أخبار - 2020.04.27

محمد إبراهيم الحصايري: سـدّ النهــضـة الإثيـوبي حين تفقد هِــبَةُ النّيل هَيْبَتَــهَا

محمد إبراهيم الحصايري: سـدّ النهــضـة الإثيـوبي  حين تفقد هِــبَةُ النّيل هَيْبَتَــهَا

أيّامًا معدودةً بعد فوز آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي بجائزة نوبل للسلام بعنوان سنة 2019،» لجهوده من أجل تحقيق السلام والتعاون الدولي، وخاصّة لمبادرته الحاسمة لحلّ النزاع الحدودي مع إريتريا  «، خاطب برلمان بلاده يوم الثلاثاء 22 أكتوبر 2019 بشأن «سدّ النهضة»فقال: «لا توجد قوّة قادرة على منعنا من إتمام بناء السدّ... وإذا كانت ثمَّةَ حاجةٌ لخوض حرب فيمكننا حشد ملايين... وإذا تسنّى للبعض إطلاق صاروخ، فيمكن للبعض الآخر استخدام قنابل. لكنّ هذا ليس في صالح أي منّا...»

وقد جاء هذا الخطاب ردّا على تلويح مصر بنقل خلافها مع إثيوبيا حول السدّ إلى مجلس الأمن الدولي ومجلس السلم والأمن الإفريقي، لحماية مصالحها المائية، فأثار ضجّة واسعة النّطاق في القاهرة التي أعربت عن صدمتها من لهجته التصعيدية، ورأت فيه تهديدا صريحا من رجل كان أقسم للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في جوان 2018، على عدم المساس بأمن مصر المائيّ.

وقد كان ذلك أمرا طبيعيا، فهذا الخطاب انتقل بالسّجال السياسي الدائر بين البلدين منذ سنوات عديدة إلى استخدام سجلّ حربيّ صريح وخطير، وهو يؤشّر على وصول المفاوضات التي كانت جارية بين البلدين منذ شروع إثيوبيا سنة 2011 في بناء السدّ، وخاصة خلال السنوات الخمس الأخيرة، إلى طريق مسدود، وعلى نزوع أديس أبيبا، وهي توشك على الانتهاء من البناء، إلى التشدّد في التعاطي مع هذا الملف الشائك.

وقد تجسّم هذا التشدّد، لاحقا وبصورة واضحة في امتناع إثيوبيا عن المشاركة في اجتماع المفاوضات النهائية الذي استضافته واشنطن يومي 28 و29 فيفري 2020، وعن التوقيع على الاتفاق الذي صاغته الولايات المتحدة في ضوء المفاوضات التي جرت بين الدول الثلاث (إثيوبيا ومصر والسّودان) خلال الاجتماعات الأربعة التي عقدها وزراء الموارد المائية بمشاركة ممثلي الولايات المتحدة والبنك الدولي.

وفي حين حضرت مصر الاجتماع ووقّعت على الاتّفاق بالأحرف الأولى، علّلت إثيوبيا تغيّبها بأنّ «فريق التفاوض لم يكمل مناقشاته مع الخبراء المحلّيين وأصحاب المصالح في إثيوبيا»، كما أعلن وزير خارجيتها في 03 مارس 2020 أنّ بلاده «عازمة على الشّروع في ملء خزان السدّ بدءا من شهر جويلية المقبل».

والأمر المؤكّد، في نظر الملاحظين، أنّ تعلّل إثيوبيا بالحاجة إلى مزيد من الوقت لاستكمال مناقشاتها الداخلية، ليس مقنعا، وإنّما هو تعلّة تتذرّع بها من باب المماطلة والتسويف.

إنّ إثيوبيا تنظر إلى «سدّ النهضة» الذي تُقَدَّرُ كلفته بخمسة مليارات دولار والذي سيكون أكبر سدّ في إفريقيا وعاشر السدود في العالم من حيث إنتاج الطاقة الكهرومائية على أنّه مشروع الأمة الإثيوبية التي يربو تعدادها على 105 ملايين نسمة معظمهم تحت خط الفقر، وهو بالنسبة إليها كالسدّ العالي بالنسبة إلى مصر، فهي تعوّل عليه في تحقيق نهضة تنموية شاملة لاسيما وأنّه يُنْتَظَر، عند بدء تشغيله، أن يمكّنها من إنتاج ستّة آلاف ميغاوات من الطاقة الكهربائية، أي ما يوازي ما تنتجه ستّ منشآت تعمل بالطاقة النووية، وهو ما سيجعلها أكبر دولة مصدِّرة للطاقة في إفريقيا...

