب مراجعته كلما طرأت حوادث لا تجعل تنفيذ العقد مستحيلا وإنما من شأنها أن تثقل كاهله وتلحق به خسارة فادحة. مع ذلك، وبصرف النظر عن مسألة القوة القاهرة، ينبغي أحيانا إجبار الطرفين على إعادة التفاوض بشأن العقد الملزم لهما إذا طرأ تغيير غير متوقع في الظروف التي كانت محيطة بالعقد وقت إبرامه العقد.

25. ومن ثم، كان من المفيد لو أتاح المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المذكور أعلاه ، بطريقة استثنائية، إمكانية أن يطلب أحد طرفي العقد من المتعاقد معه إعادة التفاوض ومراجعة بعض بنود ذلك العقد نتيجة حدوث فيروس كورونا وتدابير الحجر الصحي الشامل التي أعقبته، إذا ما أدى هذا التغيير في الظروف التي لم يكن بالوسع التنبؤ بها عند إبرام العقد إلى إثقال كاهله بطريقة غير مناسبة بالمرة، ما يخلّ بصفة واضحة بالتوازن التعاقدي بين الطرفين ويمكن أن يكون مخالفا لما يجب في الوفاء بالالتزامات من ضمان مبدأ حسن النية والإنصاف بين طرفي العقد، طبقا لمقتضيات الفصل 243 من م ا ع.

26. وفي الوقت ذاته، ينبغي أن يلزم الطرف الذي يطلب مراجعة العقد وإعادة التفاوض حول البعض من شروطه بمواصلة الوفاء بالتزاماته أثناء إعادة التفاوض. وفي صورة رفض مراجعة العقد من الطرف المقابل أو فشل المفاوضات بين الطرفين، ينبغي منحهما حق إنهاء العقد، في التاريخ وطبق الشروط التي يحددانها، أو أن يطلبا من القاضي المضي قدما في التوصل إلى اتفاق بينهما. وفي حالة عدم وجود اتفاق في غضون فترة زمنية معقولة، ينبغي أن يكون للقاضي الحق، بناء على طلب أحد الطرفين، في تنقيح بنود العقد أو إنهائه في التاريخ والشروط التي يحددها.

 

(1)الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 31، 12 أفريل 2020، ص 894.

(2)الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 33، 18 أفريل 2020، ص 928.

(3)راجع:

- حاتم قطران، "وباء كورونا -كوفيد 19: أي مراسيم لمجابهة نتائج الحجر الصحي الشامل على العلاقات المدنية والتجارية"،  ليدرز العربية، 13 أفريل 2020.

Hatem Kotrane, «Quels décrets-lois pour remédier aux conséquences du confinement sanitaire total dans les relations civiles et commerciales», Leaders 11 avril 2020.

(4) هذه الفترة – شهر- هي ذات الفترة المحددة في فرنسا، على سبيل المثال، بموجب المرسوم عدد 306 لسنة 2020 المؤرخ في 25 مارس 2020 المتعلق بتمديد الآجال النهائية المستحقة خلال فترة الطوارئ الصحية وتكييف الإجراءات خلال الفترة نفسها (المادة 1) 

- Ordonnance n° 2020-306 du 25 mars 2020 relative à la prorogation des délais échus pendant la période d'urgence sanitaire et à l'adaptation des procédures pendant cette même période (Article 1).

(5)أمر رئاسي عدد 28 لسنة 2020 مؤرخ في 22 مارس 2020 يتعلق بتحديد الجولان والتجمعات خارج أوقات منع الجولان، الرائد الرسمي للبلاد التونسية عدد 24، 22 مارس 2020.

(6)وهذه الفترة – شهر- هي ذات الفترة المحددة في فرنسا، على سبيل المثال، بموجب المرسوم عدد 306 لسنة 2020  المؤرخ في 25 مارس 2020 المتعلق بتمديد الآجال النهائية المستحقة خلال فترة الطوارئ الصحية وتكييف الإجراءات خلال الفترة نفسها (المادة 1) 

- Ordonnance n° 2020-306 du 25 mars 2020 relative à la prorogation des délais échus pendant la période d'urgence sanitaire et à l'adaptation des procédures pendant cette même période (Article 1).

(7)راجع مقالنا "دليل معاضدة جهود الدولة في مجابهة وباء الكورونا "كوفيد 19" وانعكاساته على عقود الشغل والعلاقات المهنية: تدابير الحماية والتوصيات"، ليدرز 25 مارس 2020.

(8)راجع مقالنا "هذا نحن وهذه هي قِيَمُنا ! حول بيان وزارة الداخلية بخصوص وضعية الأجانب المقيمين في تونس"، ليدرز 04 أفريل 2020.

 

حاتم قطران

أستاذ بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.