أخبار - 2020.03.08

ورقات من كتاب الباهي الأدغم: الـزعـامة الـهادئة ذكريـات وشهـادات وخـواطر

ورقات من كتاب الباهي الأدغم: الـزعـامة الـهادئة ذكريـات وشهـادات وخـواطر

مقابلتي الأولى مع الجنرال ديغول

«كان وصولي إلى باريس يوم 18 جويلية [1962]، وكان الاستقبال شبه رسمي في قاعة شرفيّة بالمطار ثمّ مكّنوني من سيارة رسميّة محاطة بحراسة شخصيّة ودرّاجات ناريّة، ثم نزلت في فندق «الكريون» الشهير (Le Crillon) بساحة الكونكورد.

كان في استقبالي من الجانب التونسي رضا باش بوّاب، القنصل العامّ ونائبه محمّد بن فضل، ومباشرة بدأنا الحديث حول الوضع وإعداد مقابلة الرئيس الفرنسي. ثمّ واصلنا النقاش أثناء تناول طعام العشاء.

ومن النوادر أنّه في نهاية السهرة، وعند المغادرة، طلبت من مضيّفيّ أن يحضرا في الغد على الساعة السابعة صباحا لإتمام العمل، فإذا بهما يندهشان، حتّى أنّ محمّد بن فضل، وهو رجل لطيف وخفيف الروح، سكت فجأة بعد أن كان يمزح كعادته.

أعتقد أنّهما لم يتعوّدا على العمل باكرا. ورغم ذلك، فقد قدما من الغد في الوقت المطلوب، وفِي المقابل لم أعد الكرَّة في اليوم الموالي.

وفِي الغد استقبلني الجنرال ديغول، وكان جالسا وراء مكتبه. وبدأ الحديث بسؤال حول صحّة الرئيس. ثمّ فسح لي المجال للحديث، فأعطيته بسطة كاملة حول تصوّرنا للوضعيّة، بما فيها عدم تحمّلنا للوجود العسكري: «في زمن الذرّة لا وجود لمبرّر لقاعدة أجنبيّة (جويّة وبحريّة) في بنزرت». عندها شعرت أنّي أزعجت ديغول الذي لن يقبل أنّ مدنيّا، ولو كان مسؤولا حكوميّا، يتحدّث حول مشاكل الأمن الفرنسي والعالم الحرّ. وقال إنّه حصلت موافقة الوالي [والي بنزرت] على توسيع مدرج المطار، ثمّ إنّ الرئيس بورقيبة بعث برسالة تحدّ وإنذار ultimatum، وتلتها مباشرة عمليات عدائية مباشرة. فأجبته بكلّ برودة:»بالنسبة إلى الأمر الأوّل فهذا الاتّفاق يمسّ من السيادة التونسية ولا يدرس على النطاق المحلّي بل الحكومي.وأمّا بخصوص الرئيس فإنّه لم يرد أن يمسّ من كرامة فرنسا بل عبّر عن وضعيّة أصبحت بالنسبة إلينا غير مقبولة». فأجاب : «كيف ولماذا لم تتحكّموا في التيّار الشعبي عند مهاجمة القاعدة؟». فرددت :»إنّ الشعب لا يمكن صدّه، ولم نكن نحن البادئين بإطلاق النار». وهذه الملاحظة لها أهميّة عند الجنرال ديغول الذي كان يلقي تباعا المسؤولية على المبادر بالطلقة الأولى (وهو قد ألقى بالائمة على إسرائيل عندما هاجمت العرب سنة 1967 لأنّها هي البادئة).

