الذّكرى الخمسون لإحداث مناظرة التّبريز (1970 - 2020): من مفاخر الجامعة التّونسيّة
يمر هذه السّنة نصف قرن بالتّمام والكمال على إحداث مناظرة التّبريز في اللّغة والآداب والحضارة العربيّة (1970 - 2020)، وهو دون أدنى شكّ حدث علميّ كبير لأسباب عديدة : أوّلها أنّ التّبريز مسار تكوينيّ تنفرد به الجامعة التّونسيّة دون غيرها من الجامعات العربيّة، وثانيها جودة التّكوين النّوعيّ الذّي يكفله هذا المسار لخرّيجيه بما أكسبه صدى واسعا في الأوساط العلميّة والأكاديميّة، وثالثها أنّها كانت البادرة الأولى التّي سينجرّ عنها إحداث مناظرات مماثلة في اختصاصات أخرى كثيرة.
نشأت مناظرة التّبريز في اللّغة والآداب العربيّة Agrégation Arabe في رحاب التّقاليد الجامعيّة الفرنسيّة أوائل القرن العشرين، وقد احتفل الفرنسيّون بمرور مائة عام على إحداثها منذ سنوات احتفاءً مشهودا في إحدى القاعات الشّهيرة بالصّربون . وهي شهادة يترشّح لنيلها حامل الإجازة أو الأستاذيّة الذّي تمكّن من الحصول بعد ذلك على ديبلوم الدّراسات العليا.
ولئن شملت هذه المناظرة عند الفرنسيّين اختصاصات أُخرى فإنّها اشتهرت على وجه الخصوص في الاختصاصات اللّغويّة والأدبيّة ولا سيّما اللّغة والآداب العربيّة. ولعلّ مصدر الصّيت الذّي أحرزته هذه المناظرة والبريق الذّي اكتسبته أنّها كانت وما تزال عنوان اقتدار وتفوّق وألمعيّة لأنّها عُرفت بمتانة التّكوين الذّي تُوفّره لمن يترشّح لاجتيازها وتكامله وشموليّته وبعسر الاختبارات الكتابيّة والشّفويّة وبصرامة التّقييم وشدّته. ذلك أنّ هذا المسلك يقتضي من المنتسبين إليه امتلاك معرفة جيّدة باللّغات الأجنبيّة وإلماما دقيقا بمادّة معرفيّة واسعة تشمل مسائل فقه اللّغة والأدب القديم والأدب الحديث والحضارة، وهي مسائل تتغيّر دوريّا كلّ سنتين.
وإلى جانب سعة الاطّلاع والسّيطرة على اللّغات تستدعي هذه المناظرة اقتدارات منهجيّة وبيداغوجيّة عالية في كتابة المقال وشرح النّصوص بمختلف أصنافها وفي تقديم الدّروس الشّفويّة وفي إتقان التّرجمة من العربيّة وإليها.
والجدير بالذّكر أنّ حاملي الإجازة من التّونسيّين كانوا منذ ثلاثينات القرن الماضي يُعدّون مناظرة التّبريز في فرنسا ، وتواصل ذلك إلى حين بعث مناظرة تبريز تونسيّة في رحاب كليّة الآداب سنة 1970. ونذكر من أولئك المبرّزين الأوائل الأساتذة : محمود المسعدي ( دورة 1947)، وأحمد عبد السّلام (1948)، والشّاذلي بو يحيى (1949)، والشّاذلي القليبي (1950)، ومحمّد الطّالبي (1952)، وفرحات الدّشراوي (1953)، ومحمّد السّويسي (1958)، ومحمّد اليعلاوي (1958)، وصالح القرمادي (1958)، وعبد القادر المهيري (1959)، ومنجي الشّملي (1959)، وتوفيق بكّار (1960)، ومحمّد عبد السّلام (1960)، وصالح المغيربي (1964)، وجعفر ماجد (1965)، والطيّب البكّوش (1968)، ومحمود طرشونة ( 1969).
وتكشف بعض تقارير مناظرة التّبريز في فرنسا أنّ أكثر الطّلبة مشاركة في المناظرة هم التّونسيّون، فقد كان عددهم في دورة 1965 اثني عشر مترشّحا (12) من جملة 25 (5 جزائريّين و4 فرنسيّين ومغربيَّيْن ولُبنانيّ وسنيغالي). وفي دورة 1966 نجد 12 تونسيّا من جملة 19 مترشّحا، أمّا في دورة 1967 فكان عدد التّونسيّين 13 من جملة 23 مترشّحا. بل إنّ بعض الأساتذة التّونسيّين من أمثال محمّد الطّالبي والشّاذلي بو يحيى كانوا في السّتّينات من أعضاء لجنة التّبريز التّي ترأّسها المستشرق هنري لاووست Henri Laoust لسنوات عديدة.
أمّا العوامل التّي حملت بعض الأساتذة التّونسيّين على التّفكير في إحداث مناظرة تبريز تونسيّة فيمكن إجمالها في أربعة أسباب أساسيّة:
- تحوير نظام التّعليم العالي في فرنسا
- الصّعوبة التّي أصبح خرّيجو الجامعة التّونسيّة يجدونها فيما يخصّ إعداد الشّهادة التّي تسبق التّبريز في فرنسا وهي ديبلوم الدّراسات العُليا.
- ارتقاء عدد من المدرّسين التّونسيّين إلى رتبة أستاذ محاضر بعد الحصول على دكتورا الدّولة من أمثال محمّد الطّالبي والشّاذلي بو يحيى وأحمد عبد السّلام ومحمّد السّويسي وفرحات الدّشراوي بما يسمح لهم بعضويّة لجان التّبريز.
- إحداث هيكلة جديدة للتّعليم العالي في تونس منذ 1968 صاحبها إنشاء الشّهادة الأولى من الدّراسات العليا وهي ما سُميّ في كليّة الآداب بشهادة الكفاءة في البحث (C.A.R) التّي تسمح للحاصلين عليها بالتّسجيل في مناظرة التّبريز.
وهكذا جاءت مبادرة بعث مناظرة التّبريز من مجموعة من مدرّسي قسم العربيّة اجتمعوا في شهر جويلية 1970 بمكتب الأستاذ عبد القادر المهيري بمعهد بورقيبة للغات الحيّة ، وقد كان مديرا له، وأعدّوا نصّا يُنظّم المناظرة في اللّغة والآداب العربيّة وعرضوه على وزير التّربيّة القوميّة آنذاك الشّاذلي العيّاري فوجدوا منه ترحيبا بالمبادرة . وعلى هذا النّحو انطلق إعداد الطّلبة في شهر أكتوبر 1970 وجرت المناظرة في شهر جوان 1971 . وكان الهدف من المناظرة انتداب أساتذة يُدرّسون بالمعاهد الثّانويّة وتعيين المتفوّقين منهم للتّدريس بالتّعليم العالي، وأوكلت لكليّة الآداب بالجامعة التّونسيّة مهمّة إعداد المترشّحين لهذه المناظرة وإجراء اختباراتها، فانتخب الكليّة لذلك من بين أسرة التّدريس بها مدرّسين حاملين لشهادة التّبريز ومُحرزين على دكتورا دوليّة في الآداب للاضطلاع بالتّدريس ولتتكوّن منهم جميعا لجنة المناظرة، وهي اللّجنة التّي أعدّت النّصّ المذكور وضمّت الأساتذة أحمد عبد السّلام والشّاذلي بو يحيى ومحمّد السّويسي وفرحات الدّشراوي وعبد القادر المهيري وحمّادي بن حليمة والمنصف الشنّوفي.
ثمّ صدر القرار الوزاريّ المنظّم للمناظرة والذّي ينصّ خاصّة على أنّ وزير التّربية هو الذّي يُحدّد تاريخ افتتاح المناظرة وعدد الخطط الشّاغرة ، كما ينصّ على شروط المشاركة في المناظرة وهي الحصول على الأستاذيّة أو الإجازة مع الإحراز على شهادة الكفاءة في البحث أو على ديبلوم الدّراسات العُليا منذ سنة على الأقلّ. وضبط هذا القرار من جهة أُخرى محتوى برنامج المناظرة ومسائلها.
ومن أبرز خرّيجي مناظرة التّبريز التّونسيّة في سنواتها الأولى الأساتذة: محمّد الهادي الطّرابلسي (1971)، وحمّادي صمّود وعبد السّلام المسدّي (1972)، والرّشيد الغزّي وجمعة شيخة (1973)، ومحمّد قوبعة وصلاح الدّين الشّريف (1974)، وصالح الحيزم ومحمّد الشّاوش (1975)، وصالح البكّاري ومحمّد توفيق النّيفر (1976)...
وممّا لا شكّ فيه أنّ حصيلة مناظرة التّبريز بعد مرور نصف قرن على إحداثها تُعدّ حصيلة ثريّة بما يجعل حدث الخمسينيّة بحقّ حدثا علميّا ذا بال.
- وأوّل نتائج هذه المسيرة الطّويلة هو أنّها كفلت تكوينا متينا ورفيع المستوى لأجيال متعاقبة من خرّيجيها وساهمت في إعداد نُخب من خيرة الأساتذة استفاد من كفاءتهم العلميّة والبيداغوجيّة التّعليم العالي أساسا وبدرجة أقلّ التّعليم الثّانوي. ثمّ إنّ جلّ المبرّزين أعدّوا فيما بعد أطاريح دكتورا الدّولة أو الدّكتورا الموحّدة وتبوّؤوا مناصب التّدريس في المؤسّسات الجامعيّة ، وبذلك تكون المناظرة قد أمدّت الجامعة التّونسيّة بخيرة باحثيها وأساتذتها.
- ساهمت المناظرة في إرساء تقاليد علميّة وبحثيّة راسخة، فقد كانت وما تزال تأخذ المترشّحين لها بالصّرامة والشّدّة وعدم التّساهل في العلم وتدفعهم إلى مسالك الجدّ والدّأب على العمل وتُدرّبهم على الضّبط والتّثبّت ويقظة الذّهن والاقتصاد في الحُكم، وهي تقاليد مايزال تتوارثها أجيال من الطّلبة والأساتذة والباحثين.
- كان لمناظرة التّبريز في اللّغة والآداب العربيّة فضل على جملة من الاختصاصات العلميّة الأخرى، فقد كانت بمثابة القاطرة التّي جرّت وراءها إحداث التّبريز في ميادين مختلفة ، فبُعثت مناظرة التّبريز في العلــــوم القانونيّة والعلـــوم الاقتصـــاديّة (1974)، والتّبريـــز في الفلسفة (1978)، ثمّ التّبريز في التّاريخ والجغرافيا (1985) والتّبريز في الرّياضيات والعلوم الفيزيائيّة (1992)، والتّبريز في التّكنولوجيا والاقتصاد والتّصرّف (1993) وأخيرا التّبريز في الفرنسيّة وفي الإنجليزيّة (1993).
ويحتاج هذا المسار التّكوينيّ رفيع المستوى الذّي يُعدّ مفخرة من المفاخر التّي تعتزّ بها الجامعة التّونسيّة إلى مزيد الدّعم والتّوطيد والتّشجيع من ذلك:
- توجيه ما يكفي من الإحاطة والعناية والدّعم على الأصعدة المادّية والعلمية والبيداغوجيّة إلى دار المعلّمين العُليا بتونس باعتبارها مؤسّسة امتياز يُوكل إليها تخريج نخبة الأساتذة التّونسيّين في كثير من الاختصاصات، وهي اليوم أحد المراكز الأساسيّة لإعداد المترشّحين لمناظرة التّبريز.
- إقرار الحوافز الكفيلة بتشجيع خرّيجي الكلّيات والمعاهد العُليا وأساتذة التّعليم الثّانوي المباشرين على الإقبال على إعداد مناظرة التّبريز وذلك بتخويل الأساتذة المبرّزين الامتيازات المناسبة لتلك الدّرجة العلميّة.
- تنظير المبرّزين المتفوّقين الذّين يُنتدبون للتّعيم العالي بالمساعدين، وتمكين المتحصّلين منهم على الدّكتورا – عند التّرشّح لرتبة أستاذ مساعد– من المشاركة في مناظرات الارتقاء الدّاخلي بدلا من مناظرات الانتداب.
- تطوير محتوى التّكوين في المناظرة حتّى يُواكب المستجدّات العلميّة، وهو أمر ينبغي أن تتولّاه لجنة علميّة مختصّة رفيعة المستوى ، والرّأي عندنا أنّه بالإمكان أن تُضاف إلى المسائل الأربع الأساسيّة ( فقه اللّغة والأدب القديم والأدب الحديث والحضارة) مسألة خامسة في مناهج النّقد الحديث، مع التّفكير في العودة – مع اختبارَيْ التّعريب - إلى اختبار النّقل من العربيّة ، فبقدر ما نحتاج إلى أساتذة قادرين على تعريب المعارف الجديدة التّي تصدر في لغات أجنبيّة نحتاج إلى أساتذة قادرين على نقل عيون المصنّفات العربيّة تنظيرا وأدبا ونقدا إلى اللّغات الأجنبيّة
الحبيب الدّريدي
- اكتب تعليق
- تعليق