أخبار - 2020.03.08

الباهي الأدغم: الـزعـامة الـهادئة ذكريـات وشهـادات وخـواطر

الباهي الأدغم: الـزعـامة الـهادئة ذكريـات وشهـادات وخـواطر

من بين الكتب التي صدرت مؤخّرا كتاب «الباهي الأدغم ، الزعامة الهادئة، ذكريات وشهادات وخواطر». يقع هذا المؤلَّف الصادر عن دار «نيرفانا» للنشر في 748 صفحة، منها ملاحق تضمّنت وثائق تاريخية وصورا للباهي الأدغم (1913 - 1998)، الزعيم الوطني الذي كان له دور بارز في الحركة الوطنية ورجل الدولة الذي تقلّد مناصب رفيعة في الحكومة قبيل الاستقلال وبعده.

الكتاب من جنس أدب المذكّرات السياسية وقد استعرض فيه صاحبه، المولود بباب الأقواس بالعاصمة من أب من أصل ليبي وأمّ جزائرية، مختلف أطوار حياته الزاخرة بالعمل النضالي منذ بداية الثلاثينات بمشاركته، وهو لا يزال تلميذا بالمعهد الصادقي، في المظاهرات الطلابية المناهضة لانعقاد المؤتمر الأفخارستي في قرطاج، ثمّ فيما بعد باعتباره محرّكا أساسيا للديوان السياسي السرِّي للحزب الحرّ الدستوري وقد قاده انخراطه في العمل المباشر في مقاومة الاستعمار الفرنسي إلى السجن في تونس والأشغال الشاقّة في سجني «الحرّاش» و«لامباز» في الجزائر (1939 - 1944). وقد أدار منذ سنة 1946، بعد مغادرته السجن على إثر عفو من الجنرال ديغول، حجرة تونس التجارية. ثمّ واكب كمستشار للحكومة مفاوضات الحكم الذاتي في باريس سنة 1951، انتقل إثرها إلى نيويورك مقرّ الأمم المتحدة ممثّلا للحزب الدستوري (1952 - 1955) حيث كان له نشاط حثيث لحشد الدعم للقضية التونسية.

كان انتخابه أمينا عامًّا للحزب إثر مؤتمر صفاقس المنعقد في نوفمبر 1955 للحسم في الخلاف البورقيبي-اليوسفي بشأن الاستقلال الداخلي بمثابة منطلق جديد في مسيرته السياسية إذ أتاح له العمل وزيرَ دولة نائبا للوزير الأكبر الطاهر بن عمَّار ضمن الفريق الوزاري الذي شارك في المفاوضات التونسية-الفرنسية والتي توّجت باستقلال البلاد في 20 مارس 1956. بعدها تبوّأ موقعا متقدّما في الحكومة ولمدّة خمسة عشر عاما عضدا أيمن للرئيس الحبيب بورقيبة في منصب كاتب دولة للرئاسة والدفاع الوطني إذ كان الوزير الأوّل الفعلي قبل استحداث هذه الخطّة في سنة 1969 وقد استمرّ فيها إلى غاية نوفمبر 1970، تاريخ تعويضه بالهادي نويرة، وكان وقتئذ يواصل مساعيه على رأس اللجنة العربية المشكّلة من قبل قمّة القاهرة لوضع حدّ للاقتتال بين الجيش الأردني والفلسطيين في الأردن (أحداث أيلول الأسود).

تغطّي فصول الكتاب التاسعة عشر مساحة زمنيّة تمتدّ على مدى أكثر من أربعة عقود، منذ انعقاد المؤتمر الأفخارستي الذي كان القادح للوعي الوطني لدى الباهي الأدغم إلى حدّ اعتزاله العمل السياسي في أواخر السبعينات وقد جمعت إلى المذكّرات، الشهادة التاريخية حول أحداث وشخصيات فاعلة، والخواطر، والتأمّلات.

