أخبار - 2020.04.20

الطيب البكوش: من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج - جلسة 12 جوان 1981 (الحلقة الرابعة)

الطيب البكوش: جلسة 12 جوان 1981 من منظمة العمل الدولية إلى قصر قرطاج (الحلقة الرابعة)

كنت أشرت عرضا خلال الحلقة الأولى إلى ملابسات انتخابي أمينًا عاما للاتحاد العام التونسي للشغل، كما أشرت في بداية الحلقة الثانية إلى "حل إشكال انتخاب الأمين العام في مؤتمر قفصه.

وأعلنت في نهايته عن مقابلة الرئيس يوم 12 جوان 1981، بعد عودتي من جنيف حيث مثلث الاتحاد في الجمعية العامة لمنظمة العمل الدولية. لكني رأيت أن أخصص الحلقة الثالثة لمفاجآت مؤتمر قفصه التي لا يعرف ملابساتها إلا من شارك فيه أو حضره، ولأنها تفسر إلى حدّ كبير ما سأذكره في الحلقات الموالية. لذلك أعود في هذه الحلقة الرابعة إلى ذكر ما وعدت به سابقا.

عندما رجعت من جنيف وجدت إعلاما بأن مدير المراسم الرئاسية عبد المجيد القروي اتصل بي في منزلي يوم 3 جوان ليدعوني باسم الرئيس إلى الغداء معه، بحضور محمد غديره (رئيس اتحاد الفلاحين) والفرجاني بالحاج عمار (رئيس اتحاد الصناعة والتجارة) ، وفي اليوم الموالي لعودتي اتصل بي وزير الداخلية ادريس قيقة وهنأني على نجاح مهمتي في جنيف معتبرا إشعاع الاتحاد إشعاعا لتونس في الخارج. وأشعرني بلغة دبلوماسية أن الرئيس يكون مسرورا إن حدثته بنفسي عن ذلك، دون أن يكون الأمر كما لو كان تقريرا. وفجأة انتقل الهاتف من وزير الداخلية إلى السيد محمود بن حسين، وهو من المقربين من الرئيس بورقيبة،  فهنأني بدوره ثم قال: تريد مقابلة السيد الرئيس، وإذا بالهاتف يمر إلى السيد عبد المجيد القروي الذي سألني: تريد موعدا مع الرئيس؟  وعلى الفور ضبط لي موعدا على الساعة العاشرة من صباح الغد.

وكان واضحا أنها مسرحية تدور بينهم حتى أكون شكليا أنا من طلب الموعد.

ومن الغد فوجئت بوزير الداخلية يدخل معي ويحضر المقابلة.

من البداية تفاجأت باستعراض الرئيس رسالة تطعن في مؤتمر قفصه وتطالب بسراح عاشور وتدعو إلى مؤتمر استثنائي آخر وتهدد بالإضرابات وبها مجرد أسماء هياكل نقابية. وما أن ألقيت نظرة عليها حتى قلت له: هذه وثيقة مزيفة لأن جميع ما فيها بما في ذلك أسماء القطاعات والإمضاءات بخط واحد. فهي أيضا لا قيمة لها ولا تمثل إلا الفرد الذي خطها، هذا إن كان نقابيا فعلا. ثم أردفت قائلا: النقابيون يعبرون عن آرائهم بحرية في هياكلهم ولا يلجؤون إلى هذه الوسائل السخيفة. وعبرت عن استغرابي من رفع مثل هذه التفاهات إلى رئيس الدولة، فأيّد دريس قيقة كلامي قائلاً: صحيح ليس هذا من مستوى رئيس الدولة. ويبدو أن الوثيقة لم تأت عن طريق البريد وإنما عن طريق علالة العويتي كاتب الرئيس الخاص. وكان الرئيس يستمع صامتا.

بعد ذلك، عرض الرئيس وثيقة أخرى غير ممضاة تتضمن انتقادا لرئيس البرلمان الصادق المقدم لمنعه ثلاثة نواب من أخذ الكلمة لأنهم عارضوا تنقيح الدستور. ولاحظت الوثيقة أنه إذا كان الحزب عاجزا عن تحقيق الديمقراطية داخله فكيف يحققها في البلاد؟

وتضيف الوثيقة أن الشباب لم يعد مقبلا على الحزب [الحاكم] وإنما أصبح يناضل في صفوف المعارضة مثل "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين" و"حركة الوحدة الشعبية" والاتحاد العام التونسي للشغل بوجهه الجديد. فقلت معقبا على ذلك: "لا قيمة لوثيقة ليس لصاحبها الشجاعة لختمها باسمه، ويمكن لأي مجنون أن يبعث برسالة يستفز بها من يشاء.

فسأل الرئيس قيقة: من هم النواب الثلاثة؟ يجب طردهم من الحزب، فأجابه قيقة "نيتهم حسنة وليسوا من المعارضة"

فساد الجلسة صمت ثقيل. ثم التفت الرئيس إلي قائلا:" علمت أنك تريد مقابلتي. فأردت أن أخرج من مسرحية الدعوة المغلفة بطلب موعد، وقلت:" آسف أني كنت مسافرا لتمثيل الاتحاد في الجمعية العامة لمنظمة العمل الدولية بجنيف، لذلك لم أعلم بدعوتك لي للغداء الا بعد عودتي. فقال" عاد شبيه، نعاودوها" [ليس في ذلك مشكل، نعيدها]

فشرعت في الحديث عن المهمة التي سافرت من أجلها مؤكدا أن الاتحاد استرجع مكانته وأن تونس استرجعت مكانتها. ثم ركزت على النقاط التالية:

  • تهنئة الوفود المشاركة لنا على ما أنجزناه في مؤتمر قفصة.
  • اعتبارهم المسألة داخلية مادامت الأغلبية قررت ذلك.
  • لم يطالبوا بعودة عاشور وإنما طالبوا بإطلاق سراحه.

فقال هل يريدون أن أرجعه إلى سجن برج الرومي؟ هو الآن في منزله مع أهله وليس في السجن. ثم عاد إلى ما ذكره لي في مناسبة سابقة في عيد الشغل، معتبرا أن محمد المصمودي" غرّر به ونفخ فيه وأغراه فأعلن إضرابا عاما لثلاثة أيام"

فقلت له "لا بل بيوم واحد" فقال "لا بل ثلاثة أيام الخميس والجمعة والسبت "

فقلت: "لا بل قررنا إضرابا بيوم واحد ودعونا العمال لملازمة بيوتهم لاجتناب أي استفزاز، لذا فالضحايا ليسوا من العمال بل من الاطفال والعاطلين. فسكت ولم يعلّق على كلامي، فأردفت "إن النقابيين لهم مفهوم الدولة [ils ont le sens de l'Etat] ولا يمكن لأحد أن يستعمل الاتحاد ضد الدولة ومصلحة الوطن. وإنّي أرغب في أن تراعي سنّ عاشور وحالته الصحية وماضيه النضالي، فلا يجب أن يبقى في هذا الوضع".

فقال لي الرئيس بورقيبة بصوت هادئ: "سأنظر في مناسبة قادمة في إمكانية إطلاق سراحه وربما في 3 أوت [وهو عيد ميلاد الرئيس] ، لكن رجوعه إلى الاتحاد أمر انتهى ولا سبيل إليه أبدًا".

ثم انتقل الرئيس للحديث عن المعارضة وعتبة الخمسة في المئة وعن الجرائد وعن أحمد المستيري:" ماذا يريد؟ الوزارة؟ كان وزيرا"

فابتعدت عن هذا الموضوع وقلت:

"إن الوفود في جنيف عبرت لي عن ابتهاجها بتفتح النظام وتنتظر النتائج وتطبيق الوعود بالتعددية، وهي تعتبر التجربة الديمقراطية في تونس رائدة ونموذجا للعالم الثالث وتعلق آمالا على نجاحها.

ثم قلت" أنا شخصيا أرى أنه لا خوف على الشعب التونسي من التعددية بالنسبة إلى الحركات التي أثبتت وطنيتها وشعورها بالمسؤولية. لذلك يجب تمكين الجميع من إصدار صحف. بعد كلامي هذا لم يعلق الرئيس بورقيبة بل أثار موضوع الإضرابات قائلا:" إني لا أبغض شيئًا كبغضي للإضرابات الوحشية".

فعلقت على كلامه مشيرا إلى خطأ الحكومة في عهد الهادي نويرة والمتمثل في عدم تلبية أي طلب مشروع إلا بعد الإضراب. فقال:" توّ ربي يشفيه. لكن ما حقوش" [مؤكدا كلامي] فأيد قيقة بدوره كلامي.

في نهاية الجلسة التي دامت أكثر من ساعة، أثرت موضوع مؤسسة Le confort “الرفاهة" ورفض الرئيس المدير العام (م بن ع) إرجاع المطرودين رغم العفو الرئاسي- فقال: عفوت عنهم؟ فأكد قيقة ذلك. فطلب منه الرئيس بأمر المدير العام بإرجاعهم، ثم قال لقيقة وهو يشير إلي   faites lui confiance [ثقوا به] ثم قال لي: "أنا مسرور بك أمينًا عاما بهذا المستوى الرفيع والأخلاق، كفى من الكتاب العامين بالشهادة الابتدائية". وطلب مني أن أزوره "في كل وقت".

وبعد الخروج قال لي دريس قيقة وزير الداخلية  "ها إنك تحصلت على كل ما طلبت : إرجاع المطرودين، إطلاق سراح عاشور... "

وبلغني أن الرئيس حدث الولاة الذين استقبلهم بعد أيام من مقابلتي هذه عما طلبته منه وما وعدني به، ملاحظا : " هو شاب مهذب، مثقف، له مستوى" وكأنه يريد أن يسهّل عملي معهم في الجهات.

لم ألتق بالرئيس بورقيبة بعد ذلك إلا بمناسبة عيد ميلاده في 3 أوت 1981. وفي الأثناء قمت بعديد المبادرات والاتصالات لضمان تحقيق ما وعد به بورقيبة دون تحديد تاريخ بات.هذه المساعي ستكون موضوع الحلقات القادمة بما فيها لقاءات مع الأخ الحبيب عاشور والوزير الأول محمد مزالي ووزير الداخلية دريس قيقة ومحمد الناصر وزير الشؤون الاجتماعية والمنجي الكعلي الوزير المعتمد لدى الوزير الأول.

الطيب البكوش

قراءة المزيد:

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا (الحلقة الأولى)

الطيب البكوش: الحبيب بورقيبة كما عرفته، زعيما ورئيسا, عيد الشغل العالمي (الحلقة الثانية)

الطيب البكوش: مفاجآت مؤتمر قفصة 1981 (الحلقة الثالثة)

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.