أخبار - 2020.03.09

عامر بوعزة: إصلاح الإدارة أم إصلاح الإنسان؟

عامر بوعزة: إصلاح الإدارة أم إصلاح الإنسان؟

منذ أن تسلمت الحكومة الجديدة مهامها اتجهت الأنظار بقوة إلى وزارة الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد، وذلك لثلاثة أسباب على الأقل: أولها سياسي يتعلق بالدور الذي لعبه حزب التيار الديمقراطي في مسار تشكيل الحكومة الصعب وتمسكه بحقيبة تعنى بالإصلاح الإداري. السبب الثاني تاريخي، فوجود محمد عبّو في أول حكومة بعد الثورة ارتبط في أذهان التونسيين بتغيير توقيت العمل وتمكين الموظفين من يومي عطلة في الأسبوع في إطار مباشرته ملف الإصلاح الإداري الذي كان منفصلا عن الحوكمة ومكافحة الفساد، وقد اعتبرت تلك التغييرات ثورية في إبانها وان كانت بعض الآراء تعارضها إلى الآن، لكن محمد عبو ظل يفسر استقالته من حكومة الجبالي بعدم تمكينه من تنفيذ رؤيته الإصلاحية بكامل الصلاحيات وهي رؤية لا تقتصر على تغيير جزئي في توقيت العمل، وها هو يعود إلى الخطة ذاتها لكن في سياق سياسي مختلف نسبيا. أما السبب الثالث فسياسوي يرتبط بالنقطتين السابقتين، إذ من الواضح أن وزراء التيار الديمقراطي هم الأكثر عرضة من غيرهم لنيران الإشاعات والأكثر استهدافا للرشق بالأخبار الزائفة التي لا يبذل التونسيون كثيرا من الجهد للتثبت فيها، وأولى تلك الأخبار الحديث عن إلغاء العمل بنظام الحصة الواحدة في شهر جويلية! والإشاعة أيضا لا تنظر إلى الإصلاح الإداري إلا من زاوية توقيت العمل فقط.
في المقابل وأمام هذا الوضع غير المريح لوزارة لا يختلف اثنان في أهميتها وفي خطورة الدور الذي يمكن أن تقوم به، قامت مصالح الرقابة التابعة لها بجولات تفقدية في الإدارات العمومية خلال فترة العمل المسائية أعلنت إثرها عن اكتشاف نسبة تغيّب عالية في صفوف الموظفين ودعت إلى الانضباط واحترام القوانين، وهو ما يدلّ على أن هذه الوزارة لم تضيّع كثيرا من الوقت قبل الانقضاض على أكثر الملفات إثارة لاهتمام الجميع: ملفّ إنتاجية الإدارة، وهو ملف وإن كان يمكن تناوله زجريا بتسليط عقوبات صارمة على المتهاونين. فإنه من الضروري النظر إلى ما ينطوي عليه من أبعاد عميقة تتصل بعلاقة الموظف بالإدارة ونظرة الإنسان للعمل. فالتهاون قد يكون سببا في تراجع المردودية لكنه في الأصل نتيجة لأسباب متعدّدة ومتشابكة ينبغي البحث فيها ومعالجتها.

من هذه الأسباب ما يتعلق بالتوقيت الإداري، فالقاعدة المعروفة تقسّم يوم العمل إلى ثلاث فترات متساوية، ويفترض ألا يتجاوز الحيز الزمني الذي يخصّصه الانسان للعمل ثلثَ اليوم، لكن التونسيين وبسبب نظام الحصتين يخصصون أكثر من هذا الحيز، فالموظف يعتبر على ذمة العمل منذ لحظة خروجه من البيت حتى لحظة خروجه من الإدارة عند نهاية الدوام. وكثير من الموظفين لا يعودون إلى بيوتهم في فترة الراحة التي تتخلّل الحصتين بسبب مشاكل النقل العمومي وازدحام المرورفي أوقات الذروة، من ثمّة قد يمثل التهاون في الإدارة ردّ فعل إزاء توقيت لا يراعي حاجة الإنسان إلى الراحة النفسية والفيزيولوجية وإلى حيز معقول للحياة العائلية، وهو تهاون لا يقف عند حدود التأخير في الحضور والتبكير في الانصراف بل يتجاوز ذلك إلى التغيب بلا مبرر والإفراط في العطل المرضية.

لقد برزت على السطح متلازمة الإنتاج والإنتاجية في الإدارة التونسية منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي مع الأزمة الاقتصادية التي عصفت بحكومة محمد مزالي، ومنذ ذلك الحين تشكّلت أيضا في المخيال الجمعي صورة نمطية عززتها الأعمال الدرامية والسكاتشات الهزلية يبدو فيها الموظف دائما شخصا متهاونا وقابلا للإرشاء، في بيئة إدارية مليئة بكل أشكال العنف الرمزية، كالوشاية والوصولية، في حين ترتبط النزاهة بالبؤس، ولا تجلب لمن يمثلها التعاطف بقدر ما تثير السخرية. ولئن كانت هذه الصورة تعبر عن جزء من الواقع اليومي فهي ثقافيا امتداد لصورة أعم رسختها الدراما الشرقية عن الفساد والتهاون في المرفق الإداري العمومي، ونجدها بكثرة في أدب الكاتب التركي الساخر «عزيز نسين» في نقده اللاذع للبيروقراطية ذات الجذور العثمانية المهيمنة على الإدارة التركية الحديثة. وهو ما يعني أن الظاهرة لا يختص بها مجتمعنا،بل تتعلق بالبيروقراطية بوصفها أسلوب حوكمة ونظام حياة في عدة مجتمعات لم تجار العصر كما ينبغي.

والإدارة غالبا ما تتذرع بالقوانين واللوائح عند الردّ على ما يوجه إليها من تهم بتعطيل التنمية والاستثمار. ولا تنظر عند اتهام الموظفين بالتهاون إلى فضاء العمل وآلياته ومدى مواكبته روح العصر وما إذا كان الموظف يشعر بجدوى الدور الموكول إليه في مكينة الإنتاج التي يمثل جزءا منها، كما لا تنظر إلى الوظيفة ذاتها وإلى الحيز الذي توفره لإطلاق قدرات الإنسان الكامنة في الموظف، فكثير من الوظائف الآن أصبحت متاحة الكترونيا ولم يعد يؤدي القيام بها يدويا إلا إلى المزيد من التخلف التكنولوجي واستعباد الإدارة المواطن والموظف على حد سواء. ولا جدوى من مطالبة الموظف بالانضباط في الحضور والانصراف إذا لم يكن ذلك مرتبطا بالإخلاص في العمل لأن حضور الموظف جسديا كامل الوقت لا يعني بالضرورة تحسن المردودية المهنية في غياب حوافز حقيقية للاجتهاد والإبداع، وتثمين التنافس وتطوير الأداء وهو ما يمكن متابعته عبر منظومة تقييم ذات كفاءة عالية لا يتوقف دورها عند إسناد الأعداد لتبرير المنح الدورية.

لن يتمكن الإصلاح الإداريمن خلق بيئة مناسبة للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد بإجراءات زجرية سهلة ومؤقتة بل بتغييرات ثورية عميقة، أول هذه التغييرات اعتبار الإنسان جوهر أي إصلاح. فقد حان الوقت للتخلي نهائيا عن الأحكام المسبقة التي تعتبر كل موظف متهاونا ومذنبا بالضرورة والذهاب بدلا عن ذلك لتفسير العدوانية المتفشية في الإدارات العمومية بين الموظف والمواطن وبين الموظف والإدارة بأسبابها الحقيقية المتصلة بنمط المجتمع الاستهلاكي وتراجع القدرة الشرائية وانحسار حيز الحياة الخاصة والإرهاق النفسي والجسدي الذي تلحقه المدينة بالإنسان. وقد يكون ضروريا الآن حشد الطاقات لدراسة جدوى العمل بنظام الحصتين كامل العام لا من ناحية المردودية الاقتصادية فحسب بل من ناحية جودة الحياة ونظرة الانسان إلى ذاته وإلى عمله وتصوره الذاتي للسعادة.فمقاربة التهاون في معزل عن حاجات الانسان الأساسية ومنها الحاجة إلى التسلية والراحة النفسية والتواصل الاجتماعي والأسري الحقيقي لا الافتراضي في مجتمع يمرّ بتحولات عاصفة لا على الصعيد السياسي فحسب بل على مختلف المستويات قد تكون بمثابة المسكّن الذي يخفف الأوجاع دون التصديلأسباب الداء الحقيقية.

عامر بوعزة
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.