عامر بوعزة: كيف أسقطت النهضة حكومة الجملي
للمرة الأولى في تونس لا تحظى تركيبة حكومية أشرف على تشكيلها الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية بالثقة، وتعود المبادرة كما ينصّ الدستور إلى رئيس الجمهورية لاختيار شخصية أخرى تضطلع بهذه المهمة.
من حيث الأهميةُ التاريخية يعتبر ما حدث في مجلس باردو يوم الجمعة 10 جانفي 2020 اختبارا جديدا من سلسلة الاختبارات التي خضعت لها مؤسسات الجمهورية الثانية، وربما يكون الأخطر من نوعه بعد اختبار نقل السلطة في حال الشغور والذي تمّ عبوره بنجاح إثر وفاة الرئيس السابق الباجي قايد السبسي، لكن لئن كانت كل المؤشرات تؤكد على قدرة المؤسسات في تونس على اجتياز الاختبارات الصعبة بنجاح فإن حدث «عدم منح الثقة» سيكون منعرجا لافتا يفصل بين مرحلتين في تاريخ الحياة السياسية الديمقراطية. يؤكد ذلك الإعلان مباشرة إثر نهاية جلسة التصويت عن تكوين جبهة نيابية جديدة يفوق عدد أعضائها التسعين، وتتكون من «قلب تونس» و«تحيا تونس» و«حركة الشعب» و«الإصلاح الوطني» و«المستقبل». وقد حرصت هذه الأطراف التي شاركت في قطع الطريق المؤدية إلى القصبة أمام «الحبيب الجملي» على أن يتّسم خطابُها بالطّمأنة والتأكيد على توفّر خطط بديلة لتجاوز صعوبات المرحلة وعدم الذهاب إلى المجهول في إشارة واضحة إلى دور الرئيس المرتقب والاستعداد لدعمه إذ لا يرغب أحد في سيناريو الانتخابات السابقة لأوانها.
ومع الضمانات التي توفرها الآليات الدستورية والتحالفات النيابية المرنة لتجاوز أي مأزق سياسي من الضروري قراءة الأسباب التي أفضت بالوضع إلى ما صار إليه وحصر الأخطاء التي ارتُـكبت، ومن أبرزها ما وقع يوم 23 ديسمبر 2019 حين أعلن الحبيب الجملي عن اتجاهه نحو تكوين حكومة «كفاءات غير متحزّبة» في الوقت الذي كان فيه قيس سعيّد مجتمعا بأربعة من قادة الأحزاب في محاولة لإعادة قطار المفاوضات السياسية إلى سكّته، وقد يكون رفض راشد الغنوشي الاستجابة لمسعى الرئيس أبرز خطأ تكتيكي ارتكبته النهضة في سياق تشكيل حكومة لا يتوفّر لها حزام سياسي، ولا يمكن تأويل هذا التصلب الا بسوء تقدير من جانبها للدور الذي يمكن أن يقوم به حزب «قلب تونس» وإسقاطها إمكانية أي تقارب بينه وبين حزب «تحيا تونس»، وهو ما وقع في اللحظة الأخيرة تحت شعار «سلام الشجعان» على حد وصف نشطاء من الحزبين في وسائل الإعلام. أضف إلى ذلك أن وقوف الغنوشي في وجه مبادرة قيس سعيّد موقف لا يمكن وصفه بالحكمة، لا سيما أن الرئيس هو الطرف الوحيد الذي ما يزال يحتفظ بأوراقه كاملة، وسيستخدمها مدعوما بشعبية جماهيرية طاغية وثقة لا يتمتع بها غيره عندما تنتقل إليه دستوريا صلاحية اختيار رئيس حكومة إذا ما فشلت حكومة الجملي في نيل الثقة. ومن الواضح أن قادة الأحزاب السياسية المجتمعين حول طاولة الرئيس يومها التقطوا الرسالة المشفرة بشكل جيد دون أن يتمكّن الغنوشي رغم حنكته من استغلال الموقف لصالح حزبه.
ويأتي هذا التوتر الواضح بين حزب حركة النهضة وقصر قرطاج ليتوّج سلسلة من الأخطاء المتصلة هيكليا بالحركة ذاتها وآليات صنع القرار داخلها. وتعكس هذه الأخطاء الصراع الداخلي الذي تعيشه الحركة على وقع الاستعداد لمرحلة ما بعد الغنوشي والتي ألقت بظلالها على المشهد السياسي برمته ويمكن اعتبارها من أهم أسباب الهزيمة الديمقراطية التي حصلت بسقوط حكومة الحبيب الجملي في امتحان الثقة النيابية. يشهد على أزمة الحوكمة داخل الحركة موقف زياد العذاري النائب ووزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي عند استقالته من كل المناصب القيادية فيها وإعلانه في وسائل الإعلام معارضته الصريحة لمسار تشكيل الحكومة بل ونقده اختيار الحبيب الجملي لمنصب رئيس الحكومة. وهو أمر يشترك فيه العذاري مع معارضي النهضة، إذ يبدو قرار مجلس شورى الحركة في هذا الشأن دون انتظارات الناخبين وأقلّ من استحقاقات المرحلة.
لقد أفضت الانتخابات التشريعية إلى تركيبة نيابية معقدة ليست في صالح الأحزاب التي تتذرع بالمبدئية والثورية، ولم تتوفر لدى النهضة الشجاعة القصوى لاتخاذ أحد هذين الموقفين: إما الاستجابة لشروط «التيار الديمقراطي» والتنازل عن الحقائب السيادية الموجعة لخلق جبهة شعارها أولوية الإصلاح ومقاومة الفساد، وإما التحالف الصريح مع «قلب تونس» تحت شعار أولوية مكافحة الفقر. وقد اختارت في اللحظات الأخيرة من المشاورات الالتفاف على هذين الخيارين والذهاب إلى خيار «الاستقلالية» الذي فهم في الساحة السياسية على أنه خيار الانفراد بالسلطة وتشكيل حكومة إن لم تكن نهضوية فهي مقرّبة من النهضة مع إعطاء الانطباع من خلال التصريحات الصحفية لقياديي الحزب بوجود احترازات وتحفظات قصد إضفاء مصداقية أكبر على فكرة الاستقلالية وتسويقها، لكن هذا الخيار الثالث كان أقصر طريق إلى الفشل حيث تركت الحركة المجال واسعا للأحزاب السياسية كي تراجع مواقفها وتعدل خياراتها وتلتقي مجدّدا في اتجاه دعم الرئيس الذي كان واضحا أنه ينتصر لحكومة التوافق الحزبي.
وهكذا كان على راشد الغنوشي بسبب جملة من الأخطاء التي ارتكبها في حيز وجيز من الزمن أن يمرّ بأصعب اختبار نفسي ومعنوي في حياته السياسية عندما رفع الجلسة وهو يقول: «لم تحظ هذه الحكومة بثقة مجلس نواب الشعب».
عامر بوعزة
- اكتب تعليق
- تعليق