رشيد خشانة: هـل هــناك فــرصـة لمؤتــمر وطني جامـع؟
«لتغيــير الحـيـاة ينبغــــي البدء أوّلا بتغيير الحياة السياسية» (بيار بورديو)
ستبقى تجربة الانتقال الديمقراطي في بلادنا مُضعضعة ومُهدّدة، طالما ظلّت المعارك الإيديولوجية والشخصية هي الطاغية على المشهد السياسي. ويكفي أن نحتسب ما يخصّصه النواب من وقت وجهد للصراعات بين كياناتهم الحزبية، ونُقارنه بما يُنفقون من طاقة على دراسة مشاريع القوانين، والقيام بالوظيفة التي انتُخبوا من أجلها، لنُدرك قلّة المسؤولية وزيغ المؤسّسة التشريعية عن المسار الصحيح. من هذا المنظور يمكن أن نعتبر أنّ تونس تعيش، في المرحلة الراهنة، حالة ما قبل ديمقراطية. ومن تجليات تلك الحالة، الأزماتُ التي تهزّ عدّة كيانات حزبية، داخل البرلمان وخارجه، والتي لم ينجُ منها أحد تقريبا، بما فيها الحزب الذي كان يبدو الأكثر تماسكا، وقد ظهرت على صفحة جدرانه تشقّقات لا تخلو من الخطورة.
أبعد من ذلك، برزت مؤشّرات على تعطّل لغة الكلام بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب. كما أظهر الاجتماع الأوّل لمجلس الوزراء رغبة من رئيس الجمهورية في توسيع نطاق صلاحياته، مُقترحا أن يتمّ إعداد جدول أعمال مجالس الوزراء بالشراكة بين قرطاج والقصبة، وهو ما يعكس نزعة احتوائية قد تُسمّم العلاقة بين جناحي السلطة التفيذية. ولعلّ رئيس الحكومة استشعر تلك النزعة، فقال في الحوار الذي أجرته معه صحيفة «المغرب»: «الائتلاف الحاكم أنا الذي كوّنتُهُ، ولم يُكوّنه رئيس الجمهورية، وكوّنتُهُ وفق تصوّر قاعدي، ونحن نسعى إلى نيل ثقة الشعب، ولسنا في ظلّ الاستمرارية، لا في اختيار الأفراد ولا في الأولويات ولا الآليات». وأضاف بكلام أكثر حزما «نحن في قطيعة مع السابق» في إشارة إلى العلاقة المأزومة بين سلفه الشاهد والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. من هنا يبدو المشهد مُتشظيا، إن في مستوى السلطات الثلاث أو في مستوى العلاقات بين الأحزاب، بما فيها التي تشكّل الحزام السياسي للحكومة. ولا مجال لإنهاء التشظي إلا بإيجاد أرضية جامعة، تنطلق من التحدّيات والاستحقاقات التي تُواجه الجميع، وهي في الأساس استحقاقات اقتصادية واجتماعية، لكي تُطهر الحياة السياسية الوطنية من السلوكات الخرقاء، وتفرض مسطرة أخلاقية يخضع لها الجميع.
ومن المهمّ التذكير هنا بأنّ رئيس مجلس النواب الأسبق السيد محمد الناصر أطلق هذه الفكرة في كلمة وجيزة ارتجلها في حفل التكريم، الذي خصّت به مجلة «ليدرز» الوزير الأسبق منصور معلى. لكن وسائل الإعلام لم تتلقفها ولا حاولت فهم مدلولاتها وأبعادها. واقترح الأستاذ أحمد نجيب الشابي بدوره في حديث لإذاعة «شمس أف أم» صيغة حوار اجتماعي، أسوة بحوارات «غرونال» (Grenelle) في فرنسا (المُقتبسة من اسم الشارع الذي يقع فيه مقرّ وزارة العمل). وليس رئيس الحكومة بعيدا عن هذا الطرح، إذ أكّد في الحوار الصحفي المذكور، على ضرورة «تحقيق الاستقرار في البلاد لفسح المجال لحوار وطني وصيغة عقد اجتماعي جديد» .وتطرّق إلى هذا الموضوع أيضا في كلمته أمام النواب في جلسة نيل الثقة، حين تحدث عن «حلول تضمن مفاهمات على برنامج لثلاث سنوات». وأضاف : «سنُقدم في نوفمبر القادم برنامجا خماسيا بأرقام مفصّلة وموضوعية».