عندها أحسست أنّ الأمور قد تأخذ طابعا صعب التدارك، فقلت في نفسي :»هل نحن أمام إخفاق جديد؟ ولكن لماذا أراد الرئيس الفرنسي أن يستقبلني؟» وفِي نفس الوقت أحسّ ديغول بأنّ الجوّ قد تكهرب، فانشرح وجهه فجأة وابتسم وكأنّ المقابلة قد سارت من الحدّة إلى اللين، قائلا : «بما أنّ الصفحة قد طويــت، أيّ ريـاح عليلة بعثت بك إلينا» فأجبته «هي ريح الصداقة. أجلّ إنّني جئت لطيّ صفحة الماضي ومسح كلّ آثار أيّ خلاف حول موضوع قد يكنّ له رجل 18 جوان 1940 كلّ الاهتمام».
«Il s’agit du vent de l’amitié, je viens, en effet, pour tourner la page et effacer toute trace de différend sur un sujet auquel l’homme du 18 juin 1940 n›est certainement pas insensible».
فسكت قليلا ثمّ قال : «قدّم تحيّاتي للرئيس بورڤيبة وأعلمه أنّ قوّاتنا ستغادر بنزرت».
«Présentez mon salut au Président Bourguiba et dites lui que nos forces armées quitteront Bizerte»
«قل للسيّد بورقيبة كذلك أنا أيضا لي متطرّفي: «Dites aussi à Monsieur Bourguiba que j›ai aussi mes ultras»
وكان يقصد البحرية طبعا التي وضع أميرالها «أمّان» الجنرال ديغول أمام الأمر المقضي، فأجبر هذا الأخير على تأييده، مهنّئا إيّاه بالانتصار في معركة شهدت سقوط مئات الضحايا.

ثمّ تطوّر الحديث بالجنرال في تلك المقابلة ليقول: «إنّ الحادثة كانت مؤلمة ومؤسفة بين أصدقاء» «Un épisode regrettable entre amis».وقد تواصل الحوار قرابة قرابة الساعة، وممّا قلته للجنرال ديغول: «إنّ الرئيس بورقيبة يطالب بالجلاء وليس بقطع العلاقات العسكرية، فهو يعرف دوركم في الدفاع عن العالم، ويمكن النظر في مدّكم بالتسهيلات اللازمة عند الاقتضاء...».
فأجابني : «سيكون الجلاء دون مقابل ولا بنيّة الرجوع».

«Dites à M Bourguiba que les forces françaises quitteront Bizerte sans contrepartie et sans esprit de retour».

عندها أردت أن أعرف إن كانت ستدرج روزنامة للانسحاب: «أسجّل بكل ارتياح هذا الوعد.وإنّ الرئيس بورقيبة سيرحّب بمثل هذا التعهّد ... ولكن هل يمكن أن نتµفق على ضبط روزنامة لخروج القوµات الفرنسية؟». فأجابني الجنرال ديغول:»إنني لا أدخل في مثل هذه التفاصيل». ثمّ استدار الجنرال إلى كوف ديمرفيل [وزير الخارجيّة] وقال له: «يمكن الإعلان عن أجل الجلاء إذا منحني الرئيس بورقيبة فترة عام ونصف لإجراء تغيير في الجهاز الاستراتيجي الفرنسي».

وخلاصة القول إنّ هذا القرار، رغم إيجابيته، نابع حسب اعتقادي، من أنّ البحرية الفرنسية لم تعد تؤمن بالقواعد الثابتة حيث تغيّر الوضع العسكري والاستراتيجي والسياسي الجديد (الجزائر نالت استقلالها منذ أسبوعين، والقوات الفرنسية بصدد المغادرة).

ثمّ واصل ديغول مع وزيره :»يجب أن تفكّك المنشآت والتجهيزات العسكرية». وحين نظرت إلى ديغول، وكأنّني استدرجه، وجدته يبتسم وكأنّه يريد المداعبة بقوله هذا، وهنا لم أقدر على السكوت متسائلا: «وإن وقع هذا فسيمسّ من المستقبل الاقتصادي الذي كنّا نأمله للقاعدة. ولا أتصوّر الفائدة التي تنجرّ للطرفين من مثل هذا التفكيك، بل إنّه سيكون بمثابة حجر عثرة على درب التعاون، فلماذا لا يقع الانتفاع بهذه المنشآت بصفة مشتركة لأهداف سلميّة اقتصادية مثلا، ممّا يعمّق علاقات البلدين؟».

ولم ينبس الجنرال ديغول بكلمته ولكن بدا وكأنّه قد وافق على رأيي.وفعلا عندما تمّ الجلاء لم يقع تخريب أيّ شيء هامّ إلا بعض الأشياء البسيطة التي اعتقد أنّها تمّت بمبادرة بعض الجنود وليس في إطار أوامر معيّنة.ولذلك يجب أن نذكر لهم أنّهم لم ينسفوا شيئا ولكنهم أخذوا أهمّ الأشياء وتركوا بعض الرافعات في الميناء البحري. وقد اشترينا من جديد بعض الرادارات التي استرجعها الفرنسيون، كردار جبل الكبير.

وفِي نهاية الحديث وقف الرئيس الفرنسي وأوصلني إلى باب مكتبه قائلا بكل لطف: «هل عندك الوقت الكافي لزيارة متاحف باريس؟».

وعلى النطاق الشخصي، كنت أجهل هل كان ديغول على علم، عن طريق وزيره للخارجية، أنّه أمضى العفو الذي أنهى وجودي داخل السجون الجزائرية سنة 1944 بتدخّل من أندري فيليب الذي كان يهتمّ بالمساجين السياسين.

وقد فوجئنا فيما بعد بسرعة جلاء القوات الفرنسية، حيث أنّها لم تنتظر مرور 18 شهرا للإعلان عن أجل الخروج، بل غادرت قبل ذلك وكان تاريخ الجلاء في 15 أكتوبر 1963.

ثمّ اجتمعت مع جورج بومبيدو، رئيس الوزراء، وكوف ديمرفيل لتطبيق ما صرّح به لي رئيسهم، فاقترح ديمرفيل أن لا نمضي على تصريح مشترك بل أن نصرِّح، نحن، رسميّا بمشروع الانسحاب الفرنسي المقترح، وفِي المقابل تسكت فرنسا، مبدية رضاها.

شعرت في محادثاتي مع بومبيدو بأنّه، وبمظهره الأبوي (وهو من أصول قروية من جهة الكنتال بفرنسا) يخفي ذكاء حادّا وحنكة سياسية عالية وثقافة فائقة وقوّة ذاكرة. ومن الخاصيّات الأخرى التي لمستها فيه صدقه وشعوره بالمسؤولية وحرارة الكلام. وهذا يتضارب مع شخصية دوبري المتعالية وبرودة طبع كوف ديمرفيل.

وبعد أن أعلمت الرئيس، اهتزّ فرحا بالوعد بالانسحاب وإن كان سيتمّ بعد سنة ونصف. ودامت المكالمة طويلا أحسست خلالها بسرور عميق وارتياح كبير. ثمّ بدأت عملية التطبيع مباشرة بتبادل السفراء، وقد سمّي الصادق المقدّم وزير الخارجية سفيرا في باريس. وقرّرت فرنسا من جانبها إرجاع عدد الأساتذة الفرنسيين الذين غادروا تونس، إلى مستوى ما قبل جويلية 1961، يعني 2400 أستاذ، وذلك لتتمّ العودة المدرسية في أحسن الظروف...

وكانت الاحتفالات بالذكرى الخامسة للجمهورية يوم 25 جويلية 1962 هي احتفالات الجلاء المرتقب، خاصّة عندما ألقى الرئيس خطابا تحدّث فيه عن نتائج زيارتي الأخيرة لباريس والحفاوة التي استقبلت بها من طرف المسؤولين الفرنسيين، وعلى رئيسهم الجنرال ديغول. واستغلّ الفرصة ليعلن «أنّ الجلاء سيتمّ قبل مؤتمر الحزب سنة 1964 في بنزرت الحرّة، وقبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية».

الباهي الأدغم، الزعامة الهادئة، ذكريات وشهادات وخواطر، (ص 421، 422، 423، 424، 425).

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.