وتطلّب إعداد هذا الكتاب الضخم، كما يبيّن نجل الزعيم الدكتور عبد الرحمان الأدغم في المقدّمة، أكثر من ثلاثين سنة، بين كتابة وتحرير وتصحيح وتنظيم وتأليف وتركيب للفصول والفقرات وقراءة ومراجعة، بدأت يوم 9 أفريل 1988 بكتابة التوطئة من قبل المؤلَّف نفسه، ثمّ تتالت الفصول بقلمه حول المولد والمنشأ وبوادر الوعي وبداية الدراسة والمؤتمر الأفخارستي، وتدرّج السلّم السياسي من مناضل قاعدي في شعبة باب سعدون، إلى الثلّة المسيّرة للحزب الدستوري من الزعماء الأفذاذ، ثمّ مؤسّسي الدولة الحديثة، مرورا بالمحاكمات والسجون الجزائرية والمنافي.

كما كان المؤلَّف يملي على نجله بعض المواضيع أو يحدّثه في البعض الآخر يكتبها مباشرة، ثمّ يقدّمها له يوم الغد لإصلاحها والموافقة عليها. ثمّ أثرى المؤلَّف الكتاب بمحاضرات ألقاها أمام طلبة وأساتذة جامعيين وبتصريحات للصحافة التونسية والعربية وبرامج إذاعية وتلفزية حول مواضيع تهمّ الحركة الوطنية. ويؤكّد الدكتور عبد الرحمان الأدغم «أنّ كلّ هذا العمل أنجز بكلّ موضوعية ودون تحريف» وأنّ والده حاول «أن يسرد الأحداث بكلّ حقيقة ، الحقيقة التي عاشها ودون تشفّ»، موضّحا أنّه امتثل لإرادة والده في أن ينشر الكتاب «في حالتين متزامنتين : الأولى وفاة بورقيبة أو خروجه من سجنه، والثانية مغادرة الطاغية [زين العابدين بن علي] الحكم».

سرديّة الباهي الأدغم كانت منطلقا لإعداد هذا الكتاب الذي اشترك فيه نجله والأستاذ رضا العفيف الذي أعاد قراءة النصّ والأستاذ عبد اللطيف عبيد الذي واكب الإصلاح اللغوي على مرحلتين وأخيرا الزميل عادل الأحمر، ابن أحد المناضلين وصديق المؤلَّف المرحوم مصطفى الأحمر. فقد أعاد هذا الزميل مراجعة النصّ عديد المرّات وأعان الدكتور عبد الرحمان الأدغم على تنظيم الفصول والفقرات والمراجع.

هذا الكتاب في غاية الأهمية، إذ هو فيض من المعلومات حول أحداث ومنعرجات في التاريخ الوطني قاربها الباهي الأدغم من جوانب ثلاثة : الجانب الإخباري والجانب التحليلي والجانب التقييمي من خلال تقديم رأيه في شخصيات اعتبرها «مؤثّرة» وهي أحمد التليلي وأحمد المستيري وصالح بن يوسف وعلي البلهوان وجمال عبد الناصر ونيلسن مانديلا، في حين لم يخصّ الزعيم المنجي سليم بتقديم كان به حقيقا، لما له من دور فاعل في الحركة الوطنية، بل جاء الحديث عنه في أكثر من موضع في متن الكتاب. ولم يخل هذا الانتقاء في تقديرنا من رؤية ذاتية لهؤلاء الزعماء ولعلّه كان نابعا ممّا يكنّه لهم من عظيم التقدير ووافر التبجيل.

وتكمن أهمية الكتاب، كما بيّن ذلك الأستاذ نور الدين الدقّي عندما قدّمه مؤخّرا بدار الكتب الوطنية، في كونه رواية مناضل وطني من الرعيل الأوّل لم يسبقه في الكتابة التاريخية سوى سليمان بن سليمان ومحمود الماطري الذي توقّفت شهادته إلى حدّ سنة 1940 فكانا الوحيدين اللذين خاضا في مسار الحركة الوطنية بعد سرديّة بورقيبة الواردة في محاضراته أمام طلبة معهد الصحافة وعلوم الأخبار في سنة 1973.