بتعبير آخر ينبغي أن تسبق الحوار الجامع مُفاهماتٌ على البرنامج الخماسي، وهو أمرٌ غير مؤكّد بسبب المشاحنات الصامتة بين مكوّنات الحزام، وخاصّة بين «النهضة» من جهة و«حركة الشعب» و«التيار الديمقراطي» من جهة ثانية. ويستدعي هذا الوضع إيجاد صيغة شبيهة بالحوار الوطني (2015)، لتأمين أجواء ملائمة لمناقشة البرنامج الخماسي، وتبنّيه من جميع مكوّنات الأغلبية الحاكمة، بعد استيفاء المناقشات الضرورية. وهذا يعني أن يتوافق ممثلو الأحزاب والمنظمات الوطنية، بمباركة غالبية مكونات المجتمع المدني، على مُفاهمة جديدة (New Deal)، قوامُها تجميد الأسعار وتجميد الأجور، وفرض معايير أخلاقية دنيا تُوجه بوصلة العلاقات بين الأطراف الاجتماعية والسياسية.
ودون ذلك عقبات من بينها تعثّرات المسار الانتقالي، فإذا كانت الديمقراطيات العريقة تقوم على حياة حزبية مُهيكلة ومنظّمة، فإنّ الحالة الحزبية عندنا مازالت تجرّ خلفها كثيرا من أمراض النرجسية والانفراد بالرأي والإقصاء، وهو ما أدّى إلى صراعات وتدافعات شلّت أداءها. وتشكّل استقالة السيد عبد الحميد الجلاصي من حركة «النهضة» مؤخّرا، بعدما كان استقال من منصب نائب رئيس الحركة في 28 جانفي2015 ، أبرز تجسيد لألوان المعاناة التي يلقاها المُتحزّبون داخل أحزابـ«هم»، والتي لا يبرأون منها إلا عندما يفتحون باب القفص ويُحلّقون خارجه، أسوة بما فعل الجلاصي وقبله زبير الشهودي مدير مكتب رئيس الحركة سابقا وزياد العذاري وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي السابق، الذي كان يشغل بدوره منصب الأمين العام للحركة.
في مقابل هذا المشهد البائس، تلقي التحديات الاقتصادية والاجتماعية بكلكلها على الحكومة وأحزابها، ومنها ارتفاع نسبة المديونية التي ناهزت 80 في المائة، وتعفّن ملفّ الفسفاط والحوض المنجمي، الذي يعلم الجميع أنّ استئناف إنتاجــه بالوتيرة الطبيعية، يُغنينا عـــن اللجـــوء إلى حائط الصناديق الدولية.
وتُذكّرنا العمليات الإرهابية، من وقت إلى آخر، وإن تراجعت بشكل نوعي، أنّ الخطر مازال قائما، وأنّ التهديدات تتفاقم مع تطوّر الأوضاع العسكرية في كلّ من ليبيا وسوريا، إذ يُرجح الخبراء العسكريون أن ينتقل قسم من الإرهابيين إلى جنوب ليبيا وشمال مالي، ومن بينهم عدد غير معلوم من التونسيين. وتقتضي مواجهة هذا التحدي تكاتف الجهود بين الأطراف السياسية والاجتماعية لإحباط المخططات الإرهابية، وسيكون هذا دافعا مهمّا لتكريس فكرة المؤتمر الوطني الجامع. كما أّن ملفّات أخرى لا تقلّ أهمية عن ذلك، مثل مستقبل العلاقة مع صندوق النقد الدولي وتفعيل آليات الحرب على الفساد، تستدعي هي الأخرى إيجاد توافق حولها، وإلا فلن تنجح أيّة معركة من هذه المعارك، إذا اقتصرت على دور الحكومة والمؤسّسات الرسمية للدولة.
من هذه الزاوية تغدو فكرة المؤتمر الجامع إطارا مُحفّزا ليس للأطراف السياسية والاجتماعية وحسب، وإنّما أيضا للرأي العام، الذي ما انفكت ثقته في السياسيين عموما تتآكل وتنحسر، وهو الأمر الذي يُغذّي مشاعر الإحباط واليأس، خاصّة لدى الشباب.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق