أخبار - 2020.01.30

»عالبار« عـودة إلى مـلـحـمـة كـرويـة في سياق أزمة سياسية

»عالبار« عـودة إلى مـلـحـمـة كـرويـة في سياق أزمة سياسية

في زحمة الأحداث التاريخية وزخمها وكثرة الوقائع السياسية والاجتماعية التي تملأ الزمان والمكان، تمنحنا السينما الوثائقية فرصة لالتقاط الأنفاس وإجراء عملية فحص وتقويم، موضوعية أو ذاتية، لمعطيات وأحداث من الضروري توثيقها وتثبيتها، بعد تحليلها ومناقشتها، حتى يتيسّر معرفة الماضي وفهم الحاضر واستشراف المستقبل. فيلم »عالبار« لمخرجه »سامي التليلي« يندرج ضمن هذا السياق الذي يهدف إلى تقصّي الحقائق والبحث عن أفكار وطروحات جديدة من خلال التحرّي في صفحة من الذاكرة الوطنية يكتنفها الغموض والالتباس، في علاقة بأحداث 26 جانفي 1978 (أو ما يعرف بـ «الخميس الأسود») التي تزامنت مع الملحمة الكروية بالأرجنتين.

فيلم «عالبار»، فيما معناه «على العارضة»، يستنطق الذاكرة الجماعية من خلال البحث في كواليس الملحمة الكروية بالأرجنتين وتداعيات الصراع القائم بين المركزية النقابية والسلطة السياسية الحاكمة أواخر السبعينات، حيث اختار مخرج العمل أن يرمي بالكرة في ملعب السياسة من خلال التوغّل داخل أروقة السلطة وميادين كرة القدم في محاولة منه للإجابة عن سؤال شخصي راوده لفترة طويلة: «لماذا كانت والدته وهي مناضلة ونقابية سابقة، تمتنع عن مشاهدة مباريات المنتخب الوطني لكرة القدم أثناء تصفيات مونديال 1978؟»

يعيدنا الفيلم إلى فترة زمنية مثقلة بالأحداث السياسية والاجتماعية التي لم يعايشها المخرج ومع ذلك نجح في بسطها بطريقة فنيّة سلسة يسهل على الكلّ استيعابها، معتمدا في ذلك على شهادات حيّة لشخصيات سياسية ورياضية وإعلامية، فضلا عن الاستعانة بصور وتسجيلات فيديو نادرة من الأرشيف وقع تجميعها بعناية وحرفية عالية، وهو الأمر الذي يفسّر المدة الطويلة التي استغرقها إنجاز العمل (سبع سنوات).

هي تجربة ذاتية حاول من خلالها المخرج الخوض في تفاصيل منسيّة أو وقع تناسيها، وبقيت أسئلة صامته تدقّ ذهن من يتطرّق إليها وتشتّت أفكار من يبحث فيها، وربّما تكمن هنا بالتحديد نقطة قوة الفيلم الذي اعتمد بناؤه الدرامي على الربط بين موضوعين ﺃﻭ حدثين مختلفين يشتركان في الزمان والمكان، لكنّهما مع ذلك يختلفان كثيرا في النتائج والانعكاسات.

بين الابتهاج والإحباط وبعيدا عن الملل والجمود، يقدّم فيلم «عالبار» طرحا سينمائيا استثنائيا مثيراً للاهتمام، في شكل مقاربة طريفة للعلاقة بين كرة القدم والسياسة تسعى إلى تفكيك ملامح أزمة سياسية واجتماعية بلغت ذروتها عندما دعت قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل إلى إضراب عام في 26 جانفي 1978، رفضا لسياسات الحكومة وخياراتها في عهد «الهادي نويرة»، الأمر الذي أدّى إلى فكّ الارتباط بين المنظّمة الشغيلة والحزب الاشتراكي الدستوري وإلى اندلاع مواجهات عنيفة. في خضم «حالة الغليان» تلك، كان المنتخب الوطني لكرة القدم يكتب بأحرف من ذهب قصّة ملحمة كروية خالدة في تصفيات مونديال 1978، توجّت بالترشح إلى نهائيات كأس العالم وساهمت في تثبيت نوع من الهدوء الحذر والاستقرار النسبي في تونس، الشيء الذي كان كفيلا بتأجيل الدخول في صدامات واحتجاجات شعبية ضدّ السلطة.

ساهمت تلك الملحمة الكروية في استمهال الخصوم بعض الوقت ولكنّها لم تحل دون اندلاع أزمة وطنية وجد فيها الشعب نفسه رهينة بين طرفي النزاع واحتدم فيها الصراع السياسي والنقابي، بعد تعثّر المفاوضات، لتبقى كرة القدم المتنفس الروحي والجامع الوحيد لمجتمع وفّرت له هذه اللعبة مساحة مشتركة يلتقي فيها الفرقاء ويتوحّد أمامها الجميع رغم عمق اختلافاتهم وخلافاتهم.

الكرة والسياسة: أيّهما يحرّك الآخر؟

«عالبار»، مقاربة سينمائية حاول من خلالها المخرج إثارة فضول المتفرّج وتحفيزه على التفكير، لفكّ طلاسم فترة غامضة من تاريخ مفصليّ في الوعي الوطنيّ التونسي، من خلال الكشف عن تدخّلات السياسة في الرياضة واستغلال هذا الحدث الكروي لتضليل الرأي العام وصرف الانتباه عن أزمة عميقة بين الحزب الحاكم والمنظّمة الشغيلة. مأساة اليوم الأسود رافقتها نشوة شعب شغف بالفريق الوطني لكرة القدم، وسط صراعات وتوتّرات سياسية ونقابية، نجح مخرج العمل في أن يضيء بقعا سوداء فيها بعد أن وجّه الكاميرا نحو زوايا غامضة، لتبوح ببعض التفاصيل من دون الوقوع في فخّ المغالطة التاريخية أو التزييف والاختلاق.

وعلى الرّغم من أنّ الفيلم يصبّ في خانة الأفلام الوثائقية السياسية، فإنّه يتّسم بصبغة روائية تعتمد على بناء سردي تناوبي متوازن برؤية إخراجية وفنية ذكية، أضفت ملامح جمالية على ترتيب الأحداث وتسلسلها من خلال معالجة سينمائية بسيطة ومركّزة، وأسلوب ممزوج بروح الدعابة والسخرية،حيث كان الانتقال من لقطة إلى أخرى يتحدّد وفق وتيرة منتظمة ومتناسقة، في شكل عملية تفحّص وتقصّي الحقائق دون تدخّل أو تلاعب في مجرى الأحداث من خلال التأرجح بين الحاضر وتفاصيل الماضي للكشف عن معلومات جديدة وغير مسبوقة.

يزخر الفيلم بلقطات مكثّفة تختزل فيها التفاصيل وتبحث في عمق الأزمة لتفتح مغالق العلاقة المعقّدة بين كرة القدم والسياسة من خلال قراءة عميقة تربطنا بماضينا، وتزوّدنا بوقائع تاريخية نسقطها على حاضرنا لنتّعظ من التجارب السابقة. لكنّ المفارقة الطريفة في الفيلم، هي اعتماد المخرج صورا من الأرشيف ومن الحاضر ومزجها بشهادات حيّة لشخصيات سياسية عايشت تلك الفترة وكانت أيضا من بين الرموز البارزة التي طبعت الأحداث بعد الثورة مثل المرحوم الباجي قائد السبسي ومحمد الناصر وفؤاد المبزع والطيب البكوش ...

هذا التداخل بين عناصر الزمان في الفيلم، هو إشارة واضحة من المخرج إلى أنّ الصراع من أجل الديمقراطية يرجع إلى ما قبل الثورة بكثير ويمتدّ في حركة مستمرّة عبر الزمان والمكان دون توقّف..

حنان زبيس

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.