رافع ابن عاشور: الرئاسة الواحدة أو الرئاسات الثلاثة؟ بين الوحدانية والتثليث
ترددت قبل تسليم هذا المقال للنشر نظرا لحالة الاستنفار الوطنية ضد فيروس كورونا.
لكن، وأخذا بعين الاعتبار هذه الحالة الصحية الاستثنائية التي يمر بها وطننا العزيز والتي تتطلب وحدة في الرأي والعزوف عن معارك المواقع، رأيت أنه من المفيد تقديم هذه المساهمة.
إثر إصدار المجلس الوطني التأسيسي القانون التأسيسي عدد 6 اسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011، والمتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية المعروف بـ"الدستور الصغير"،" ظهر مصطلح صار دارجا ومتداولا وهو مصطلح "الرئاسات الثلاث"، أي آنذاك رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة المجلس الوطني التأسيسي، وهو مصطلح اقتبس، على الأرجح، من التقليد الدستوري اللبناني المبني على الطائفية حيث لا يمكن لأي من هذه الرئاسات التحرك دون الأخرتين.
ونتج عن كثرة تداول هذا المصطلح نوع من الخطإ الشائع، رغم أن القانون التأسيسي المذكور، علاوة أنه لم يستعمل هذه العبارة، ورغم عدم تنصيصه صراحة على أن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، إلا أنه أقر في فصله 11 ففقرة 1، أن "رئيس الجمهورية يمثل الدولة التونسية"، مما يوحي أن للدولة رئيس واحد ولا ثلاثة رؤساء.
على كل، وإذا ما سلمنا جدلا، أن العبارة كان لها أساس بين سنوات 2011 و2013 وإن كان نسبيا من الصحة في ظل القانون التأسيسي لسنة 2011، نتساءل عن مدى الوجاهة الدستورية لمصطلح الرئاسات الثلاثة في ظل دستور 27 جانفي 2014.
نطرح هذا التساؤل لأن جدلا حام حول هذه المسألة وذلك إثر إعلان رئيس الجمهورية الحالي قيس سعيد يوم 19 فيفري 2020، عند تسليمه رسالة تكليف السيد إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة، أنه يوجد رئيس وحيد. فقد جاء على لسان رئيس الجمهورية: " سنعمل في انسجام تام، البعض مازال يتحدث عن رؤساء ثلاثة هناك رئيس دولة واحد وهناك رئيس للمجلس التشريعي ورئيس للحكومة'' وتابع قائلا: ''تفتت الدولة أو وجود بعض القوى داخلها انتهى، اليوم يجب أن ندخل مرحلة جديدة بتصور جديد مختلف وبإرادة جديدة حتى لا نقع في نفس الأخطاء التي عرفتها تونس في السابق''. وقد تولد عن هذا التصريح تجاذبات حادة، حيث رد رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس حزب حركة النهضة، راشد الخريجي الغنوشي على ورئيس الجمهورية قيس سعيد، وذلك يوم 22 فيفري 2020، وصرح " ان عهد السلطة المركزية انتهى وان ذلك لا يعني تشتيت الحكم ". وذكّر أيضا بأن "الدستور حدد صلاحيات الرئاسات الثلاث ووزع السلطة والحكم بين قرطاج والقصبة وباردو".
فهل أقر الدستور رئاسة واحدة أو أقر رئاسات ثلاثة أي هل كرس مبدأ الوحدانية أو مبدأ التثليث؟
إن الجواب على هذا السؤال يحتم علينا الانطلاق من أحد المبادئ التي جاءت في التوطئة والتي بمقتضاها أسس نواب الشعب التونسي، أعضاء المجلس الوطني التأسيسي "لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب ... وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها" ومبدأ الفصل بين السلطات لا يعني تجزئة الدولة ولكنه يقتضي تعامل السلطات فيم بينها في إطار مبدأ آخر لا يقل أهمية عن الأول وهو مبدأ وحدة الدولة وقد جاء التنويه بهذا المبدأ صلب الفصل 14 من الستور حيث "تلتزم الدولة بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني في إطار وحدة الدولة".
إثر هذا التذكير لا بد من استقراء عدد من فصول دستور 2014، المتعلقة برئيس الجمهورية. فهذا الأخير منتخب انتخابا عاما، حرا مباشرا من قبل الشعب (الفصل 75) وهو حسب الفصل 71 "رئيس الدولة " ولا أحد يشاركه في هذه الصفة ولا أحد غيره يحملها، وذلك يعنني أن رئيس الجمهورية ليس فقط أحد رأسي السلطة التنفيذية بل هو رئيس جميع مؤسسات الدولة.
وبصفته رئيسا للدولة جعل منه نفس الفصل 75 "رمز وحدة" الدولة والضامن "لاستقلالها ولاستمراريتها" والساهر "على احترام الدستور".
كما اسند الدستور لرئيس الجمهورية صلاحيات خاصة به باعتباره رئيسا للدولة وهي:
• تمثيل الدولة
• القيادة العليا للقوات المسلحة
• إعلان الحرب وإبرام السلم
• اتخاذ التدبير الاستثنائية
• المصادقة على المعاهدات
• إسناد الأوسمة
• العفو الخاص
• مخاطبة مجلس نواب الشعب
• ختم القوانين والإذن بنشرها
يتبين من خلال ما تقدم أن الدستور لم يقر رئاسات ثلاثة، بل إن للدولة، واقعا ودستورا، رئيس واحد، وهذا مبدأ راسخ في القانون الدستورالمقارن بقطع النظر عن طبيعة النظام السياسي (رئاسي أو برلماني أو غير ذلك) وبقطع النظر عن الصلاحيات التنفيذية العريضة او المنعدمة للرئيس. فملكة المملكة المتحدة هي رئيسة الدولة رغم أنها "تسود ولا تحكم"، ورغم انعدام اختصاصاتها التنفيذية. ونفس الشيء ينطبق على رئيس الجمهورية الفيديرالية الألمانية وعلى غيره من ملوك ورؤساء الدول الأوروبية البرلمانية. ففي هذه الدول، ورغم إمساك الوزير الأول (المملكة المتحدة) أو رئيس الحكومة (إسبانيا) أو رئيس مجلس الوزراء (إيطاليا) أو المستشار (ألمانيا) بكامل مقاليد الدولة تقريبا، فإن الأولوية لرئيس الدولة هو يمثلها ويضمن استمراريتها، ولا حديث عندهم عن الرئيسين أو عن الرؤساء الثلاثة. وفي المقابل فإن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية هو رئيس الدولة علاوة على أنه يمسك بكامل السلطة التنفيذية. ونفس الشيء بالنسبة لرئيس الجمهورية الفرنسية ولا يشاركهما في هذه الصفة لا رئيس مجلس الممثلين ولا رئيس مجلس الشيوخ ولا رئيس الجمعية الوطنية ولا الوزير الأول.
بقي أن نشير إلى أن مصطلح الرئاسات الثلاثة كاد يندثر ولم يعد له أي استعمال خلال المدة الرئاسية للرئيس الباجي قائد السبسي – رحمه الله – (2014 – 2019)، وذلك لانتماء "الرؤساء الثلاثة" لنفس العائلة السياسية. ورغم الاختلافات التي نشبت، خاصة بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد والرئيس الراحل، فإن مصطلح الرئاسات الثلاثة لم يبرز للوجود. لكن هذا المصطلح طفا على السطح مجددا إثر انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية، وخاصة بسبب عدم انتماء رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب إلى نفس العائلة السياسية ويبدو أن التشبث بتثليث الرئاسات من الثوابت التي يحرص عليها رئيس المجلس لمنافسة رئيس الجمهورية. وقد لاحظ المواطنون العواقب الوخيمة لمعركة احتلال المواقع هذه من خلال التعاطي مع ما تقاسيه البلاد من ظروف عسيرة بسبب تفشي وباء فيروس كورونا وما تسبب فيه الجدل العقيم حول الاختصاصات من مضيعة للوقت وارتباك في اتخاذ القرارات الحازمة.
ختاما، إذا كان التعدد والاختلاف من المقتضيات الأساسية للديمقراطية، فإن وحدة الدولة لا يمكن أن تحشر في المعركة السياسية، والجدل حول وحدانية الرئاسة أو تثليثها لن يؤدي إلا للضعف والوهن والتخاصم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
- اكتب تعليق
- تعليق