وحسبنا أنّ مؤلَّف الباهي الأدغم هو من أهمّ المراجع التاريخية حول ظروف انعقاد المؤتمر الأفخارستي وخلفيته وملابساته، بيد أنّ الكاتب آثر عدم ذكر اسماء التونسيين ولا سيّما رجال الدين، الذين كانوا ضمن الهيئة الشرفية لهذا المؤتمر.  كما تكمن أهميته في المعلومات التي تذكر لأوّل مرّة ولا سيّما «مسألة العموري» (ص 456، 457، 458)  وهو أحد المقاومين الجزائريين الذي كلّفه فتحي الذّيب مدير المخابرات المصرية، نهاية سنة 1958، بقلب نظام الحكم داخل جهاز الثورة الجزائرية.

وقد باءت هذه المحاولة بالفشل بعد أن طوَّق الأمن التونسي العمارة التي كان يوجد بها العموري بالكاف بمعيّة أتباعه ممّا أجبرهم على تسليم أنفسهم للسلطات التونسية، فكان أن عمد هواري بومدين «الاستيلاء» على الجماعة وأنشأ محكمة لمقاضاتهم وأُعدم العموري رميا بالرصاص.

وأورد الباهي الأدغم كذلك معلومات لم يسبق نشرها عن «الحزب القومي العربي الثوري» (ص 513، 514، 515، 516) الذي كان فيه الحبيب ثامر مسؤولا عن القطر التونسي وكذلك عن تخاذل عدد من الدول العربية في دعم القضية التونسية عندما أرادت قيادة الحزب الدستوري في بداية الخمسينات عرضها على الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وبينما أخذت أحداث عاشها الباهي الأدغم أو كان فاعلا فيها مساحات واسعة في الكتاب كالمؤتمر الأفخارستي وأحداث 9 أفريل 1938 والعمل السرِّي والمقاومة المباشرة وأعوام السجن في تونس والجزائر والنشاط النضالي في تونس وفِي أمريكا ومعركة الجلاء عن بنزرت التي خاضها بورقيبة على الصعيدين العسكري والدبلوماسي، فإنّ وقائع لا تقلّ عنها أهميّة لم تنل النصيب نفسه من التناول، إذ لم يتوسَّع الكاتب كثيرا في الحديث عن الفترة بين 1945 - 1950 ولا عن الصراع البورقيبي-اليوسفي -وكأنّه ترك الأمر للمؤرخين- ولا عن فترة التعاضد التي انتهت بمحاكمة أحمد بن صالح، وقد اختزل هذه الحقبة الزمنية الحبلى بالأحداث في 58 صفحة في الفصل السابع عشر وعنوانه «السنوات المزعجة 1969 - 1970». ومهما كانت أراء النقّاد في الكتاب فإنّه يمثّل معينا ثمينا من الأخبار والمعلومات ومادّة ثريّة تفتح مسالك جديدة للبحث التاريخي. وقد قال عن صاحبه الأستاذ أحمد المستيري في تصدير بعنوان «الباهي الأدغم :الزعيم الصامت: «وإنّه لمن حكمة هذا الرجل وموضوعيته وتواضعه أن ينهي هذا الكتاب الشاهد على أعماله الجليلة باعتراف قلّ أن يبوح به كبار رجال السياسة، إذ كتب هذه الكلمات الصادقة لاستخلاص العبرة من مسيرته النضالية.» لقد عملنا بكلّ ما نملك من طاقة ولكن لم نقدر أن نصل إلى مبتغانا، رغم التضحيات الجسام للشعب التونسي لكسب الحرية والاستقلال وبناء الدولة. لقد بقي الهدف المنشود، الحرية والديمقراطية والتنمية الاقتصادية ودولة القانون والمؤسّسات، كأنّه سراب يبتعد كلّما اقتربنا منه»...فهل بعد هذا الكلام من كلام؟».

عبد الحفيظ الهرڤام

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.