أخبار - 2020.03.15

منجي اللّوز: لـولا غـريــزة البقـاء

منجي  اللّوز: لـولا غـريــزة البقـاء

كدنا نستنفذ كلّ أوجه الحالات القصوى التي يحدّدها الدستور في تنظيم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بتجربة الذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها هذه المرة، لولا غريزة البقاء التي تحلّى بها نوّابنا الأفاضل في اللحظات الأخيرة.

ولخّص النائب فيصل التبيني في كلمات رشيقة ونافذة الوضع التراجيدي الذى كان عليه المجلس يوم عرض حكومة إلياس الفخفاخ على نيل الثقة بالقول : «لا نجتمع اليوم لمنح الثقة للحكومة، فذلك أمر حاصل، إنّما سنصوّت على عدم سحب الثقة من البرلمان لإنقاذ المجلس».

ورغم أنّ أوراق اللعبة كانت مكشوفة يومها ونتائجها معروفة مسبقا، إلا إنّ الأطوار المتقلّبة التي مرّ بها تشكيل حكومة «الشخصية  الأقدر» والاضطراب الذي أحاط بها شكّل ذروة في الأزمة المستعرة، ألقت بضوء ساطع على المحرّكات الحقيقية التي تحكم العلاقات السياسية في تونس ما بعد الانتخابات.

ففي الوقت الذي سرى فيه الاعتقاد بأنّ المرحلة الجديدة ستكون موجّهة بالتناقض بين التيار وحركة الشعب من جهة و«حركة النهضة» من جهة أخرى، لاسيّما في ضوء التجاذبات الحادة بينهما، التي شهدتها مفاوضات الصيغة الأولى لحكومة الجملي، أو أنّها ستخضع للصراع المنفلت العقال بين « الحزب الدستوري الحرّ» الذي تتزعّمه عبير موسى، و «حركة النهضة» ورأسا مع زعيمها راشد الغنو شي.

لكنّ مجرى الأحداث وتسارعها دفعا إلى مقدمة الركح مواجهة أخرى، هذه المرة بين السيد قيس سعيّد رئيس الجمهورية والشيخ راشد رئيس مجلس نواب الشعب وذلك في وقت ظنّ فيه البعض أنّ ما يوجد بين الرجلين لا يعدو أن يكون مؤاخذات لا يمكن  أن ترقى الى درجة المواجهة، بل لعلّها مجرّد خلافات داخل العائلة المحافظة ذاتها.  ولكن، فجأة تحوّل توسّم الخير الذي حدا بالنهضة إلى دعم قيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية إلى سوء ظنّ بالرجل، وإلى ما يشبه حملة مضادة على الصفحات الإلكترونية والورقية الموالية للنهضة، استخدمت فيها جميع الأسلحة، بما فيها المحظورة أخلاقيا وذلك من عيار:إنّه «رجل متوحّد» و«غريب الأطوار» و«حالم يريد تغيير العالم بإرساء نظام الديمقراطية المباشرة في تونس والتي بشّر بها الإغريق منذ القدم، ودعا إليها روسو في القرن الثامن عشر، ولكنّها لم تتحقّق الى اليوم، في أكبر الديمقراطيات وأكثرها تطوّرا.»

وهو رجل «غير قادر على إدارة حاشيته حتى يكون قادرا على إدارة بلاد»، خطواته  الأولى في قصر قرطاج كانت بمثابة «سلسلة من العثرات»، اولها إقالة الجهيناوي وزير الخارجية السابق، من دون مبرر مقنع، وثانيها إقالة ممثّل تونس الدائم لدى الامم المتحدة وممثّل المجموعة العربية في مجلس الأمن، في وقت كانت تسعى فيه إلى تقديم لائحة ضد «صفقة القرن»، التى يريد ترامب فرضها على العالم. لكن الأهمّ من كل ذلك بالنسبة  إلى منشّطي هذه الحملة هو إخفاق الرئيس في تعيين الشخصية الأقدر على تشكيل الحكومة، بعد أن أعلن إلياس الفخفاخ أنّه سيعتمد على الأغلبية الرئاسية في تشكيل حكومته، وذلك في إشارة واضحة إلى استبعاد كلّ من حزب «قلب تونس» و«لدستوري الحر»، وهو ما اعتبرته النهضة إقصاء وتقسيما للوحدة الوطنية، التي كانت تدعو إليها بقوة في نطاق مناوراتها للضغط على الفخفاخ، الذي اتخذ هذا المنحى بإيعاز من الرئيس .

وأتى الردّ على هذه الحملة الممنهجة متضمّنا كثير من الغيض والإدانة مثل القول «إنّه على علم بما يحاك ضدّه من مؤامرات في الغرف المغلقة وتحت ستار الظلام».
لكن بعيدا عن الكلام الجارح وغير اللائق ، وبصرف النظر عن صحّة هذه المؤاخذات من عدمها، من الواضح أنّنا أصبحنا إزاء مواجهة في القمة بين الحزب الأوّل الذي وإن يشكو من تراجع ثابت إلا أنّه يصمد بقوة، ورئيس الجمهورية الذي يتمتّع بشرعية انتخابية استثنائية تغذّي طموحه نحو كسب نفوذ أقوى.

ولئن غاب صراع البرامج عن هذه المواجهة نظرا لحدود صلاحيات الرئيس الدستورية، فإنّ رحاها تدور ساخنة حول الصراع على النفوذ تحت غطاء اختلاف الرؤى بشأن طبيعة النظام السياسي ومدى الالتزام بخطّ الثورة واستتباعاته على إدارة شؤون الحكم.

وغير خاف أنّ مسرح هذا الصراع هو القصبة ورهانه الأكبر هو من سيتمكّن من تحجيم دور الآخر أو بتعبير أوضح من سيحشر خصمه في الزاوية.

هل سيتمكّن قيس سعيّد المعزّز برصيده الانتخابي من وضع القصبة تحت رقابته حتّى إذا استخدم صلاحياته في ترؤّس بعض المجالس الوزارية، والحال أنّه بالكاد لا يحظى بتأييد أربعين نائبا ؟ أم أنّ «النهضة» ستقوم بالإجهاز على القصبة إن كان ذلك «سلما أو حربا»؟ كيف لا وهي التي أتقنت فنّ المناورة أثناء مختلف الملابسات التي حفّت بتشكيل حكومة إلياس الفخفاخ وتزكيتها، وتمكنت في آخر المطاف من ضرب عصفورين في آن واحد:  الأوّل باستبعاد شبح الانتخابات السابقة لأوانها والتي ربما كان خصمها يترصّد وقوعها والتمركز في قلب الأغلبية الحاكمة. والثاني بعقد تحالف آخر مواز يسير في الاتجاه المعاكس مع « قلب تونس» و«ائتلاف الكرامة» يمثّل هو أيضا أغلبية برلمانية. وبذلك تكون النهضة قد أمّنت ظهرها وأصبحت تحكم في الصحو والمطر.

إزاء هذه الوضعية الشاذّة سيجد إلياس الفخفاخ نفسه أمام خيارين أحلامها مرّ: فإمّا أن يذعن طوعا لمشيئة النهضة وينفّذ جميع طلباتها، خاصّة المتعلّقة منها بفكّ الارتباط مع قصر قرطاج، فيفقد بذلك ماء الوجه ويتنكّر لمن كان صاحب الفضل عليه. وإمّا أن يرفض الخضوع لها وعندها سيعرّض نفسه وحكومته إلى لائحة سحب الثقة التي ضمنت النهضة شروطها ومالاتها.

ومع ذلك وإذا تمّ اللجوء إلى سحب الثقة في غضون الستة أشهر المقبلة، يبقى أمام رئيس الحكومة منفذ الاستقالة قبل انعقاد الجلسة العامة ليعيد المبادرة مرة أخرى إلى رئيس الجمهورية ويضع النهضة مجدّدا في موقع حرج.

حقاً إنّها لحالة غريبة وفريدة من نوعها، أن تكون النهضة في نفس الوقت في قلب الأغلبية الحاكمة وفي مركز أغلبية أخرى معارضة، وهو وضع لا نجد له تفسيرا سوى في قدرة النهضة على المراوغة، وفي الطابع الهجين للنظام السياسي الذي يعطينا بعد كل انتخابات رئيساً يتمتع بشرعية أقوى من شرعية الحزب الأول، وفي نظام الاقتراع الذي لا يسمح بتشكيل أغلبية منسجمة لضمان الاستقرار الحكومي.

الآن خرجت تونس من أزمة حكومية دامت قرابة الأربعة أشهر وها هي تستقرّ للمرة الثانية في حالة مساكنة سياسية بين الأضداد. وإذا قامت التجربة الأولى تحت عنوان الوفاق الوطني بين حزبي النداء والنهضة وبين الشيخين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي ومع ذلك عاينا حجم الأضرار والخسائر التي خلّفتها على جميع المستويات، فإنّ هذه الدورة الجديدة من المساكنة في الحكم تنذر بأن تكون سخنة ومحكومة بالنزاع الحادّ بين رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس الجمهورية. وسيكون لهذه الصيغة غير المحتملة  آثار بليغة على الاستقرار السياسي والحكومي لتونس ولكنّها ستكون خاصة أداة تعطيل للإصلاحات التنموية الكبرى التي ينتظرها التونسيون منذ عدّة سنوات.

منجي اللّوز

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.