علي اللواتي: خـواطر حـول أزمة العـلـم في العـالـم المعـاصر
من المفارقات أن نتحدّث عن أزمة العلم في عالم معاصر تبدو الانتصارات العلمية ومنجزات التّكنولوجيا سماته الأبرز المميّزة له عن العصور السّابقة؛ غير أنّ الفرق واضح بين مفهوم الأصلي العلم في بواكيره كسعي إلى تحرير العقل من الخرافة ووعي بحقيقة الإنسان والكون، وبين نتاجاته المتمثّلة اليوم في الكمّ الهائل من التّطبيقات التّقنيّة التي لا تخدم ذلك السّعي، بل قد تعارضه سالكة منعرجات مشبوهة ممّا يشير إلى أزمة تضرب أسسه الأخلاقيّة الأصيلة.
يروي تطوّر العلم عبر تاريخه الطّويل قصّة خلاص الفكر البشري تدريجيا من ضباب الأسطورة والسّحر عبر معرفة أدقّ وأشمل بالواقع باعتماد الملاحظة والبحث وطرح النّظريات والفرضيات واختبار صحّتها بالتّجربة. وقد استطاع العلم بمفاهيمه المبتكرة وتطوّر مناهجه وأدواته وتطبيقاته، أنّ يبني في القرون الأخيرة منظومة طبعت الحضارة الحديثة، وكان لها بالغ الأثر في مجتمعات كثيرة من خلال نتاجاته التّكنولوجيّة خاصّة.
فهل يمكن القول إنّ العلم، من حيث كونه منهجا فكريا يسعى إلى الحقيقة وتحرير الإنسان من الوهم، قد انتصر اليوم في معركته المريرة ضدّ الجهل والاغتراب؛ وهل احتفظ ببعض تلك الرّوح التي نشأ عليها بحثًا مُنَزَّهًا عن الغرض وتساؤلاً وُلِد من رحم الفلسفة القديمة في سعيها إلى معرفة الإنسان والكون ؟ وفي كلمة، هل أنتجت المعرفة العلمية إنسانا حرّا؟
العلم وانتكاسات الضّمير
قد يُسارع المرء إلى الإجابة بنعم إزاء ما يُلاحَظُ من حيويّة المؤسّسات المنتِجة للمعارف حول العالم ونجاحاتِ البحوث الأساسيّة في مختلف العلوم وتوالي الاكتشافاتِ التّقنيّة التي تؤكّدُ سيطرةَ الإنسان على الطّبيعة؛ غير أنّه من المشروع اختبارُ ما إذا كانت تلك الإنجازات العلميّة (أساسيّةً كانت أم تطبيقيّة) لا تزال على صلة ما بالفكر الذي أكْسَبها في البدايات معنى إنسانيّا ومشروعيّةً أخلاقيّة. والواقع أنّنا نلاحظ اليوم ارتخاء تلك الصّلة بل أحيانا انفصامَها على نحو صريح وصادم؛ فالعلم غالبا ما يلوذ اليوم بالحياد موجّها اهتمامَه أساسا إلى ما يصِفُهُ أو يتنبّأ به، بينما يوُكَلُ إلى الثّقافة البحثُ لإنجازاته عن معنى أو توظيفٍ قد يتعارض مع مشروعيته الإنسانية الأصلية.
لا شكّ أنّ هناك من العلماء من لا يزال يربط توسيع آفاق المعرفة بالشّرط الأخلاقي، يحدوهم في ذلك نفس نضالي قد لا نراه عند علماء غيرهم ممّن لا يأبهون لِما قد تجرّه تطبيقاتهم العلمية من كوارث على الإنسانية، بل تراهم يتعمّدونها عن وعي وإضمارٍ، مُتعلّلين بذرائع شتّى. ولنا في الاستعمال الكارثي لانتصارات العلم الكبيرة مثالٌ على أزماته الأخلاقيّة حيث أفضى الجهد الباهر لعلماء الفيزياء في اكتشاف أسرار الذّرّة إلى استغلاله من قِبَلِ علماء آخرين في إنتاج أشدّ الأسلحة فتكًا؛ كما أدّت بحوث البيولوجيين في فكّ شفرة الحمض النّووي إلى تجارب الاستنساخ الحالمة بإنتاج مسوخ إنسانيّة يسهل مستقبلاً التّحكّم فيها. وقِسْ على ذلك ما تنذِرُ به بعضُ تطبيقات الذّكاء الاصطناعي من تقليص لصلاحيات الإنسان وارتهانِه للآلةِ حتّى ليُخْشَى أن يُصبحَ، في يوم ما، خاضعا تمام الخضوع للرّوبوتات، وفي ذلك ما فيه من خطر على الحريّة، مصداقا لمقولة الكاتب الفرنسي رابليه (Rabelais) «العلم بلا ضمير دمار للرّوح».
من مظاهر أزمة العلم في العالم المعاصر
أمّا عن وفاء الحضارة العلميّة بوعودها في إرساء مجتمع الوفرة والسّعادة والعدل فهو سراب وغاية لا تُدرك في المستقبل المنظور؛ وإنّها لأزمة أخرى من أزمات العلم إذْ يَقْصُرُ عن معالجة الكثير من مشكلات الإنسانيّة، ومن مظاهرها تحلّلُ المبادئ والمرتكزات الإنسانية للعلم وسط مجتمعات تحكمها ضرورات متناقضة بحيث يبدو المؤمنون برسالته من العلماء قلّة تحاصرها الذهنية السّحرية المستشرية وسلطة المال والسّياسة.
السّحر والشّعوذة
تتمثّل إحدى أزمات الحضارة الحديثة في وجود شرائح واسعة داخل المجتمعات البشريّة، حتّى المتقدّمة منها، لا تزال تحتفظ ببقايا ذهنية ما قبل ـــ منطقيّة، ولا تستنكِفُ من الرّكون إلى ما تنشره وسائل تكنولوجيا الاتّصال الحديثة بمختلف مِنَصَّاتِها من ممارسات تتعارض مع الميراث العقلاني، وتحفّز على اللّجوء إلى الشّعوذة والتّنجيم والتّنبّؤ بالغيب والتطبيب الرّوحاني وغيرها. ومع التّسليم بأنّ الإنسانيّة مهما تقدّمت في وعيها بالواقع تظلّ محتفظة في عقلها الباطن ببقايا من إرثها السّحريّ الذي تواجه به مخاوفها الأزلية من المستقبل، إلاّ أنّ استشراء التّعلّق بالظّواهر الخارقة والدّجل في عصر الفضاء يشير إلى ردّة معرفيّة واضحة ويؤكّد اتّخاذ الحضارة التّكنولوجيّة طريقا كثيرا ما يناقض روح العلم ووعوده في تحرير الإنسانية.
ظاهرة العلوم الزّائفة
كما تجدر الإشارة إلى انتشار ثقافة تسطيحيّة يتلقّفها جمهور عريض عبر مختلف الوسائط التّقليديّة والرّقميّة، ويبدو فيها الدّجلُ متلفّعًا برداء العلم، محاكيًا خطابه الأكاديمي ضاربا عرض الحائط بمبادئه الأساسية ومناهجه الصّـارمة ومقـاييسه الدّقيقة. فكم من علوم كاذبة ونظريات مزيّفة تُبتَدَعُ اليوم مثل «علم» تأثـــير المـوجـات السّلبيّة والإيجـابيّة المزعــومـة على الإنسان، والفـرينـولوجيا (phrénologie) ولعلّها أقدم العلوم المزيّفة، وقد كان بعض أطبّاء الأعصاب يستعملونها كطـريقة تشخيص للمرض من خلال معاينة أشكال الجمجمة البشرية؛ ومنها نظريّة «حقول الطّاقة الإحيائيّة» (Les champs bioénergétiques) التي تؤسّس لعلاجات تفترض وجود اندفاع حيويّ خاصّ بكلّ جسم إنساني يتّصِلُ بالرّوح أو النّفس ويتشكّل في «حقول حيويّة» (لاحظ هنا محاكاة مفهوم «الحقول المغناطيسيّة» الفيزيائي). ويهدف العلاج المزعوم إلى إيجادِ توازن بين تلك الحقول وتمييز النّافع منها من الضّار لتحقيق الشّفاء. غير أنّ البحث لم يعثر إلى اليوم على أيّ حقول ذات طبيعة بيولوجية صرف.
