خديجة توفيق معلّى: حتى لا ينقطع العطاء في تونس ... الطبيبة توحيدة بن الشيخ والأميرة عزيزة عثمانة نموذحاً
وأنا أطالع بسعادة بالغة خبر إصدار ورقة نقدية تونسية من فئة 10 دنانير، تحمل صورة عميدة الطبيبات والأطباء التونسيين والعرب، الدكتورة توحيدة بن الشيخ، عاد إلى ذاكرتي طيف سيدة تونسية أخرى ضربت مثلا، وحققت سبقا في مجال خدمة أبناء وبنات بلدها، في المجال الصحي بالذات، ومجالات أخرى!
أنْ تُكرَّم روحُ طبيبةِ تونس الأشهر والأسبق، وطنيا وإقليميا، الآن بالذات حيث كاملُ الإطار الطبي وشبه الطبي، معزَّزاً بأفواج من طلبة الطب، مجندٌ على الخط الأمامي لجبهة التصدي لجائحة"كوفيد-19" العالمية، ودرء خطره عن الشعب التونسي، فذلك أجمل اعتراف بالجميل لسيدةٍ نذرت حياتها للعناية بصحة مواطناتها ومواطنيها منذ العام 1936، عندما كانت تونس لا زالت ترزح تحت وطأة الاستعمار. بل إنها إختارت طب النساء، وهنَّ الشريحة الأضعف في المجتمع، لتكون لهنَّ الطبيبةَ والمرشدة. حتى إنه أُطلِق عليها لقب "طبيبة الفقراء" لمداواتها النساء الفقيرات بالمجان.
ولم يكن غريبا بعد ذلك أن تكون عمادا رئيسيا في برنامج التنظيم العائلي الشهير الذي وضعه الزعيم الحبيب بورقيبة منذ السنوات الأولى للاستقلال، خلافا لمعظم دول المنطقة والدول الإفريقية.وقد شغلت أيضا منصب مديرة الديوان التونسي للأسرة والعمران البشري. كما تحملت مسؤولية َنائبةِ رئيس منظمة الهلال الأحمر التونسي، ضاربة المثل في التطوع وخدمة وطنها في أدق المراحل التي مرَّ بها الشعب التونسي. وقد ختمت الدكتورة توحيدة بن الشيخ مسيرتها الإدارية إلى سن التقاعد في العام 1977 ، وهي تتحمل مسؤولية إدارة قسم طب النساء والتوليد في مستشفى عزيزة عثمانة.
عزيزة عثمانة، هي السيدة الأخرى ذاتُ الأيدي البيضاء على صحة التونسيين والتونسيات والفقراء منهم بالذات في القرن السابع عشر، في عهد الدولة المرادية، حين تبرعت في العام 1662، قبل وفاتها بسبع سنوات، من مالها للمساهمة في إقامة مشفى في سوق النحاس، هو الأول في مدينة تونس. وكان يُسمَّى "بيمارستان العزافين" وقد أوقفت جانبا من أملاكها لتأمين إحتياحاته في حياتها وبعد مماتها. غير إنه بعد وفاتها وفي فترة حكم محمد الصادق باي، تم بأمره في العام 1879 تحويل مقر المستشفى إلى القصبة حيث مكانُه الآن، دائما في مدينة تونس.وأُطلق عليه اسمُ "المستشفى الصادقي"، مع الاستمرار في تقديم خدماته للفقراء. كما تم الإبقاء كذلك على قسمٍ فيه لاستقبال ومعالجة المرضى النفسيين. ولم يتم إطلاق اسم عزيزة عثمانة على المستشفى إلَّا في سنة 1960، في كنف دولة الاستقلال، في عهد رئيسها الأول الزعيم الحبيب بورقيبة، عرفانا لها بالجميل وإنصافا لنبلها ولمسيرتها الخيِّرة.
والأميرة عزيزة عثمانة هي ابنة أبي العباس أحمد إبن محمد بن عثمان داي، حاكم البلاد التونسية من العام 1593 إلى العام 1610. ومن مآثرها، إلى جانب مساندتها للفقراء، أنها أوقفت أملاكها لفائدة مشاريع خيرية كثيرة في جهات مختلفة من البلاد التونسية. ومنها صفاقس التي يحمل أحد أنهج مدينتها اسمها إلى اليوم، والمهدية. كما إن لها نهجاً يحمل اسمها في حمام الأنف، وشارعا أيضا في المنزه السابع بولاية أريانة.
وممَّا يُروى عنها رهافةُ الحس والذوق، إلى جانب عطفها التلقائي على الفقراء. ومن مآثر هذه الأميرة النبيلة برفعة أخلاقها وكرمها، أنها أول من أعتق العبيد في البلاد التونسية بعتقها العبيد اللاتي والذين كانوا في حوزتها، منذ منتصف القرن السابع عشر. أي قبل قرنين من صدور أمر أحمد باي الأول الشهير في ديسمبر من العام 1842 والذي اعتبر فيه أن كل من يولد فوق التراب التونسي يُعَدُّ حراً، فلا يباع ولا يُشترى. وهو الأمر الذي سبقه أمر آخر عن أحمد باي الأول أيضا، في سبتمبر من العام 1841، والذي قضى بهدم الدكاكين التي كانت معَدّةً لعَرْضِ العبيد آنذاك للبيع في السوق المعروف بسوق البركة في العاصمة التونسية.
ومن محاسن وأطرف ما يُروى عن الأميرة عزيزة عثمانة أنها أوقفت جزءً من أملاكها كي يتم وضع إكليل من الزهور على قبرها فجر كل يوم !
تاريخ تونس يزخر بالأمثلة لسيدات جليلات مَثَّلَن نبراسا للأجيال التي لحقتهن والتي يستمدن منها قوَّتها اليوم لمجابهة فيروس كورونا، من إطار شبه طبي وطبي، يعرض نفسه يوميا لخطر الإصابة، وذلك بهدف واحد وهو حماية شعبنا من تفشي هذه الجائحة بيننا، وعلاج من أصيب به للأسف.
ما ينقص تونس اليوم هو مواصلة العطاء الذي بدأت به عزيزة عثمانة، وذلك من طرف رؤوس الأموال والأثرياء الموجوديين في تونس وخارجها. مساندتهم سوف تساهم في حماية أبناء شعبنا، وأيضا حماية أنفسهم ومكتسباتهم في آن واحد. فكلنا نعيش في نفس الزورق، والخيار لنا اليوم هو إما أن ننجو جميعا بأخف الأضرار أو أن نتعمَّد الغرق سويًّا!
التاريخ خلَّد عزيزة عثمانة مثلما خلّد عليسة والكاهنة وحبيبة مسيكة وتوحيدة بالشيخ وغيرها من من أعلام تونس، وسوف يُخلد أيضا أسماء من هذا الجيل الذين سوف يختارون الوقوف سدّا منيعا في وجه هذا الفيروس لإيقافه، ولكنه لن يتذكر اسم كل من تخاذل وغلبه جشعه للاحتفاظ بأمول طائلة، شعبنا بأشد الحاجة لها الآن...
الآن الآن وليس غدًا!
خديجة توفيق معلّى
- اكتب تعليق
- تعليق