مشاورات تأليف الحكومة ... مُحاصصات ومقـايضات
في تونس تحتاج البلاد إلى خارطة طريق للإنقاذ، وأيضا لخبراء أكفّاء لعلاج التعطّل القائم في غالبية القطاعات، وليس إلى مناكفات بين أحزاب متصارعة على المواقع، مثل التي شاهدها التونسيون تحت قبّة البرلمان طيلة السنوات الخمس الماضية، وأصابهم الإحباط بسببها. ولا يكفي اختيار شخصية مستقلة لرئاسة الحكومة، بل يتعيّن تقديم حسن الأداء على معيار الانتماء.
غلب منطق المحاصصات على المشاورات الجارية لتأليف الحكومة الجديدة، في توجّه لا يدلّ على أنّ كثيرا من القوى السياسية استوعب الرسائل التي بعث بها الناخبون، من خلال نتائج الاستحقاقين الرئاسي والتشريعي الأخيرين. وأتت مُخرجات الانتخابات لتبرهن على أنّ التصويت كان تنفيسا عن ضجر ونقمة عميقين من الأحزاب، التي ملأت وسائل الإعلام بالكلام، وأغرقت البلاد في معارك سياسوية جوفاء. لذا يسود، لدى قطاعات واسعة من التونسيين، شعور بالملل، بل بالغيظ من تضخّم الأنا الحزبية، على نحو عطّل ومازال يُعطّل التقدّم نحو إنجاز الخطوات الدستورية اللازمة لاستكمال المؤسسات المنصوص عليها في الدستور، وفي مقدمتها المحكمة الدستورية.
الانتماء قبل الأداء
لا نستشـف من تصريحات المشاركين في المشاورات أنّ هناك قناعة بأنّ الوزارة عبءٌ ثقيل يعسُرُ حمله، وإنّما نشعر أنّها تُعتبر غُنما من مغانم الانتخابات. ولعلّ من المفيد أن نتساءل هنا: ما معنى أن تكون وزيرا؟ فهذه الكلمة مشتقّة من الوزر (أي الثقلُ أو الحملُ). وبحسب معاجم اللغة، اشتُقّت كلمة وزير من ذلك، لأنّه يحمل عن الملك أو الرئيس ثقل التدبير، فيقال وزر (بفتح الواو وكسر الزاء) للسلطان فهو وزير. أمّا في كتب العلوم السياسية فالوزير هو عون السلطة الحكومية الذي يرأس وزارة مــن الوزارات.
لكننا ابتعدنا عن المفهوم الأصلي لخدمة الدولة، بسبب قلّة الخبرة أو بدافع الترضيات الحزبية، فمنذ انتخابات 2011 إلى اليوم سادت المحاصصات، والنتيجة هي قطيعة تدريجية بين غالبية الأجسام الحزبية والجمهور، إلى حدّ أنّ الحزب الذي كان يستأثر بالمرتبة الأولى في المجلس المتخلي (68 مقعدا) تدحرج إلى المرتبة العاشرة بثلاثة مقاعد فقط. وأبصرت أحزاب عريقة أخرى مصيرا أكثر مرارة وقساوة. ويعود ذلك بالأساس إلى انكسار الثقة التي وضعها الناخبون في تلك الأحزاب. وفي المقابل برهن الناخب التونسي على أنّه لا يتردّد في استخدام الصندوق وسيلة للعقاب، بل والانتقام القاسي عند الاقتضاء.
مع ذلك، مازال الهمّ الأول لغالبية الأحزاب الآن هو التفكير في الكراسي. أين البرامج؟ أين الرؤية التي ترسم مسار النهوض الاقتصادي، وتقدّم بعض الحلول للاختناقات التي تشلّ الدولة وتفتّ من عضدها؟ بدل ذلك نلاحظ في «مشاورات» تأليف الحكومة سيطرة المقايضات والمساومات والمزايدات، وكأنّنا في سوق مزاد.
ما معيار الانتقاء؟
انطلق البازار مع مطالبة أحد الأحزاب بالاستحواذ على ثلاث وزارات رئيسية، فغاص المفاوضون الآخرون معه في مستنقع الأخذ والعطاء. والأرجح في إطار هذا المنطق، أنّ معيار الانتقاء ليس توسّم حسن الأداء في المرشحين للتوزير، وإنّما هو الانتماء الحزبي. وهذا ما سيُشجّع على المُضيّ في السياحة الحزبية، التي زعموا أنّهم سيقضون عليها. هذه الظاهرة لا يمكن محاربتها سوى بالعودة إلى النظام الانتخابي، الذي أثبت حدوده وتنبغي مراجعته، وهو المبني أساسا على القائمات الحزبية. وبتعبير آخر فإنّ الاحتكام إلى صناديق الاقتراع مرّة في كل خمـس سنـوات، لا يصنع وحده ديمقراطية مستقرّة. لنُلق نظرة إلى الأحزاب في بلد عريق في الديمقراطية مثل ألمانيا، حيث تتكوّن عادة حكومات ائتلافية. انظروا كيف يعتمد النظام الانتخابي على المزج بين النسبية والأغلبية، إذ يملك المقترع صوتين، الأوّل يُدلي به لاختيار نائب في مجلس النواب، عن المقاطعة التي يقيم فيها، بطريقة المقاعد الفردية. أمّا الصوت الثاني فيدلي به وفق نظام الانتخاب بالقائمات، لملء باقي مقاعد المجلس. ولا يُعطي هذا النظام المزدوج الأغلبية المطلقة لأي حزب سياسي، في معظم الأحيان، ممّا يفرض اللجوء إلى تشكيل تحالفات.
مؤسسات رديفة
ومن نقاط القوة في هذا النظام أيضا الاعتماد على مؤسسات قريبة من الأحزاب Fondations، تُعتبر بمثابة مدارس تكوين سياسي، إذ تستقبل الشباب المنخرط في العمل العام، فتؤطّره وتدربه، وبهذه الطريقة يكون لدى كلّ حزب كوكبة من الإطارات المؤمنة بخياراته والمدافعة عن زعاماته. وبفضل هذه المنظومة لا يعرف البرلمان في ألمانيا السياحة الحزبية، مع العلم أنّ الدولة هي التي تمنح التمويل لتلك المؤسسات، بحسب حجم الحزب في البرلمان، لكي تُبعد الأحزاب عن إغواءات الفساد.
أمّا في المساومات الجارية حاليا لتشكيل الحكومة، فنلاحظ وجود اتجاهين متضادين: هناك الأحزاب التي تمارس الابتزاز على الحزب المكلّف بتأليف الحكومة، انطلاقا من أنّ الأخير لا يملك أغلبية في المجلس الجديد، وهي تطلب الحصول على مواقع أكبر من حجمها. وهناك في الجهة المقابلة حزب يعتقد كثيرٌ من قيادييه أنّه لم يأخذ فرصته في الحكم، بالرغم من أنّه الحزب الوحيد الذي ظلّ واضعا قدما راسخة في مؤسّسات الدولة مع تعاقب الحكومات منذ 2011، بلا انقطاع.
برنامج مشترك
وفي التجارب العالمية ترتبط الحكومات الائتلافية ببرنامج مشترك يكون أرضية للعمل الحكومي، أسوة بتحالف اليسار في فرنسا، على عهد الزعيم الاشتراكي فرانسوا ميتـران، الذي انبنـى على ما سُميّ آنذاك بـ«البرنامج الموحّد». وبمقتضى الاتفاق على البرنامج، أخذ كلّ مُكوّن من مكوّنات الجبهة موقعا متناسبا مع حجمه لتنفيذ أهداف البرنامج.
في تونس تحتاج البلاد إلى خارطة طريق للإنقاذ، وأيضا لخبراء أكفّاء لعلاج التعطّل القائم في غالبية القطاعات، وليس إلى مناكفات بين أحزاب متصارعة على المواقع، مثل التي شاهدها التونسيون تحت قبّة البرلمان طيلة السنوات الخمس الماضية، وأصابهم الإحباط بسببها. ولا يكفي اختيار شخصية مستقلة لرئاسة الحكومة، بل يتعيّن تقديم حسن الأداء على معيار الانتماء.
وإذا كان صحيحا أنّ المشاورات لتكوين حكومات ائتلافية تستغرق عادة أسابيع، وأحيانا أشهرا، فمن المهمّ أوّلا ألاّ يكون منطلقُها تقاسم الكعكة وترضية هذا وذاك، وثانيا ضرورة الإسراع بإنهاء التشاور، نظرا لضغط التحديات الاقتصادية والاجتماعية، التي لم تعد تحتمل مزيدا من التأجيل.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق