أخبار - 2020.04.18

عبد العزيز قاسم: الأطبّاء هـم »أهـل مكّة« في قضيّة الحال

الأطبّاء هـم »أهـل مكّة« في قضيّة الحال

1 - لا حديث إلا عن فيروس كورونا في وسائل الاتّصال وشبكات التواصل الاجتماعي في كافة أرجاء المعمورة. أخبار وأرقام يومية عن الجائحة متلاحقة متزاحمة ومتضاربة. وككلّ الأخبار فإنّها لا تخلو من الكذب والإشاعة. فاللقاح الذي يتطلّب اكتشافه وتهيئته وتصنيعه ما يناهز السنة أو أكثر فإنّنا نقرأ كلّ يوم عن اختراعه وتجربته الإيجابية هنا وهناك. إنّها تخمة عسيرة عن الهضم فلماذا لا نترك الاختصاص لأهله. أمّا نحن فدورنا يقوم أساسا على استيعاب ثقافة الجوائح واحترام قواعد حفظ الصحّة حاضرا ومستقبلا. يجب أن يصبح غسل اليدين بموجب وبغير موجب في كلّ ساعة من ساعات النهار. ولقد سمعت أكثر من قائل يقول نحن أمة الإسلام مثال في النظافة نغسل أيدينا ما لا يقلّ عن خمس مرات في اليوم. والعلم يقول يجب غسلهما بالصابون أو ما شابه وهو ما يتنافى مع الوضوء الذي يبقى شعيرة دينية لا أكثر ولا أقلّ.

2 - مثل هذه الهزّات والأوبئة الكونية الشاملة لا تنقطع، تفصل بينها عقود تطول وتقصر وفي كلّ مرّة ينكبّ العلماء على الدراسة والتحليل والاستنتاج وإلى جانب هؤلاء يقف الفضوليون من قرّاءعلامات الساعة ونهايات الزمان. وهكذا الناس على الدوام فريقان: نخبٌ علمية تدرك أنّ الحياة تعجّ بالأحياء المجهرية الخطيرة المتفاعلة المتطوّرة فتكشفها وتجعلها من الظواهر وتطوّعها للعلاج وهناك فريق أكبر عددا وأقلّ معرفة اختصّ بتفسير الظاهر بالغيب. فالعالم في نظر هؤلاء أصبح أشبه بسدوم وعمورة فجورا وفسادا فباء بالوباء وتهيّأ للفناء. وها هي الأصوات تتعالى بأحرالأدعية المستجابة وبالابتهالات الخاشعة والأذكار المستحبة. حتى تلفزتنا لم تتخلف عن بث حلقات حزب اللطيف. ولمَ لا؟ علماء النفس يعرفون أنّ في الماورائيات ما يبعث السكينة في الأنفس القلقة. ولكن...

3 - من هذا الباب الذي لم يتمكّن الفكر العلمي من غلقه خاصّة في المجتمعات المتخلفة، تحاول السلفية الرجعية إعادة الانتشار والتموقع لمزيد المسك بزمام أمور المؤمن وبخناقه. إذا تحرك المجتمع نحو مزيد من التقدم والعدالة قالوا لا اجتهاد فيما فيه نص وإذا قضى الحجر الصحي بالبقاء بالبيوت ومنع التجمعات ولو للصلاة احتجوا بأنّ تارك الصلاة كافر والعياذ بالله وعلى العكس مما يقال فإنّ مثل هذه الجوائح تتطلب مزيد الإقبال على بيوت الله للضراعة والاستغفاروالتوبة. ولا يسعنا إلا أن نؤيد ما توجّه به الأستاذ حمادي بن جاب الله عند مريم بالقاضي إلى السيد عميد كلية الشريعة بأن لا يتدخّل فيما ليس له فيه اختصاص. فالحجر الصحي له ضوابطه وله طواقمه الطبية. وفي هذا الظرف الاستثنائي لا حاكم إلا الطبيب والطبيبة والإطارات شبه الطبية.

4 - الشعوب المتخلفة السائبة هي التي لا تحترم الحجر وساعات منع الجولان. وها نحن نرى ونسمع، رغما عن التعليمات والإرشادات الحكومية الواضحة المتكرّرة، خروج الطائشين من ديارهم نهارا حبّا في تحدي «الحاكم» وللتكبير ليلا على غرار الدواعش. إنّ عدم الالتزام بالحجر والحظر يطيل أمد الأزمة ويمدّ في أنفاس الفيروس ومثل هذا السلوك هدر لمجهودات الساهرين على أمننا الصحّي والذين أطلق عليهم اسم «الجيش الأبيض». ومن المواقف التي أذهلت العالم وزادت من إكباره للصين هو التحية العسكرية المشهودة التي حيّا بها الجيش بكامل الأبهة خروج الطواقم الطبية من مدينة يوهان بعد انتصارها على الوباء. إنّ ما نحن فيه اليوم حرب حقيقية وكل خروج من البيت خروج على القانون ولكن أكثرهم لا يعلمون. والجهل مصيبة وإذا غذّته السلفية يصبح أم المصائب.

5 - وفي حين أنّ الأطبّاء والطبيبات مكرمون مبجّلون في العالم تقول الأخبار عندنا إنّ مأوى السيارات بمستشفى الحروق البليغة بولاية بن عروس تعرّض فجر يوم الأحد 12 أفريل 2020 إلى هجوم جراثيم بشرية خرقت قوانين الحجر والحظر والمروءة والأخلاق والسلوك الحضاري إذ عمدت فئة من الأوباش والمنحرفين إلى «تهشيم بلور قرابة 15 سيارة رابضة والعبث بمحتوياتها فضلا عن إلقاء بطاقات هوية أصحابها على قارعة الطريق»، بعد سرقة كل ما يمكن الاستفادة من لبسه أو بيعه.نحن نستنكر ما حصل ونرجو أن تتولى الشرطة القبض على المنحرفين في أسرع الآجال. وبالمناسبة : متى يدرك أصحاب السيارات أنّ كل قشة يتركونها فيها تلفت نظر السرَّاق ؟ كفى تراخيا وإذا قال من حولكم قائل إنّ «الثورة» أنشأت أجيالا واعية تؤمن بالكرامة فلا تصدقوه. 

6 - الشيء بالشيء يذكر فالنفاق على قدم وساق. لقد وقع التشنيع بالسيد نبيل القروي بتهمة استغلال مدّ يد المساعدة للفقراء لأغراض سياسية وأوصلوه إلى السجن لدرء خطورته الانتخابية وها نحن نرى اليوم تجّار الدين يوزّعون أكياس السميد للغايات الانتخابية نفسها. هذه التحرّكات شبه الاجتماعية مدخل أيضا لشتم الثقافة والمثقفين. وما الحملة التي قامت ضدّ السيدة وزيرة الشؤون الثقافية لمجرّد أنّها نادت بالسماح لطواقم إنتاج المسلسلات باستئناف العمل إلا دليل على أنّ هذه الرهوط لن تتوانى عن جذب تونس إلى الوراء. قرار السيدة الوزيرة قابل للنقاش وآلمني أن تتراجع تحت ضغط السلفية الجاهلة.

7 - قبل استفحال أمر الإسلام السياسي منذ أواسط السبعينات كان المتدينون كُثْرًا يحظون باحترام الجميع. كانوا يفهمون الدين ويمارسونه على أنّه فضيلة مطلقة تدفع دائما إلى حبّ الخير وإلى فعله ما أمكن. كانت حياتهم بسيطة قائمة على الصدق والكلم الطيب. وإذا رأوا منكرا أو سمعوا عن رذيلة ازدادوا التفافا على طيبتهم ودعوا للضالين بالهداية، عملا بالمبدأ القائل بأنّ أفضل المواعظ ما كان على منوال. نحن نعيش اليوم ظاهرة تستحقّ الدراسة والمتابعة ولقد طلبت من أحد الزملاء بأن يكلّف أحد طلبته بإيلائها بعض الاهتمام. فالجماعات الدينية تستخدم خطابا يقوم على التكفير والبذاءة وقلة الحياء. وعلى رأس قائمة الملعونين عندهم، كل هياكل المجتمع المدني الحداثي: المبدعون في مختلف مجالات الفنون والآداب، والمناضلون في ميدان حقوق الإنسان، والنقابيون أو «النقابجية» في مصطلحهم جناسا وطباقا مع الورعات الطاهرات لابسات النقاب.أما إبليس في نظرهم فهو الفرنكفونية. وقديما قيل: من جهل شيئا عاداه...

8 - يوم 6 أفريل الجاري احتفلت النخب الوطنية بمرور عشرين سنة على وفاة الزعيم الحبيب بورڤيبة باني تونس الحديثة ومحرِّر المرأة. وكان لا بدّ من التذكير بإنجازاته الكبرى. للرد على ناكري فضله ومشوّهي سمعته أولئك الذين بعثوا هيكلا مُكْلِفًا خرب ميزانية الدولة باسم «الحقيقة والكرامة» زيّف الحقائق وعبث بالمال وهذا التصرف هو الآن تحت أنظار دائرة المحاسبات ونرجو أن يتم تحقيقها بكامل الشفافية. كان على رأس هذه الهيئة امرأة نكّلت ما شاء لها التنكيل بكرامة الزعيم ناسية أنّها لولا مدرسة الجمهورية ومجلة الأحوال الشخصية لأقامت في البيت محجورة بين المطبخ وترقيع جوارب الأسرة.

9 - علاوة عن كل إنجازات بورڤيبة القائمة بذاتها والمعروفة عند كل ذي عينين وأذنين أريد أن أركِّز  على ما يمتاز به عمن سواه أعني سعة معارفه الأدبية والتاريخية والفلسفية والاجتماعية السياسية باللغتين وتوظيف مخزونه الثقافي كاملا في فهم العالم والطبيعة وفي قيادة شعبه نحو الرقي والحرية. وكما قال أحد المحللين فإنّ معارضي بورڤيبة أنفسهم، وقد ذاقوا الأمرّين، هم أبناء مدرسة الجمهورية. صحيح أنّ بورڤيبة لم يركز الديمقراطية، وهو في ذلك ابن زمانه، زمان التأسيس والبناء ودرء المؤامرات، ولكنّ الحداثة التي كان يعمل على توطيد أركانها، كانت، وهو يعلم ذلك جيد العلم، مؤدّية لا محالة إلى الديمقراطية.

10 - وكبرهان إضافي على مدى ثقافة بورڤيبة وعمق استخلاصه من عبر الحكم، قدمت مؤخّرا شهادة شخصية يطيب لي أن ألخصها من جديد:

من بين البرامج الإذاعية التي كان المجاهد الأكبر يستمع إليها بانتظام، أحاديث المرحوم الحبيب شيبوب عن تاريخ الحركة الوطنية من خلال الجرائد والدوريات وكان يضمّن تلك الأحاديث تفاصيل وطرائف أهملها تراكم الأحداث ولكنها كانت تثير في نفس الزعيم خواطر تنبعث حيّة بعد نسيان. وكثيرا ما كان يعلِّق  ويستفسر ويستزيد بعد الاستماع.

ذات مرة طلب مني أن آتي إلى قصر قرطاج مصحوبا بصاحب الحديث وكانت الجلسة فرصة لتعميق البحث واستخلاص النتائج وكما هو الحال جرّنا النقاش إلى الشعر والشعراء. والمعلوم أنّ بورڤيبة كان يعتبر الشعر من سحر البيان وفيه أعمق تعبير عن مغامرة الإنسان الوجودية الكبرى. ولقد كان يحفظ قصائد كاملة بالعربية وبالفرنسية ولقد أبهر غير مرّة كبار زوّاره من الفرنسيين وهو يستظهر قصيدة ألفريد دي فينيي الشهيرة «مصرع الذئب». وفي القصيدة ما ينطبق على معاناته. وفي الجلسة تلك مرّ ذكر قصيدة وعظية طريفة خفيفة في سبعة وسبعين بيتا كان طلبة العلم في الماضي القريب من جيل بورڤيبة وما بعدده يتعلمونها وجوبا وما زالت أبيات أو أشطار منها متداولة بشكل واسع إلى يومنا هذا في محادثات العرب في كافة الأصقاع والأمصار، منها على سبيل المثال:

كلُّ مــنْ سارَ على الدرْبِ وصَلْ

إنّمـــا الحيلةُ في تــــرْكِ الحِيَـــلْ

إنّما أصْلُ الفتى ما قـــدْ حــصَلْ

اسم القصيدة «لامية ابن الوردي» لزين الدين أبي حفص عمر ابن المظفّر المشهور بابن الوردي من معرّة النعمان (1292ـ1349 ).

كان بورڤيبة يعرف ما اشتهر به الحبيب شيبوب من قوّة الذاكرة فاستعرضه اللامية فشرع يتلوها دونما تلعثم: 

اعتــــزل ذكْــــرَ الأغــــاني والغـــــزل   ***   وقُـــلِ الفَصْـــلَ وجـــانِـــبْ مـــنْ هَزَلْ

إلى أن أتمّ البيت الرابع والخمسين:

إنَّ نِصْـــفَ النـــاسِ أعــــداءٌ لِمَــــــنْ    ***   وَلِيَ الأحْكــــامَ هـــذا إنْ عــَـــدَلْ

استوقفه الرئيس وكرّر «هذا إن عدل» ثم أضاف: ما فرّط الشعر العربي من شيء وانزلق الكلام إلى المتنبي الشاعر السياسي بامتياز. هذه النادرة تدلّ على أنّ بورڤيبة كان على وعي تام بلؤم «نصف الناس». وفي اعتقادي أنّ الزعيم ما طلب من الحبيب شيبوب تلاوة القصيدة إلا من أجل هذا البيت، بيت القصيد بالنسبة إليه. وما زالت الأيام تؤكّد ذلك. وتظلّ ذكرى العظماء تعلو على التهريج والنباح. ولهذه القصة بالذات بقية...

وبالعودة إلى العنوان، كان الفكر البورقيبي يعمل بمبدأ «أهل مكة أدرى بشعابها» أي الكفاءة في كلّ اختصاص هي الحاكمة وليس بالضرورة أن يكون «أهل مكّة» من مكّة...

عبد العزيز قاسم

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.