ومِثْلُهُ البحث الواهم في تأثير بلّورات الأحجار والمعادن في النّفـس و«الباراسايكولوجيا» (parapsychologie) التي تزعم البحث في القدرات النّفسيّة على التّخاطر (télépathie) والتبّصّر (clairvoyance) وإدراك الأحداث في الماضي أو المستقبل؛ وكذلك «النّيمرولوجيا» (numérologie) «العلم» الذي يربط كلّ حرف من الاسم واللّقب بعددٍ يحدِّدُ طبعَ الإنسان وشخصيتَهُ وقدَرَهُ أو مستقبَلَهُ. والحقيقة فإنّ المجال يضيق عن تعداد ما تحفل به القائمة من علوم زائفة لا نفع لها إلاّ ما يجنيه منها النّصّابون والدّجّالون.
سيـطرة المـال والسّيـاسـة على العلم
ومن الآفات التي تشكّك في نزاهة العلم، الدّور المستشري لسلطة المال في تحويل وجهته نحو المصلحة الماديّة وحدها بحيث يصبح التّربّحُ المحرّكَ الأوّل للبحوث العلميّة وذلك بيّن وماثل في كلّ المجالات ولطالما اشتكى الباحثون من تلك السّيطرة واعتبروها عائقا أمام حريّة البحث، فالمستفيد الأوّل منه اليوم ليس العالم المكتشف وإنّما المموِّلُ والنّاشر والمختبرات التي تصنّع ثمار الاكتشاف. ولئن بدا الوضعُ عاديّا بالنّسبة إلى المجتمعات التي تعاني من التّخلّف، فإنّ التّسليم به في حالة المجتمعات الموسومة بالتّقدّم والرّقي ـــ والغربية منها خاصّة ـــ يدفع بالضّرورة إلى التّساؤلِ عن معنى مفهوم «التّقدّم» المبشّر بخلاص الإنسانيّة من التّخلّف، كما يدعو إلى الشّك في نجاعة ما راكمته الدول النّامية في الغرب من أفكار وقيم عقلانيّة وتنويريّة عبر تاريخها الحديث.
وخلاصة القول إنّ العقلانيّة والتّنوير والتّقدّم كقيم دعّمت حركة العلم وبُنِيت عليها الحضارة الغربيّة، لا تحظى اليوم بالمكانة التي تدّعيها، كما لا يمكن اعتبارها سندا عتيدا للعلم وتطبيقاته في زمن يخضع العلم للمال بل وللهيمنة السّياسيّة فيصبح سلاحًا رهيبا في معارك اقتصاديّة لا تنتهي. أدّى هذا إلى اتّساع الهوّة بين مجتمعات مهيمنة وأخرى خاضعة، مع ما يجّره ذلك من مساس بحرمة الإنسان مطلقا كقيمة تتجاوز تباين الأصول العرقيّة والثّقافيّة. لطالما اعتبرت الفلسفات الإنسانيّة العقل والعلم والأخلاق من الأدوات التي تحقّق الوعي بوحدة مصير الإنسانيّة؛ إنّ العالم الآن أكثر ما يكون افتقارا لرؤيــة تجمع ـــ في الحدّ الأدنى ـــ بين العلم والضّمير الأخلاقي؛ أمّا وحدة المصير الإنساني فهي من أحاديث خُرَافة، رغم الخطابات السّياسيّة المضلّلة التي تدّعي، هنا وهناك، الإيمان بها والسّعي إلى تحقيقها
علي اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق