محمد إبراهيم الحصايري: وأخيرا... فعلها "تاجر البيت الأبيض"...
"في هذا اليوم، رَسَمْتَ مستقبلا مشرقا للإسرائيليين وللفلسطينيين وللمنطقة من خلال طرح طريق واقعي لسلام دائم": بهذه الكلمات خاطب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب بعد أن أعلن يوم الثلاثاء 28 جانفي 2020 في ندوة صحفية مشتركة بينهما، وفي غياب الجانب الفلسطيني، خطته للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين التي اختار لها من الأسماء "صفقة القرن"، رغم أن القرن لم يبدأ عقده الثالث إلا في مطلع هذه السنة، وما يزال أمامنا، بالتالي، ثمانية عقود كاملة لا أحد يستطيع أن يتنبّأ بعدد ولا حجم الصفقات التي سيتم إبرامها خلالها في عالمنا المتحوّل المتقلّب باستمرار وبسرعة خارقة.
وقد يكون من حقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يعتبر أن الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب رسم بخطته "مستقبلا مشرقا للإسرائيليين"، غير أنه ليس من حقه أن يقدّر أنه يرسم بها نفس "المستقبل المشرق" بالنسبة إلى الفلسطينيين وإلى المنطقة، فالأمر المؤكد أن هذه الخطة الخارجة عن الشرعية الدولية والمنافية للحق والعدل والعقل والمنطق لن تمكن من دفن القضية الفلسطينية ولا من انهاء الصراع العربي الإسرائيلي، حتى وإن كانت تشكّل، حسب تعبير بنيامين نتنياهو "طريقا واقعيا لسلام دائم".
إن الإشكالية الكبرى التي تطرحها هذه الخطة هي أنها تلغي حقوق الشعب الفلسطيني "غير القابلة للتصرف"، وتريد أن تضفي على الواقع الذي صنعه الاحتلال الإسرائيلي بدعم واشنطن ومباركتها، شرعيةً مؤسَّسَةَ، ويا للمفارقة، على خرق الشرعية الدولية، والانقلاب على قرارات منظمة الأمم المتحدة المتراكمة منذ أن شرّعت قيام دولة إسرائيل الى اليوم.
على أن الأخطر من ذلك هو أنها تريد أن تفتح الباب لمسار تفاوضي جديد غير مضمون النتيجة، تحت إشراف طرف يفاخر بانحيازه الأزلي الأبدي لإسرائيل، مع وعود هلامية للجانب الفلسطيني ليس من المستبعد، قياسا على التجارب التفاوضية السابقة، أن تتملص واشنطن وإسرائيل من الوفاء بها خاصة وأن الجانب الفلسطيني سيدخلها، إن قرر دخولها، في أضعف حالاته وأوهنها...
يقول الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب في هذا السياق إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أبلغه بأنه مستعد لتبني رؤيته كأساس للتفاوض المباشر، وأن بوسعه أيضا أن يقول إن زعيم المعارضة الإسرائيلي بيني غانت سيقبلها هو الآخر...
وقد ثنّى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على كلام الرئيس الأمريكي إذ قال إنه مستعد للتفاوض مع الفلسطينيين حول "مسارٍ نحو دولة مستقبلا"، لكنه اشترط أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل كـ"دولة يهودية"، وأن يتخلّوا، بموجب الخطة، عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم.
والغريب أنه بالرغم من هذه الشروط المسبقة يعتبر أن خطة الرئيس دونالد ترامب للسلام في الشرق الأوسط تقدم "طريقا واقعيا" لتحقيق سلام دائم في المنطقة، وأنها "تحقق توازنا"، قبل أن يضيف، دون أن يشعر بأي تناقض في حديثه، أن الرئيس الأمريكي يعترف بأنه ينبغي أن تكون لإسرائيل السيادة على غور الأردن ومناطق استراتيجية أخرى في الضفة الغربية حتى تستطيع الدفاع عن نفسها بنفسها، وذلك على عكس خطط كثيرة أخرى "وضعت ضغوطاً على إسرائيل لكي تنسحب من هذه المناطق"...
وبدوره، وبعد أن يَعِدَ الفلسطينيين بأنه سيعمل، في إطار خطته للسلام التي يقول إنها مختلفة تماما عن الخطط السابقة على "تحقيق اتصال جغرافي بين أراضي الدولة الفلسطينية" يؤكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامبأن "رؤيته تقدم فرصة رابحة للجانبين، من خلال حل واقعي بدولتين، يعالج المخاطر التي تشكلها الدولة الفلسطينية على أمن إسرائيل"، وهو لا يقف عند ذلك بل يضيف قائلا إن الدولة الفلسطينية المستقبلية" لن تقوم إلا وفقا "لشروط" عدة بما في ذلك "رفض صريح للإرهاب"...
ومع أنه يَعِدُ بأن تكون للدولة الفلسطينية الموعودة "عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية"، وبأن الولايات المتحدة ستقيم، في نهاية المطاف، سفارة لها فيها، فانه يكتفي بأن يقترح على الجانب الإسرائيلي، لا أن يطلب منه،تجميد بناء المستوطنات لأربع سنوات في المنطقة المقترحة لهذه الدولة.
وحتى يطمئن إسرائيل ويجازيها مسبقا على هذه الخطوة الكبيرة التي تخطوها نحو السلام بموافقتها على خطته فإنه يشدد على أن "القدس ستظل عاصمة غير مقسمة لإسرائيل"، وأن واشنطن "مستعدة للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على أراض محتلة" دون أي تحديد لحجمها او لمواقعها.
وفي مقابل إغداقه لكل هذه العطايا، مجانا ودون مقابل، على الجانب الإسرائيلي، فان خطابه للرئيس الفلسطيني محمود عباس راوح بين الوعد والوعيد، حيث قال إنه في حالة اختياره السلام فإن أمريكا وغيرها من الدول ستكون على أهبة الاستعداد لمساعدته على بناء الدولة الفلسطينية التي ما تزال في طور الغيب، وإن لم يفعل، فإن ذلك يعني أن الفلسطينيين سيواصلون العيش "في الفقر والعنف، والاستغلال من قبل من يسعون لاستخدامهم كبيادق لنشر الإرهاب والتطرف".
وما من شك أن الفلسطينيين الذين بادروا إلى إعلان رفضهم للخطة قبل إعلانها، وبعد إعلانها، لا يملكون في الظرفية الفلسطينية والعربية الحرجة الراهنة هامشا كافيا يمكّنهم من الاختيار الحر، ومن فرض حد أدنى من حقوقهم ومطالبهم المشروعة، غير أنه من الضروري أن يتذكّروا، عند تحديد موقفهم، أنهم والعرب جميعا انخدعوا، قبل ربع قرن من الآن، بدخولهم في المسار التفاوضي المغشوش الذي دشنه مؤتمر مدريد للسلام، وأن الولايات المتحدة الأمريكية أغرقتهم آنئذ بسيل من الوعود وخرائط الطريق التي تبين مع مرور الزمن أنها وعود وخرائط كاذبة زائفة، وهو ما أوصلهم إلى ما هم فيه اليوم من هوان على أنفسهم قبل الهوان على غيرهم، وأوصل اسرائيل إلى هذه الدرجة غير المسبوقة من الصلف والعربدة، والولايات المتحدة إلى هذه الدرجة من الانحياز الكلي الأعمى لسياساتها وتصرفاتها العدوانية الشرسة...
لذلك، فإن المؤمل في هذه المرحلة التي قد تشكّل انعطافة خطيرة وجوهرية في سيرورة القضية الفلسطينية وصيرورتها النهائية أن يحذر الفلسطينيون من أن يلدغوا من نفس الجحر مرة أخرى، وأن يبادروا بتوحيد صفهم المشتَّت، وبمراجعة مقاربتهم العرجاء، في غياب المقاومة، لقضيتهم العادلة حتى لا ينجرّواإلى ربع قرن آخر من المفاوضات العبثية التي لن تعيد لهم حقا ولن تلبي لهم حاجة...
ولعله من المهم أن يتذكّروا، في تحديد توجههم ووجهتهم، أنهم يقفون أمام رئيس لا كالرؤساء فهو كما سبق أن أسميته في إحدى مقالاتي "تاجر البيت الأبيض"، لأنه في سلوكه أشبه بتاجر البندقية في مسرحية وليم شكسبير الشهيرة، وهو كما يقول مارك فيشر كبير محرري صحيفة الـ"واشنطنبوست"، في مقال نشره قبل أيام تحت عنوان "بالنسبة إلى ترامب، العلاقات الخارجية ليست مبنية على الاستراتيجية، وإنما مبنية على الدفع نقدا": "إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتجاوز في سلوكه "التاريخ والمعايير والنتائج"... وأن قوته الكبيرة، وفي نفس الوقت فراغه المخيف، ينبعان، كما يتبين من المواقف والقرارات التي يتخذها في منطقة الشرق الأوسط، كما في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية، من نفس سمات شخصيته: إنه يعيش في اللحظة الآنية، وبالتالي فليس هناك ما يمنعه من اتخاذ إجراءات قد يخجل من اتخاذها قادة آخرون أكثر شجاعة منه (لأنهم يفكرون في العواقب). لقد سمح له تركيزه على منطق المعاملات (التجارية) في التعامل مع مختلف القضايا بالاستفادة من "نظرية الرجل المجنون" لريتشارد نيكسون، وهي الفكرة التي تقول إن أي رئيس يقبل أن يُنظر إليه على أنه قاس، ولا يمكن التنبؤ بقراراته، وربما على أنه معتوه، يستطيع أن يجبر العدو على تقديم تنازلات خشية التعرّض لهجوم شرس"./.
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق
إن شاء الله يكون زوالهما الأثنين ـــ الكيان الصهيوني و ترامب ــ عما قريب ..