خديجة معلَّى: ما وراء الظاهر... أسباب جوهرية

خديجة معلَّى: ما وراء الظاهر... أسباب جوهرية

تعوزني عبارات الشكر والإمتنان التي تليق بكَمِ المحبة الصادقة التي غمرني بها العدد الهائل من المواطنات والمواطنين، من مواقع مهنية وإجتماعية مختلفة، من مختلف جهات البلاد ومن خارجها، بعد اللقاء التلفزيوني الدافيء بالتلقائية والصدق الذي جمعني بالصحفية القديرة السيدة مريم بلقاضي مساء الخميس 5 مارس على قناة الحوار التونسي. فقط أقول، أحبكن وأحبكم.

وحبكم هو الشحنة الدائمة لي فيما قلت وفيما كتبت من مقالات وما أدرت من تدريبات على القيادية، إلى جانب العديد من الأنشطة الأخرى التي أقوم بها سواء على المستوى الشخصي أوالمهني. ومن تحب أهل بلدها بأصالة، يسكنها فقط حب غير مشروط لوطنها وإحساس دفين بوجوبية التحرك العاجل لإنقاذه.

ومن منطلق شعوري بالمسؤولية، أودُّ كذلك أن أضيف في هذا المقال، أو بالأحرى في هذه التحية، عناصر جوهرية لما عرضته في ذلك اللقاء التلفزيوني. لقاء أردته عرضا إجماليا للوضع الخطير الذي يعيشه بلدنا، ودعوةً إلى وجوب تظافر جهود الوطنيات والوطنيين فيه من أجل إنقاذه. هذا، مع التركيز على ضرورة إعادة الإعتبار للثوابت التي أرستها دولة الإستقلال بزعامة الرئيس الأول للجمهورية التونسية، الحبيب بورقيبة، من تعليم وصحة وضمان لحقوق للمرأة وفصل الديني عن السياسي وتوحيد القضاء وإعتماد القانون الوضعي فقط. وقد أردت أن يكون حديثي سلسا بسيطا مشعا بروحه الإيجابية والتفاؤلية كي يَمُسَّ عموم الشعب، وخاصة نخبه السياسية الوطنية، فيكون بمثابة ناقوس الخطر من أجل الإستفاقة وتدارك الأخطاء قبل فوات الأوان، وإن كان الوقت متأخراً. وهي الرسالة التي تلقفها وأدركها الكثيرون والكثيرات من شرائح المجتمع المختلفة، والتي كانت محل الحديث في وسائل النقل العمومي، في صباح اليوم الموالي، مما أفرحني وزاد من شحنة أملي في غد مشرق قريب لتونس.

وهذا مبعث إبتهاجي الباعث على المضي قدما وإضافة العناصر التالية في هذه الورقة لتتوضح الرؤية أكثر في إنتظار إطلالة إتصالية أخرى، أتمنى أن لا تتأخر كثيرا، لأتعمق في شرح هذه العناصر التي أراها جوهرية في تحقيق فهم عميق ومكتمل لما نعيشه من فوضى على الصعيدين السياسي والإجتماعي، ولأسبابها، حتى نتبين طريق الخلاص بدعائمه الضرورية.

إن التغني بالديمقراطية، والمفاخرة بأننا فتحنا الباب على مصراعيه للولوج إلى نادي البلدان العريقة فيها، لا علاقة له بالديمقراطية الحقيقية التي هي أكبر وأوسع  وأعمق من مجرد صندوق الإقتراع، لم يعد محل إهتمام الأغلبية وتُشترى وتُباع فيه الأصوات على قارعة الطريق. فعلا، إن الإكتفاء بإعتبار مظاهر الفوضى وضياع القيم وتراجع هيبة الدولة وإنتشار الفساد والإحتيال والغش، مع صعود بعض رموزه إلى السلطة، هي مظاهر طبيعية ترافق كل إنتقال ديمقراطي، ومآلها إلى الزوال، أراه كلاما فيه كثير من التجني، ومجانبا للحقيقة، سواء عن قصد أو عن جهل.

إن أولى المزالق الخطيرة التي وقعنا فيها ولم نتفطن إلى خطرها من البداية، هو مزلق التشكيك في الدولة الوطنية، بمؤسساتها ورموزها. وهو ما شجع من لا يؤمنون بالدولة القُطرية ويدعون إلى دولة الأمة الدينية، على الإستخفاف بها وترذيل ممثليها ومؤسساتها. وقد فُتح ذلك الباب واسعا أمام التجاوزات والإنحرافات والخروج عن القانون، وبالتالي الدولة. وفي مناخ هذا الإنفلات نمت وترعرعت بكتيريا وفيروسات الفساد بكل أنواعه. فإنتشرت وبسرعة في كل أرجاء البلاد، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وبين مختلف الفئات، عموديا وأفقيا، وأيضا دون إستثناء جميع مفاصل الدولة. فكيف للمواطنات والمواطنين أن ينجوا من بلواه؟؟
يجب ن تتجه أولى خطوات الإنقاذ إلى الدولة ومؤسساتها، وهذا يستلزم شروطا واجبة، تتمثل في العناصر الأكيدة التالية:

1. سد الثغرات المنتشرة في الدستور، وفك الفخاخ فيه، ومن بينها الخلط السائد بين الفصل الأول والفصل الثاني منه، إلى جانب الفخاخ الأخرى الملغمة والتي زرعت عن قصد أو بدونه.

2. بعث هيئات الرقابة والمحاسبة الدستورية والمستقلة مع ضمان حرية عملها وعلنية تقاريرها وقراراتها لعموم الشعب، والتنصيص على لزوم تنفيدها.

3. ضمان علوية القانون بعدله والحزم في إنفاذه على الجميع، بكل شفافية وعلنية وسرعة.

4. عقد لقاء وطني يجمع مختلف الأحزاب والمنظمات الإجتماعية النقابية والحقوقية من أجل إبرام ميثاق خلاص وطني تُعلن تفاصيله للشعب، وتكون من بنوده:

الإلتزام بفصل السلط وإستقلالها، على خلاف ما يحدث الآن من خلط مشين وعلني، بدون حسيب أو رقيب، مع إنخراطها في الحفاظ على السيادة الوطنية والذود عن هيبة الدولة ومنع أي تدخل في عمل أي سلطة من تلك السلط.

أن يكون تقديم برنامج دقيق ومفصل إلى هيئة خبراء مستقلة لتقييمه والنظر في مدى قابليته للتنفيذ وعدم تضاربه مع مصلحة الوطن، إجراءً وجوبيا، على أي حزب أو شخص يريد التقدم إلى خوض إنتخابات مهما كان نوعها، مع ضمان المتابعة الدورية وإعلان النتائج بكل شفافية.

5. رسم خطة إصلاحية عاجلة لقطاعات التعليم والصحة والثقافة والفلاحة والبيئة ومختلف المؤسسات العمومية، وضمان دبلوماسية تضاهي أقوى الدبلوماسيات التي يقرأ لها ألف حساب.

6. إن كل المهام التي ذكرت جانبا منها في هذه الورقة، هي موكولة للدولة. وفي إنجازها ضمن إستراتيجية وطنية تحوز على مشاركة وموافقة الأطراف السياسية والإجتماعية الفاعلة في البلاد. وهذه المهام هي الكفيلة بإعادة الإعتبار للدولة وللقانون، كي تضمن إيقاف الفوضى وتصحيح مسار السعي نحو ديمقراطية تشاركية مواطنية حقيقية وليست هذه المغشوشة التي دوخت وأحبطت شعبنا والتي هي بصدد الإتجاه بالبلد نحو الهاوية التي سوف يصعب علينا الخروج منها.

كل هذا يستدعي لامحالة توفير آليات تشريعية ومادية سأتولى إيلاءها ما تستحق من شرح في مناسبات أخرى. ولعل لقاء تلفزيونيا أو إذاعيا قادما يساعد في تحقيق جانب كبير من هذه الغاية.

ومهما يكن، وبكلمة في الآخر، أقول: بلا إصلاح الدولة بكل مؤسساتها، لاخير يمكن أن يُرجى من ديمقراطية صورية، تقوم على الفساد والإزدراء بالقانون والمؤسسات. ونكاية في التضليل، يروج البعض لفكرة "المناداة بالحزم في تطبيق القانون، تخفي دعوة إلى عودة الإستبداد" ! أما أنا فأقول وأعيد، إن بناء الثقة يمرُّ عبر ضمان قانون عادل نافذ على الجميع وبحزم، في ظل دولة مدنية منيعة وقوية، وهذا الصرح يمكننا من أن نبني ديمقراطية بكل مكوناتها، وأن نضمن التنمية والإزدهار لشعبنا.

المجد لشهداء الوطن والعزة لتونس!

وللحديث بقية...

خديجة معلَّى
 
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.