ثم إنّها تعتبر أنّ الاتفاقيات الدولية التي وزَّعت حصص مياه نهر النيل والتي أُبْرِمَت سنوات 1902 و1929 و1959 ليست سوى اتفاقيات «استعمارية» لأنّها أُبْرِمَت في عهد الاستعمار، ولأنّها لم تأخذ مصالحها بعين الاعتبار، بالرغم من أن 80 % من مياه النيل تسقط فوق أراضيها وأنّلها حقّا أصيلا في استخدامها.

وفي هذا السّياق يجدر التذكير بأنّ اتفاقية سنة 1929 منحت مصر حقّ الاعتراض على أيّ مشاريع إنشائية على طول مَجْرَى النّيل وروافده، أمّا اتّفاقية سنة 1959 التي جاءت تعضيدا لاتفاقية سنة 1929، فقد منحتها 55,5 مليار متر مكعّب، ومنحت السودان 18.5 مليار متر مكعب، أي ما يساوي على التوالي 66% و22% من إجمالي تدفّقات مياه النيل التي تبلغ 84 مليار متر مكعّب...

وانطلاقا ممّا تقدّم فإنّ إثيوبيا تعتبر أنّها ليست مُلْزَمَة باحترام ما جاء في هذه الاتفاقيات، ومع ذلك فإنّها أبلغت مصر أنّ مَلْءَ خزّان السدّ الذي يتّسع لـ74 مليار متر مكعّب سيتمّ في فترة زمنيّة معقولة ومتماشية مع غزارة أو شحّ الأمطار ومع منسوب فيضان النيل.

ومع التأكيد على أنَّ الحلّ الوحيد للخلاف مع مصر هو المفاوضات ثم المفاوضات، فإنّ إثيوبيا تقول على لسان وزير الخارجية إنّ «الأرض أرضنا، والمياه مياهنا، والمال الذي يُبْنَى به سدّ النهضة مالنا، ولا قوَّةَ يمكنها منعنا من بنائه»، أما التحذيرات المصرية المتكرّرة «فليست في صالح الجميع».

في المقابل تؤكّد مصـــر أنّ مشـــروع السدّ يشكّل «تهديدا وجوديّا» لها، وتشدّد على أنّه لا يمكن لدول حوض النّيل بناء سدود إلَّا بالتشاور معها وموافقتها، وهي تلاحظ أنّ حصّتها الإجمالية من مياه النيل تكاد تفي بالحد الأدنى من احتياجاتها خاصة وأنّ تعداد سكانها وصل إلى 100 مليون نسمة، وأنّ حصّة الفرد المصري من المياه انحدرت إلى حوالي 700 متر مكعّب سنويًّا، في حين أنّ حدّ الفقر المائي الذي حدّدته الأمم المتحدة هو 1000 متر مكعّب سنويًّا.

وهي تخشى إنْ أصرّت إثيوبيا على إتمام عمليّة المَلء في خمس سنوات وليس عشر أو سبع سنوات كما تريد هي، أنْ يؤدّيَ ذلك إلى بَوَارِ قُرابة مليون فدّان من الأراضي الزراعية، وإفقار أكثر من خمسة ملايين مزارع يعملون فيها، والإضرار بِبُحيرة ناصر، وبالسدّ العالي لقلّة المياه التي ستصل إليه واللاّزمة لتشغيل توربيناته المولِّدة للكهرباء. 

وإلى ذلك، فإنّ مصر تعتبر أنّ الاتّفاقيات الدولية المُنَظِّمة لجَرَيَان مياه النيل مُلْزِمة وأنّ إلزاميّتها مستمرّة، وأنَّ القول إنّها وُقِّعَتْ في عهد الاستعمار قولٌ لا يُعتدّ به، فهي اتفاقيات يجب أن تُحْتَرم كما تُحْتَرم، على سبيل المثال، اتفاقيات ترسيم الحدود كما هي حتى لا تفتح القارة الإفريقية على نفسها بابًا لا ينغلق من الحروب والنزاعات الحدودية.

وعلى هذا الأساس فهي تصرّ على ضرورة أن تَحْتَرم دول المنبع حصتها من المياه، وأن تعترف بحقّها في الموافقة المسبقة على أيّ منشآت تقام على طول نهر النيل أو أي من روافده، ومعنى ذلك، كما ترى القاهرة، أنّ سيادة إثيوبيا على نهر النيل الأزرق الذي يجري في إقليمها، وسلطتها على إدارة وتشغيل وملء سدّ النهضة باعتباره يقع في أرض إثيوبية، وتم تشييده بأموال إثيوبية، ليستا مُطْلَقَتَيْن، وأنّ ملكيّتها الخالصة للسدّ لا تحرّرها من ضرورة الالتزام بمبدإ الاستخدام المُنْصِف لمياه نهر النيل، ومبدإ عدم الإضرار بالغير في استخدامها.

وبناءً على كلّ ذلك فإنّ الدّولة المصرية بكل مؤسّساتها، كما أكّد الرئيس عبد الفتاح السيسي في الخامس مـــن أكتوبــــر 2019، مُلتزمة بحماية حقوقها في مياه النيل، ومستمرّة فى اتخاذ ما يلزم من إجراءات على الصعيد السياسي، وفى إطار محدّدات القانون الدولي لحماية هذه الحقوق.

ومن خلال الموازنة بين رؤيتيْ البلدين، يمكن أنْ نلاحظ أنّهما على طرفي نقيض، وأنّ الفجوة بينهما شاسعة، ففي حين يتّسم موقف أثيوبيا بالتصلّب والتصعيد، يتّسم موقف مصر بنوع من الرّخاوة واللّيونة الزائدتين، ويبدو أنّ ذلك راجع إلى إدراكها أنّ «سدّ النهضة بُنِي َوَقُضِيَ الامر»، وأنّه لم يَبْقَ أمامها إلاّ التسليم بالأمر الواقع.

إنّ مصر التي سمّاها هيرودوت «هِبَةَ النيل» فَقَدَتْ، على ما يبدو، هَيْبَتَها في التعامل مع هذا الملفّ الشائك، وذلك لأسباب عديدة لعلّ أهمّها التالية:

1 - أنّها أخطأت وارتكبت خللا «استراتيجيا» عندما وقَّعت مع السودان وإثيوبيا في مارس 2015 بالخرطوم اتفاق «إعلان المبادئ» الذي فتح المجال أمام أديس أبيبا لبناء السدّ، ذلك أنّها تسرّعت في التوقيع قبل أنْ تستكمل  المشاورات اللازمة وقبل الانتهاء من الدراسات المتعلّقة بأضراره المتوقَّعَة.

ثم إنّ هذا الاتّفاق الذي تمّ التوصّل إليه بعد مفاوضات مُضنية كان في صالح إثيوبيا حيث أنه مكّنها من وثيقة قانونية تقرّ بحقّها في بناء السدّ.

ولا شكّ أنّه نصّ على أنّ الدّول الثّلاث مُطالَبَة باتّخاذ كافة الإجراءات اللازمة «لتجنّب التسبّب في ضَرَر ذي شأن خلال استخدامها للنيل الأزرق (أي النهر الرئيسي)»، كما نصّ على التزامها بالتسوية السلميّة لـ»منازعاتها الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتّفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقاً لمبدإ حسن النوايا»، مع اللجوء إلى الوساطة الخارجية في حال عدم التوصّل إلى اتفاق، غير أنّ هذين البندين جاءا فضفاضين وغير مُلْزِمين.

2 - أنّها لم تُحسن إدارة علاقاتها مع السودان الطرف الثالث المعني بسدّ النهضة، حتّى يكون سندا لها في هذا الملفّ، فهي لم تَحُلَّ بَعْدُ الخلاف الحدودي القائم بينهما.

ثم إنَّ سدَّ النهضة الذي سيساعد على ضبط جريان المياه أثناء فيضان النيل، سيعود بالنفع على السودان حيث أنّه سيمكّنه من التزوّد بالكهرباء بأسعار اقتصادية، كما سيساعده على حلّ مشكلة الطمي الذي يسدّ التّرع والقنوات، ممّا سيخفّف عليه عبء تطهيرها...

ولذلك كلّه، لم يكن غريبا أن يتحفّظ السّودان على القرار الذي أصدره مجلس وزراء الخارجية العرب في 05 مارس 2020 لدعم موقف مصر في مفاوضاتها مع أثيوبيا بشأن سدّ النهضة.

3 - أنّها لمْ تَعُدْ تتمتّع بذات الثّقل السياسي الذي كانت تتمتَّع به في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وحتّى توقيعها على اتّفاقيات كامب ديفيد، سواء داخل البيت العربي أو داخل البيت الإفريقي، وهو ما يُضْعفُ قدرَتها على المواجهة السياسية والديبلوماسية مع إثيوبيا التي ما فتئت تعزّز مكانتها على الصّعيدين الإقليمي والدولي.

4 - أنّها بِحُكْمِ دخولها في محاور عربية ضدّ أخرى، وبحكم تورّطها في العديد من النزاعات البيْنية العربية لم يَعُدْ بإمكانها أن تعوّل على دعم عربي شامل وفعّال لموقفها، خاصة وأنّ بعض المصادر تؤكّد أنّ حليفتيها الأساسيّتين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تتعاونان مع إثيوبيا، وتسعيان إلى تعزيز علاقاتهما بها، وتدعيم استثماراتهما فيها وبالذّات في المشاريع الزّراعية في منطقة سدّ النهضة.

والغريب أنّها بالرّغم من ذلك، وبالرّغم من إدراكها أنّ قرارات جامعة الدول العربية لا تسمن ولا تغني من جوع، فإنّها استصدرت خلال الدورة الأخيرة لمجلس وزراء الشؤون الخارجية العرب قرارا يرفض أيّ مساس بحقوقها التاريخية في مياه النيل، ويدين أيّ إجراءات آحادية قد تقوم بها أثيوبيا لملء خزّان السدّ.

5 - أنّها، عندما خيّم الجمود على المفاوضات بينها وبين إثيوبيا، بعد أن كانت قدّمت لأدبس أبيبا في أوت 2019 رؤيتها بشأن قواعد ملء وتشغيل سدّ النهضة، فضّلت توسيط الولايات المتحدة من أجل كسر هذا الجمود، في حين أنّ إثيوبيا كانت تريد توسيط اتّحادية روسيا، فلقد طلب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من الرئيس دونالد ترامب وساطته عند لقائهما على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2019.

وفي حين وَثِقَتْ مصر في رعاية الولايات المتحدة للمسار التفاوضي، وفي «الدور البنّاء» الذي يمكن أن تلعبه في مساعدة أطراف الخلاف على التوصّل إلى الاتفاق المنشود، يبدو أنّ إثيوبيا كانت أميل إلى التحفّظ، وبالفعل، فإنّها توّجت تحفّظها بالامتناع عن المشاركة في اجتماع المفاوضات النهائية والتوقيع. 

وهي لم تكْتَفِ بذلك، بل إنّها أعربت عن «خيبة أملها» من البيان الذي أصدرته وزارة الخزانة الأمريكية بعد فشل الاجتماع، وأبدت فيه معارضتها للبدء في ملء السدّ دون إبرام اتفاق بين الدول الثلاث (مصر وإثيوبيا والسودان)، مؤكّدة على قلق دولتي المصبّ من تشغيل السدّ، قبل استكمال جميع تدابير السلامة اللازمة للتشغيل وفقا للمعايير الدولية.

وقد وصفت أديس أبيبا هذا الموقف الأمريكي بأنّه «غير مقبول على الإطلاق»، واتّهمت واشنطن بتجاوز دورها كمراقب محايد، وقالت إن المعلومات التي تمّ تزويد الرئيس الأمريكي بها عن السدّ، غير دقيقة وغير ملائمة.

وفي بيان مشترك أكّدت وزارات الخارجية والطاقة والمياه الإثيوبية أنّ أديس أبيبا ستبدأ في مطلع موسم الأمطار هذه السنة أي في جويلية المقبل، عمليّة ملء خزّان سدّ النهضة بالتوازي مع استكمال البناء، وذلك استنادا إلى حقّها في الاستخدام العادل والمنصف لموارد النيل.

ولاحقا قرّر مجلس الوزراء الإثيوبي عدم المشاركة في أيّ مفاوضات بشأن السدّ قد تضرّ بمصالح البلاد الوطنية.

غير أنّ وزير الخارجية الإثيوبي الذي وصف البيان الأمريكي بأنّه «غير دبلوماسي»، خفّف من حدّة هذا الموقف حين أعلن أنّ بلاده ستستمر في المحادثات التي تجري بوساطة أميركية، إلا أنّه حذّر واشنطن من تسريع العملية أو محاولة التأثير على نتائجها.

والحقيقة أنّ أديس أبيبا ما كانت لِتُقْدِم على التغيّب وعلى انتقاد واشنطن، بكلّ هذه الحدّة، لو لم تكن تعلم جيّدا أنّ الضغط الأمريكي المتوقَّعَ عليها سيكون محدودا ولا تأثيرَ حاسمًا له.

ويستبعد الملاحظون في هذا السّياق أن تمارس الولايات المتحدة ما يكفي من الضغوط على أثيوبيا من أجل إقناعها بأنّ عدم الوصول إلى اتفاق لن يكون في صالحها، أو في صالح المنطقة بأكملها، ومن أجل دفعها إلى تليين موقفها وتقديم التنازلات المطلوبة، بل إنّه من غير المستبعد أن تنتهي واشنطن إلى تكريس الوضع القائم، وإلى فرضه على القاهرة من منطلق أنّ الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة كانت وما تزال تستهدف إبقاء مصر في حالة ضعف مستمرّة حتى لا تشكل أي شكل من أشكال التهديد لإسرائيل... 

وهكذا فإنّ طلب مصر وساطة أمريكا بالرغم من الحديث المتواتر عن «وجود تفاهمات إثيوبية إسرائيلية أميركية لحرمانها من حصتها من مياه النيل» يشكّل مظهرا آخر من مظاهر الخلل الاستراتيجي في تعاملها مع هذا الملف.

6 - أنّها، إلى ذلك، لا تستبعد حتّى إمكانيّة اللجوء إلى توسيط إسرائيل رغم كل ما يروج عن دورها في خلق الخلاف وتغذيته، ففكرة مشروع سدّ النهضة، كما تؤكد مصادر متعدّدة، هي بالأساس فكرة إسرائيلية لها أهداف معلنة وأخرى خفيّة وهي تصبّ كلّها في إبقاء مصر ضعيفة مهدّدة في وجودها بسبب الأزمات المتلاحقة التي تعيشها.

إنّ إسرائيل التي ترتبط بعلاقات تاريخية قديمة مع الدولة الأثيوبية منذ عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي، ما انفكّت تحاول تطويق مصر بحزام معادٍ لها من الجنوب، وفي هذا النطاق تنزّلت الدّراسات المشتركة الأثيوبية الإسرائيلية الأمريكية التي تم إنجازها فيما بين 1958 و1964 بخصوص إقامة سلسلة من السدود ومنها سدّ النهضة في27 موقعاً في إثيوبيا... غير أنّ هذه الدراسات ظلّت حبيسة الرّفوف، ولم تجد طريقها نحو التنفيذ في ذلك الوقت لأنّ مصر كانت أيّام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مَهِيبَةَ الجانب حتّى إنها استطاعت، في تلك الفترة بالذات إبرام اتفاقية سنة 1959 لتقاسم مياه النيل، وهي الاتفاقية التي ترفض أثيوبيا،اليومَ، الاعتراف بها.

بَيْدَ أنّ إسرائيل التي تريد، من ناحية أولى، أن تحافظ على الجبهة المصرية هادئة آمنة باستمرار، ومن ناحية ثانية أن تواصل التغلغل، اقتصاديا وأمنيا، في القارّة الإفريقية، خاصة بعد أن تحقّق انفصال جنوب السودان عنه، دأبت طيلة العقود التي أعقبت التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد على العمل بالتنسيق مع حلفائها ومع البنك العالمي وحتى مع أصدقائها الجدد في منطقة الخليج على المساهمة في تمويل وإنجاز المشاريع الكبرى في إفريقيا التي يمكن أن تحقّق لها هاتين الغايتين، وقد كان مشروع سدّ النهضة على رأسها.

وليس غريبا في ضوء ذلك أنّ الحكومة الإثيوبية تعاقدت مع شركة «رافيـــــل» الإسرائيلية المتخصّصة في الصناعات الحربية، للتزوّد بمنظومة الصواريخ الدفاعية Spyder-MR لتأمين السدّ، والمنطقة المحيطة به من أي هجمات جوّية أو صاروخية، كما عهدت إلى شركات إسرائيلية أخرى تعمل في مجالات قواعد البيانات والاتصالات من أجل تأسيس الشّبكات الخاصة بالسدّ.

وتأسيسا على جملة ما تقدّم من معطيات، فإنّ الملاحظين يرون أنّ مصرستكون، وهي في وضعها الراهن، بحاجة إلى أن تعمل، مضطرّة لا مختارة، على التوصّل مع أثيوبيا إلى حلّ سلمي عبر التفاوض، ولا شيء غير التفاوض، وأن تتجنّب أيّ شكل من أشكال التصعيد، وألاّ تصغي إلى بعض الأطراف التي بدأت، بعد فشل المفاوضات، تتحدّث عمّا تسمّيه نُذُرَ الحرب التي بدأت تلوح في الأفق، وكأنّها تدعو إلى الحرب، وتحرّض عليها، وتوسوس لكلا الطرفين باللّجوء إليها...

وحتى يظلّ النيل الخالد، كما أكّد الرئيس عبد الفتاح السيسي في بعض خطاباته «يجري بقوة رابطاً الجنوب بالشمال برباط التاريخ والجغرافيا»، فإنّه سيكون من الضروري للقاهرة ولأديس أبيبا على حد سواء أن تتوقّفا عن تبادل الاتهامات بالمسؤولية عن الخلاف بينهما، وأن تستبعدا أيّ تلويح بإمكانية اللجوء إلى استخدام القوّة أو التهديد باستخدامها، لأنّ الحلّ لا يمكن أن يكون عسكريا، بل إنّ الخيار العسكري لا يمكن إلاّ أن يعقّد الوضع.

على أنّ القاهرة ستكون مدعوّة، بالتّوازي مع ذلك، وعلى المدى المنظور،إلى القيام بعملية «تحشيد دبلوماسي» قويّة، على كافة الأصعدة، إقليميا وقارّيا ودوليا، مع الاعتماد على خطاب مُقنع ذي مصداقية وبعيد عن المبالغة في تقدير الأضرار المتوقَّعَة، وذلك حتى تدفع المجتمع الدولي إلى التحرّك من أجل ممارسة الضغوط اللاّزمة على إثيوبيا لكي لا تشرع في ملء خزّان السدّ دون اتفاق معها، ومن أجل مساعدة الجانبين على حلّ خلافهما سلميّا، وإن لزم الأمر البحث عن صيغة ما لدعمها ماليا وفنّيا جبرا لما سينجم لها من أضرار عن أيّ نقص في كمية المياه التي ستصلها عند تشغيل السدّ.

ثم إنّها، مستقبلا، ستكون بحاجة ماسّة إلى أن تراجع سياساتها وأن تعدّل خياراتها على الصّعيدين العربي والإفريقي أوّلا، وعلى الصعيد الدولي ثانيا، حتى تخلع من رَقَبَتِها رِبْقَةَ الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية عليها، وحتّى تسترجع مكانتها ودورها الريادي وخاصّة هيبتها المفقودة في المنطقة وفي العالم...

فهل ستفعل؟..

إنّنا نأمل ذلك، فما أحوجَ المنطقة بعد زلازل «الرّبيع العربي» إلى بناء معادلات جديدة تعيد إليها التّماسك والتّوازن بعد طول ارتباك واضطراب.

محمد إبراهيم الحصايري

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.